*محمد إسماعيل زاهر
في روايته الأخيرة «العدد صفر» يقذف بنا أمبرتو إيكو إلى قلب «فن الكذب»؛ ذلك المفهوم، الذي حلله جاك دريدا بإسهاب في كتابه «تاريخ الكذب». يشيد إيكو في تلك الرواية الصغيرة، 170 صفحة من القطع المتوسط، متاهة يتجول بك داخل دهاليزها المختلفة، ليتحول من كذب تمارسه وسائل الإعلام يومياً على البشر، إلى أكاذيب تاريخية رددناها حتى أصبحت من المسلمات، وبجانب كل هذا هناك الشخصيات التي تكذب على بعضها بعضاً، ومن كذبة إلى أخرى يبني إيكو عالمه الذي يسخر منه أحياناً ويهجوه بشدة وبقسوة في أحيان أخرى.
«جريدة الغد»، صحيفة يؤسسها أحد رجال الأعمال يرغب في غسل أمواله، ويكلف الدكتور سيماي بذلك، الذي بدوره يستدعي مجموعة من المتخصصين والصحفيين للعمل على إصدار «العدد صفر»، وفي الاجتماع التمهيدي لإصدار الجريدة، التي لن تصدر أبداً، نشاهد مجموعة من الشخصيات، التي يوظفها إيكو في بناء عالمه الروائي.
كولونا بطل الرواية الأساسي، كاتب الظل، أو من يكتب للآخرين رواياتهم البوليسية «الفاشلة» باعترافه هو، ويهدف من ذلك إلى أن يملأ جيوبه بالمال، يخبرك أنه يكفيك قراءة رواية بوليسية واحدة، حتى تمل من هذا النوع من الروايات، ويخبر الدكتور سيماي في أحد مشاهد الرواية أن الجريدة لابد أن تخلو من عروض الكتب، فالجمهور لا يقرأ، وعندما يقترح أحدهم إنشاء صفحة ثقافية في الجريدة يقول بمنتهى الأريحية: «من يقرأ الكتب التي تتحدث عنها الصحف؟، في العادة لا يقرأها حتى من كتب عنها، اللهم إلا من كتبها، وليس ذلك مؤكداً، وعند قراءة بعض الكتب يبدو أحياناً أن كاتبها لم يقرأها». وهناك مايا فريزيا صحفية تعمل في مجال البحث عن أخبار النميمة بين المشاهير، أما كامبريا فصحفي متخصص في أخبار الجريمة. أما المدعو لوتشيدي «فقد كان يوحي بالثقة من أول نظرة وشارك في منشورات لم يسمع باسمها أحد»، وسنكتشف بعد ذلك أنه يعمل مع جهات مشبوهة، وهناك أيضاً رومانو برغادوتشيو متخصص في الفضائح، وكوستانتسا عمل في السابق كمراجع في بعض الصحف.
يختار صاحب «جزيرة اليوم السابق» شخوصه بعناية، وهم جميعاً يفكرون في إصدار جريدة مميزة، تختلف عن السائد في السوق، جريدة لا تقتصر على الأخبار فقط، التي تبثها الفضائيات في لحظتها، لكن جريدة تتوقع الخبر، وربما تصنعه ومن هنا اسمها «الغد»، وتفرد مساحة أكبر للرأي والتحليل. ولا مانع لدى سيماى من كتابة عشرات الموضوعات حتى لو أدى الأمر إلى إصدار 12 عدداً تمهيدياً يراهم صاحب الجريدة قبل طرحها رسمياً في السوق.
لتحقيق هذه النتيجة ومن خلال الحوارات والنقاشات، يعطينا إيكو درساً يعرفه جيداً كل العاملين في الصحافة، فهناك الموضوعات التي يجب أن يوافق عليها صاحب الجريدة نتيجة لميوله الفكرية والسياسية وعلاقاته بمراكز صناعة القرار، وهناك أيضاً مصالح للمعلنين المتوقعين، والجهات التي لا يجب أن يعمل الصحفي على إغضابها، وهي في إيطاليا التسعينات كثيرة، منها: الأحزاب والشخصيات النافذة في الحكومة والمافيا..الخ. بعد مراعاة كل هذه الأبعاد يأتي دور الجمهور، من خلال سؤالين إشكاليين يطرحهما مؤلف «اسم الوردة» علينا: ما الذي يريده الجمهور؟، ومن الذي يوجه الآخر: الجمهور أم الصحافة؟، ويرسم إيكو صورة ذات مغزى لهذا الجمهور، الذي لا يعنيه أي شيء في الحياة سوى تخفيض الضرائب ثم الرياضة فقليل من الفضائح والنميمة. ولا يترك إيكو قارئه دون أن يكمل درسه في الصحافة؛ حيث يغوص في أدق تقنيات العمل الصحفي، فهناك حساسية من الجمهور تجاه بعض المفردات التي يجب أن يستخدمها الصحفي، ولذلك لابد أن يكون على وعي بها، وهناك تلاعب الصحفي بالخبر، فهو يستطيع إبرازه من خلال العنوان ومكان ومساحة النشر والصورة المرافقة، وحتى من خلال تقنيات اللغة ومفرداتها والمتابعة المستمرة، وهناك الرقابة الذاتية، والقدرة على نشر شائعة، ولا يترك إيكو حتى صفحات طلبات الزواج والوفيات دون يقول رأيه فيها.
في «العدد صفر» يواصل إيكو ولعه بلعبة القوائم تلك التي خصص لها كتاباً مستقلاً «لا نهائية القوائم»، فضلاً عن ظهورها في مختلف كتبه ورواياته الأخرى، وهنا بعد أن يعدد إيكو المحاذير التي لا يجب على الصحفي الوقوع فيها، لا يجد العاملون في «الغد» أي موضوعات تصلح للكتابة، فمعظم تلك الموضوعات إما يتحفظ عليها سيماي أو يرفضها، أما الموضوع الوحيد الذي نتابع وقائعه الصحفية في الرواية فينتمي إلى ذلك الأفق الذي يهيمن عليه جماعات تحكم العالم في الخفاء، وهي جماعات عبر إيكو عن ولعه بها أيضاً في أكثر من رواية، وهنا تبدأ متاهة إيكو أو عشقه لسرد التاريخ من وجهة نظر أخرى أو حبه لبحث موضوع المؤامرة ووضعه على طاولة الاختبار الروائي.
الثيمة الموازية في الرواية، بخلاف هجاء الصحافة، تتمثل في ذلك التقرير، الذي يخبر برغادوتشيو سيماي كاذباً أنه يعده عن عوالم المهمشين لينشره في الجريدة، لكنه في الحقيقة يعد تقريراً غامضاً، يشتغل عليه صاحبه في سرية وتكتم، مؤداه أن موسوليني لم يقتل في نهاية الحرب العالمية الثانية، لكن برغادوتشيو يخبر القصة لكولونا في إحدى السهرات، وهذا الأخير يعتقد أن الأول صاحب خيال متقد، لكن برغادوتشيو وكعادة إيكو يورطنا وعبر صفحات كثيرة في أحداث وكتب وتقارير صحفية قديمة تثبت أولاً أن الدوتشي لا يزال على قيد الحياة، في أواخر حقبة التسعينات من القرن الماضي، وفي حوار مطول آخر يتوصل برغادوتشيو إلى وفاة الدوتشي في الأرجنتين في ستينات القرن العشرين، وهنا يسحرك إيكو بعالمه المفضل، فبين الطرقات الضيقة والكنائس القديمة والعوالم السفلية للمدن، والمعلومات الطبية والتفاصيل التاريخية..الخ، تتجمع خيوط يغزل منها إيكو قصة يذهب فيها إلى أن من قتل في الحرب العالمية الثانية شبيه موسوليني، وأن مصلحة جميع الأطراف، وهم بالعشرات..أجهزة أمن ومخابرات ورجال دين وجماعات سرية، إضافة إلى ثوار يمنيين، كانت في الإبقاء على حياة الدوتشي، وتشارك جميع هؤلاء في صناعة منظمة «غلاديو» السرية التي كان يتم تأهيلها لتحكم إيطاليا بقيادة موسوليني لوقف المد السوفييتي، وبعد رحيل الدوتشي في الستينات كانت تقوم بأعمال عنف وجرائم سياسية، لتمهد البلد لحكم اليمين المتطرف، في صورته الفاشية، في حالة ما مالت كفة السياسة يوماً ناحية اليسار.
تختتم الرواية ببرغادوتشيو مقتولاً، وسيماي يخبر كولونا بأن صاحب الجريدة قرر عدم صدورها، وهناك شكوك قوية من قبل كولونا في لوتشيدي الذي صوره السرد في أكثر من مشهد بالشخصية الغامضة التي يرهبها الجميع، ثم رعب كولونا من احتمال قيام الجهة التي اغتالت برغادوتشيو بقتل كل من يعرفون أي شيء عن منظمة غلاديو، ثم فراره مع مايا؛ حيث كانت قد نشأت بينهما قصة حب، إلى مكان معزول؛ حيث يرفض الخروج من المنزل، ولا ينهي إيكو الرواية إلا بمواصلة اللعب والسخرية، ففي وسط حالة الهلع التي يعيشها كولونا تبث «بي.بي.سي» برنامجاً وثائقياً مطولاً للمرة الأولى عن منظمة «غلاديو» يتضمن كافة التفصيلات التي كان برغادوتشيو قد حكاها لكولونا. وبعد أن تقنع مايا كولونا لكي يتخلص من خوفه ويخرج من المنزل يؤكد لها أن العالم كله مملوء بالخوف والكذب، يقول: «العالم صار كابوساً».
رواية إيكو الأخيرة التي صدرت للمرة الأولى في 2015 قبل رحيله بعام واحد، وترجمت إلى العربية منذ أشهر قليلة، ساخرة حتى البكاء، يضع قارئه فيها أمام كم ضخم من المعلومات التي لا تهدف إلى تأييد وجهة نظر الكاتب وحسب، لكنه يسعى أيضاً من ورائها إلى اللعب على ذلك الوهم الذي نتنقل خلاله وبسهولة بين: الواقع والخيال، الرواية والحياة، الحقيقة والكذب، ولا يهمه من مناقشتها أن ينحاز إلى هذا الطرف أو ذاك من الثنائية، وهي لعبة مارسها إيكو قبل ذلك في كتابه «تأملات في السرد الروائي»؛ حيث تجول بنا في شوارع أوروبية دارت فيها وقائع روايات أعلام هذا الفن في القرن التاسع عشر، يصفها بالتفصيل من واقع الروايات، ومن واقع خرائط البلديات، وكتب التاريخ، ثم ينقلك مباشرة إلى الشوارع نفسها في الوقت الحاضر، فالمكان هنا بين الواقع والسرد، وهمي، وكذلك هناك حالة من السيولة الزمنية، بين الماضي والحاضر. وبلغ ولعه بهذه اللعبة أن اختبرها في المشاعر الإنسانية، ففي كتابه «اعترافات روائي ناشئ» يؤكد أننا نبكي لمشهد مؤثر في إحدى الروايات أكثر من انفعالنا بالمجازر التي نشاهدها يومياً عبر مختلف الفضائيات.
يربك إيكو متلقيه، فما هو راسخ بداخلنا تجاه حقيقة من الحقائق ربما يكون كذبة كبيرة شارك في صناعتها وترويجها جهات وأطراف حولت العالم تدريجياً إلى كابوس. في «العدد صفر» يتبنى مبدع «اسم الوردة» ما ذهب إليه جان بودريارد من أن حرب الخليج الثانية لم تقع، وهو رأي يرد على لسان أحدهم متبوعاً بمعلومات وتحليلات لصور الحرب، تكشف القدرة اللانهائية على التلاعب بعقولنا من خلال الصور، وفي الرواية رؤى أخرى تتعلق بهتلر وماوتسي تونغ وجهاز الاستخبارات الأمريكية.
أين الحقيقة؟، وكيف نميز الصدق من الكذب؟، وهل هناك مسلمات في الحياة؟، لقد اختار إيكو وسائل الإعلام في روايته الأخيرة بوصفها بيئة مثالية لاختبار هذه الأسئلة، والسخرية في الرواية تبدأ من كذبة/ مفارقة، فالمفارقة بمعنى ما هي كذب أيضاً، أن أحدهم يريد غسل أمواله، عبر تأسيس صحيفة، وحتى الشخصيات المختارة للمساهمة في إصدارها، هي شخصيات تمتلك بحكم عملها السابق قدرة ما على الكذب: كاتب ظل، صحفية نميمة، شخصية غامضة وبرغم كل ذلك لا يجدون ما يكتبون عنه نتيجة لقائمة طويلة يدخل فيها حساب المصالح والرقابة وعلاقات القوى..الخ. والمفارقة الثانية تتمثل في أن الصحيفة التي سعى القائمون عليها إلى استشراف الحدث أو المشاركة في صناعته وإعطاء الأولوية للتحليل والرأي، تغلق بسبب موضوع يقوم به أحد المحررين، من وراء ظهر رئيسه، حول مسألة تاريخية، فالتاريخ هنا يطارد الراهن وينتقم منه عبر سلاح الكذب؛ وحيث يصبح السؤال الأساسي في الرواية: ماذا لو كنا نعيش في كذبة كبيرة أو في سلسلة من الأكاذيب؟، التي تشكلت في الماضي واستثمرها ويستثمرها أصحاب المصالح للهيمنة على البشر وتحويل حياتهم إلى كابوس، هنا لا مفر أمامنا ولا مكان يمكن الرحيل إليه والعيش فيه بأمان، يقول كولونا لمايا: «ولكن أين سنذهب، لقد رأيت وسمعت أن الأشياء نفسها تقع في كل أوروبا، من السويد إلى البرتغال..تريدين الهرب إلى تركيا بين الذئاب الرمادية، جماعة سرية متطرفة وفق إيكو، أو إلى أمريكا، إن سمحوا لي بذلك؛ حيث يقتلون رؤساءهم؛ وحيث يحتمل أن تكون المافيا اخترقت وكالة الاستخبارات المركزية، العالم صار كابوساً يا حبيبتي».
إن ما يود إيكو دوماً قوله هو أن الحقيقة ربما تكمن في الأدب، وفي الأدب وحده فعندما يتشارك الجميع في صياغة عالم كاذب، فربما يصبح الروائي الأكثر قدرة على البوح بالحقيقة.