الشجرة المتحركة

خاص- ثقافات

*مريم لحلو 

وللسفر من منطقة نائية في الجنوب إلى أخرى في الشرق قصة طويلة.. بل طويلة جدا طول المسافات بين محطات البشر التي تختصرها الفراشات والعنادل  والسحالي …لقد واصلت مدينتي نموها في النسيان جنب موجتين عاشقتين تتعانقان تحت أنظار عسس الحدود. وعلى مرمى قبلة طائرة بين ضفتين تحلمان بلقاء يذكر بقصص الحب العربية المستحيلة.. ولكي تصل  إليها من اللازم عليك مصاحبة القطار الذي كان آباؤنا يسمونه ” الماشينة”  أي الآلة .. فهو آلة عملاقة تمضغ ببطء لعين الوقت و كل تلك الفيافي  التي تشقها سكة حديدية أشبه بنصل  صدئ يقطع في عنف السهوب الواسعة الغارقة في الغبار والتيه فتتدفق بلامبالاة على الجانبين كجسدين منذورين للعنة أبدية ..وأنت تتأمل هذه الصحراء تتصور للحظة سديم إبراهيم الكوني وأساطير الصحارى وهوس الاغتراب والخوف ..وقفزات الغزلان و الودّان العصي على الترويض ..ولكنك لاترى شيئا غير وجهك الذي انعكس عليه عبوس  القفار .. ولأن المسافة طويلة بسكة يتيمة من عهد المعمرين  كان يجب تغيير الماشينة من الكهربائية الخاصة بالجهة النافعة إلى أخرى خارجة من التاريخ غير النافع .. ولأننا أيضا غير نافعين كان علينا أن ننزل بكامل أمتعتنا إلى الرصيف ثم نتفرق  ليمعن كل واحد منا في عزلته الاختيارية رفقة هاتفه الخاص.
أي هاجس غريب دفعني إلى دخول المحطة عوض البقاء بين مجموعتي على الرصيف لأكمل سمفونية الصمت والابتسام الشاحب للشاشات الصغيرة؟ عندما ولجت تلك المحطة هالتني شساعتها وأبهتها المخيفة في ذلك القفر، كما انزعجت من التكتكة الرتيبة لساعة كبيرة معلقة في الفراغ.
فجأة ،امتلأ البهو الفسيح  للمحطة بالكثير جدا من المسافرين ، فلكأنما نبع هؤلاء البشر من الأسقف والجدارن أوتداعوا علي من كل فج عميق .. لم أنتبه إلا بعدما صرت في دائرة مغلقة. في أقل من ثانية مرت في ذهني مئات اللقطات المتناقضة لأفلام رعب متقنة الصنعة ولصور غائرة الندوب في الطفولة وربما قبل الولادة ..ومن دون شك أن هرمون الأنديرلانين فعل فعلته فوجدتني متحفزة مستعدة للدخول في عراك مع الجن أنفسهم … ولكنني تصنعت رباطة الجأش فنظرت إلى هذا الجمع الغريب واحدا واحدا.. وتعجبت من أنهم  كانوا جميعهم بأيد مجزوزة إلى المرافق وأرجل قصيرة جدا تطوع أحدهم ليجيب عن سؤال لم أطرحه:
– تلك الأطراف باتت فائضة عن الحاجة فما عدنا نستعمل الأيدي بفضل هذه التكنولوجيا التي تحتاج لأصبع وحيد للنقر.  وهو كما ترين هو متوفر في الطرف الأعلى من الذراع ..ونفس الأمر بالنسبة للأقدام٠ الأكيد أنك ذكية بما يكفي لتعرفي أن كل مافاض عن الحاجة تنبذه الطبيعة ..فما حاجتنا لأيد وأرجل طويلة؟؟  فقد تجاوزنا مرحلة الالتقاط من زمان.  ثم الإنسان المعاصر كما تعلمين يحتاج فقط إلى دماغ نظيفة .. لذلك تلاحظين كبر رؤوسنا ،وضمور جذوعنا.. حتى الأكل ماعدنا بحاجة لأكلات تقليدية .. فقط حبوب مغذية وبعض الأمصال فلا وقت لأحد كي يزرع ويحصد .. فالكل  في شغل شاغل  بالحواسيب وبالهواتف الذكية ….
ثم تساءل أحدهم سؤالا أعاد الفزع إلى روحي:
ثم أين كنت أنت لتفلتي من سنة التغيير والتطور؟ ألا ترين أنك تشبهين شجرة متحركة تنوء بكل هذه الفروع والأغصان؟
للحظة بدا لي كلامه منطقيا فأنا حقا النشاز الوحيد بينهم . عندما بدا له اقتناعي مد لي بطاقة أشهر الأطباء المختصين في مثل هذه الحالات ..ثم رمشت لي عيونه بطريقة ودية.. ولكنه لما رآني لا أتوجه لباب الخروج نحو مدينتهم تغيرت سحنته وبدت عيناه كلهب تلعب به الريح  فهرولت نحو رصيف المحطة. وللأسف الشديد عوض أن أجدني صحبة رفاق رحلتي وجدتني عارية مغطاة بإزار عشبي اللون في غرفة عمليات مجهزة بأحدث التجهيزات تتحرك فيها ممرضات كدميات عملاقة  بعيون باردة تشبه عيون ” الماشينة” التي سلمتني إليهم وطبيب بشري وحيد يعتمر طاقية خضراء.. وقد غمرت المكان رائحة لمكان محبب غاف في الذاكرة .. ذكرى لا تتناسب مع الحدث الفظيع الذي سينكل فيه هؤلاء الغرباء بجسدي .. طلب مني صوت ناعم كصوت العلبة الصوتية أن أعد من واحد إلى عشرة بعد أن حقن ذراعي ..عندها انتبهت إلى أن الطبيب الجراح كان بأغصان وفروع كثيرة مثلي حاولت الاحتجاج ولكن الوقت كان قد فات .. فقد كان الضباب يغطي إدراكي كأجنحة عملاقة مفرودة لطيور الحزن الرمادي في استعراضاتهاالعجيبة عند توديع الشموس.  وأحسست وأنا أرزح تحت ظلال العتمة بالمناشير الكهربائية تجز أغصاني غصنا غصنا ،وتهصر أعشاش العصافير ،وقفير النحل ،وموطن الفراشات بين خصلات الشعر و تيجان الزهور…

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *