*بروين حبيب
ينتشر خبر زواج اللبنانية سابين غانم بمليونير أجنبي كما النار في الهشيم، تنقل الصحافة اللبنانية خبر هذا الزواج وكأنّه إنجاز وطني، تماما كزواج أمل علم الدين بالنجم الأمريكي جورج كلوني. وهو الزواج الذي يطرح أسئلة كثيرة، تتعلّق بقدرة المال على طمس كل الحساسيات الطائفية وتغيير أعراف المجتمع.
في وقت مضى تزوج عملاق الشعر سعيد عقل، رحمه الله، حبيبته الدرزية سعاد أبي صالح، ولم ينجح الأمر، فالطائفة الدرزية من أكثر الطوائف انغلاقا على حالها، وتردد أن الزواج لم يتم فانتحرت، وتردد أنها قتلت.. لكن الحقيقة ظلت حبيسة أسوار الطائفة، كما ظلّ سعيد عقل أعزب إلى أن توفي عن عمر الـ100 وسنتين.
زواج غسّان التويني بنادية كان سمفونية عشق لولا اللعنة التي ألمت بهما، ماتت باكرا وفقد أولاده الواحد تلو الآخر، وعاش حتى تجاوز الثمانين، لكنّه جعل من نادية أيقونة أدبية يحتفى بها في لبنان في مناسبات عدة، خاصة في ذكرى وفاتها.
ما أريد قوله إن الإعلام أحيانا لا ينصف الإنسان، فذكر طائفة المشاهير تتم في الداخل اللبناني، تماما كالوضع السياسي، ولكنّها تنمحي حين يصبح الأمر بحجم خبر زواج سابين بمليونير أمريكي، أو أمل بجورج كلوني، يُختصر الخبر بأن الزوجة لبنانية!
تذوب الطائفية تماما عند صياغة الخبر الذي تصدّر حتى بعض نشرات الأخبار، وهذا شيء يحلم به لبنانيون كثيرون لأن يصبح واقعا يوميا لكنّه لا يحدث.
في الخليج نرى هذا الاحتفاء الإعلامي غريبا، لأن النساء اللواتي يتزوجن أصحاب الملايين كثيرات، وهو زواج في النهاية لا يختلف عن زواج أي اثنين في العالم، قد ينجح وقد لا ينجح، ولا شيء يميز زواجا عن آخر سوى «بهرج» العرس الذي تمتلئ به الأفواه لفترة ثم ينطفئ.
لدى مجتمعاتنا الإسلامية الاحتفاء بزواج مثل هذه الزيجات اللبنانية غير وارد، بعض الزيجات تتم حين تختلف طائفتا الزوجين بصمت وكأنّ الأمر يتعلّق بفضيحة، خاصة إن كانت المرأة مسلمة والرّجل مسيحيا، ففي المفهوم العام هذا الزواج غير شرعي ويعتبر خطيئة.. والمؤسف والمؤلم أكثر حين يعتنق الرّجل الإسلام، لكن (اجتماعيا وإعلاميا) يظل الرّجل مسيحيا، وزوجته خاطئة إلى الأبد … لا احتفاء بإسلام الرجل الذي يأخذ «ابنتنا».. لكن الأمر يكون أخفّ وطأة إن كان الرجل ثريا جدا، ويغرق من حوله من أقارب الزوجة ومعارفها بكرمه. حتى رجال الدين يباركون زيجات معينة سرا، ويحاربون زيجات أخرى بكل ما أوتوا من قوة حسب الوزن المادي والسياسي للعريس. يشرّعون، ويفصلون «الحلال» حسب رغباتهم الذكورية الخفية.. حتى أصبح الزواج عندنا اليوم لا يختلف عن المساكنة الغربية، إلا في إهدار حقوق المرأة عندنا وسحقها واستبدالها بسهولة يحلم بها الغربيون ولا تتحقق لهم بسبب قوانينهم الصارمة. هل سمعتم برجل دين انتفض لدى إعلان زواج أمل وسابين اللبنانيتين؟ بالطبع لا… وهذا بالضبط ما يمكن أن نسميه «صمت القبول»… وهو صمت صادر عن تكميم الأفواه بقوّة المال .
في البوسنة وبعد عشرين عاما من الحرب والتقسيم، يواجه المتزوجون من طوائف مختلفة تمييزا عنصريا يسيء لأولادهم، وهذا يثير التساؤل: «كيف فُكّك العقل الأوروبي وأصبح مثلنا مع أنّه بعد الحرب العالمية الثانية قام بمجهودات جبّارة لترميم نفسه وتحصينها من الانزلاق في مطبّات الحروب الدينية وما شابه؟ «. أطرح هذا السؤال لأننا دائما نعتقد أن العلّة في هذه التقسيمات من عيوب عروبتنا؟
وإن كانت حكمة مجتمعاتنا تقول: «كل ما يعجبك والبس ما يعجب الناس»، فإن الواقع أكثر تعقيدا لأن الناس لا يرضيهم العجب العجاب، وكان الأحرى أن تكون حكمتنا كالتالي «كل ما يعجبك، والبس ما يعجبك»، فحريتنا تنتهي حين نبدأ في محاولة فاشلة أن نرضي الناس. نخلق القيود من حيث لا تكون وندخل في المنظومة المحكومة لا الحاكمة. وإن كان البعض يعتقد أن المساواة تبدأ بتوحيد المعتقد الديني والسياسي واللباس، فإن هذا المبدأ انهار تماما مع أنظمة متوالية أرادت أن تبرمج الإنسان على نسق الآلة، فانضغط حتى انفجر مرة واحدة.
لنعد لموضوع الطائفية والمال…
وسنكتشف بدون كثير من التفكير أن الفقير جدا والثري جدا كلاهما لا يأبه لا للدين ولا للطائفة، وكلاهما يمارس حياته بكل المعصيات التي يجيزها الفقر أحيانا ويجيزها المال أحيانا. الزنا مثلا، رفاهية للأثرياء، ويستحيل أن يحارب المجتمع ثريا يتمختر مع عشيقاته حتى علنا، بل أصبحت العشيقة أكسسوارا ضروريا لكل ثري، وهي صفة تزيد من احترام الرجال له (سرًّا)، وتزيد من تعاطف النساء معه (علنا يا للعجب) معتقدات لسبب أو لآخر أنه رجل مظلوم لأنّه تزوّج «وحدة بشعة ومش من مستواه»، وإن كانت ملكة جمال يسارعن بالحكم عليها أنها «حمارة» مع احترامي لكل من «تحمرنت» وصدقت أنّها المرأة الوحيدة في حياة رجل.
الزنا «مهنة « لفئات فقيرة جدا، تلجأ إليها النساء ببيع أجسادهن، وزبائنهن في الغالب رجال يلعنون العاهرات يوميا، ويحتقرونهن لدرجة لا يمكن تخيّلها، لكنهم يستحيل أن يعملوا على القضاء على الظاهرة وإنقاذهن من الفقر… ففقرهن سبب متعتهم السرية، كما أنّه مصدر دخل لأخوتهن الذكور وآبائهن أو أزواجهن حين يغضون البصر عمّا يفعلن أو يزجونهن زجًّا في هذه المهنة. الطبقة التي تهتم بالشرف والكرامة وكل القضايا الخاسرة في العالم هي الطبقة الوسطى.. ولأن هذه الطبقة أصبحت مزعجة فأعتقد أن كل هذه الحروب تقوم دوما لتدميرها لتمضي الحياة كما يريده الأثرياء ويتقبله الفقراء، ففي نهاية الأمر الثراء كافر تماما كما الفقر كافر.
وأنا في الحقيقة لست ضليعة في التحليل الاجتماعي، لكنني توصلت لهذه النتيجة التي توصل إليها نعوم تشومسكي بطريقته حين قال: «باختصار ليتسنى لنا أن نسيطر على الشعوب علينا أولا أن نفصلهم عن بعضهم بعضا، وحين يصبحون أقليات معزولة لفترة طويلة يمكننا إقناعهم بأي شيء».
تختصر مقولة تشومسكي ما نعيشه، ولكن قبل ذلك نحن نرى ولا نتعظ ، نتابع ولا نتأمّل، ونعيش التجربة تلو الأخرى ولا نتعلّم الدّرس.. حتى أننا نُبقي صورة برّاقة أمام أعيننا تخفي واقعنا الحزين، فنهلل لعرس لا يعكس أبدا كل قناعاتنا، ونحتفي به بحفاوة بالغة فيما في اليوم نفسه يشهد لبنان جريمة أخرى ضحيتها زوجة قتلها زوجها ومظاهرات قامت بها جمعية « كفى» لحماية النساء من عنف أقاربهن.
لست أنتقد العرسان، بالرفاه والبنين إن شاء الله، لكنني أنتقد الصورة التي نحملها مثل واجهة تغطي بؤسنا، ونعتبر أي محاولة لكسر الواجهة تشويها لصورتنا أمام العالم..
وعلى كل إن كان المثل يقول «سيط غنى ولا سيط فقر» فإن «السيط» ما عاد ينفعنا، نحن أمّة نخرها السّوس، لكنها تختبئ في علبة مزخرفة وتغني موّال الأندلس منذ مئات السنين.
وللحديث بقية إن شاء الله
______
*القدس العربي
شاهد أيضاً
فرويد وصوفيا في جلسة خاصة
(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …