خاص- ثقافات
*مريم لحلو
الوجه الغارق في خشوع الصباح، أووهج الظهيرة، أو لوعة المساء، يهتز اهتزازا متواترا مهدهدا ،فقط العينان الصغيرتان تتركان عسلهما يخبو ويتوهج على الواجهات الزجاجية للمحلات التجارية عبر زجاج نافذة النقل العمومي المضبب ..
لا ترى من السائق الضئيل إلا قفاه ويديه الكبيرتين ولسانه الهادر البذيء..يدير الدفة العملاقة بجسمه كله فتبدو كمنخل كبير يغربل به الطرقات والمنعطفات ..هيكل الحافلة العجوز يمضي مترنحا ككوخ قصديري فاغرا فاه كأنه ينتظر فقط هبة ريح ليتراكم على بعضه البعض دون أن يثير دهشة أحد ..والعينان الصغيرتان اللتان تبدوان غير مباليتين، تستمران في متابعة الحروف المزينة لذُرى الواجهات. فتبدو لها الكلمات العربية منسابة سلسة، مترنحة وكأنما حروفها رهط من الراقصات والسكارى تراشقوا آخر الليل بقنانيهم فجدعوا أنوف بعضهم البعض فسقطت نقطة الذال المعجمة، وتفلجت نقط الحروف المثلثة، وهوت الإشالات، وأجهضت الصاد وأسرعت بها الياء المتطرفة لأقرب مستوصف خال من الألفات واللامات المنتصبة في خيلاء .. وتظل النون مزهوة بحمصتها الخالدة، وبجانبها الواو التي تشبه الرجل اليمنى لساعي البريد المدلاة أبدا وهي تشد توازن دراجته النارية المالئة الحي ضجة وفرحا عند الأبواب المفتوحة على الأنباء بحلوها ومرها فتُلتقط الرسائل الصفراء ،والمجنحة، والطويلة ذات الرائحة الكريهة..الهاء في آخر الكلمة كامرأة حزينة مصابة بشقيقة مزمنة، تحكم لف منديل خشن حول رأسها وتترك الطرفين منتصبين كأذني قط متوجس.. أما الحروف الأجنبية فتبدو أكثر صرامة وقد تجاورت متفرقة مستقلة مكتفية بذاتها واقفة على أقدام صلبة من حديد تشتعل وتخبو في تناغم آسر بصورة شاعرية وكأنها غير آلية ..في قرارة نفسها تتمنى لو تكون مثل هذه الحروف القوية ..ومع انهمار الضوء والعتمة تظهر ثلمة في جدار الذاكرة فتنزلق الذكرى بكبرياء قاس لم تنل من حدته السني ن ولم يرهقه المرور الدؤوب من نفس الطريق .وكل يوم يمر تحاول بإصرار الابتعاد وتنضاف خطوط جديدة على الوجه وتغور أخرى،وتجف الأكف الناعمة،ويخبو صهد الجسد ،ويبقى ذلك السطر،وتبقى تلك الكلمات الأجنبية التي نطقت،ذات ربيع، بغرابة وكتبت بخط باهت مائل موجعة للروح..
“If only you try to listen to me”
..تبدو تقاسيم العود المتحشرجة المسترسلة من راديو الحافلة موغلة في الرأس الضاج بالحنين فلا تكاد تحس الانتقالات بين وتر ووتر ماعدا وتر واحد مشدود على آخره يجرح حلقها بمرارته المفجعة. ويحرك رمادا قديما غامضا، وهو يختلط بصوت القناني الفارغة المتراقصة في الشاحنة المجاورة جنب بار “فوش”. في خيالها الذي يشتغل دوما كمروحة إنقاذ تبرد نيران الذكرى، تضغط برجلها الصغيرة على المكبح فتتوقف الدابة المعدنية المتهالكة،ثم بحركة من يمناها على تلك العصا السحرية المتحكمة في الزمن تعود إلى الخلف…إلى الخلف… إلى أن تجد نفسها في منتصف القرن الماضي فتسمع بوضوح ذلك الصوت الذي منعه صخب الشباب من الوصول وقتها إلى قلبها…