تشويق متواصل لفك أسرار الألغاز وكشف دلالاتها قبل فوات الأوان
للمرة الخامسة يجد المخرج الحائز على جائزة الأوسكار ” رون هاوارد ” نفسه في مواجهة مع الممثل المبدع توم هانكس لإنجاز فيلم جديد، وهو يهبط به هذه المرة إلى ” انفيرنو ” أي ” الجحيم ” أو هي جهنم في تأويل آخر حيث تسعى للعصف بالشجر والحجر وتخليص البشرية من نفسها بطريقة سفلية بعد أن استنفذت الطرق المألوفة دورها.
ويعرف الذين يتابعون هانكس وهاوراد أنّ هذا الفيلم القادم من رواية دان براون يسير على نسق الفيلمين السابقين ” ملائكة وشياطين ” و” شيفرة دافنشي” المنقولين أيضاً عن روايتي بروان اللتين تحملان الأسماء نفسها، وحققت لدى القراء أعلى المبيعات، وما قصدته هنا العثور على ألغاز تحتاج إلى من يستطيع فكّ أسرارها، والانتقال من حبكة إلى أخرى، ومن تعقيد إلى آخر للوصول إلى حلّ في النهاية حيث تتضح الصورة بشكلها المتكامل، وتبدو القرائن مترابطة بشكل وثيق مع الخيوط الخفية التي تتجمع بيد واحدة في النهاية.
وكمدخل أول لفهم الفيلم ينبغي الإشارة إلى أنّ براون يسعى في رواياته إلى البحث المتواصل وتقديم المعرفة إلى القارىء، ولا يكتفي بالحكاية أو الحبكة البوليسية، فثمّة مؤسسة بحثية كبرى خلفه تديرها زوجته، وتقدم له كلّ ما يحتاجه في أعماله السردية من معلومات دقيقة وتأويلات عميقة للأحداث التاريخية، وللأسرار التي يعرف بعضها البشر وتخفى على جلّهم، وربما لهذه “الخلطة السحرية ” أي مزاوجة الحكاية بالمعلومة فقد نال ثقة القراء في شتى أنحاء العالم.
يبدأ الفيلم بلقطات متقطعة، وكأنّ المشاهد يتهيأ لفيلم رعب حيث تبدو هلوسات روبرت لانغدون ( الممثل توم هانكس ) توحي بما يشبه المحرقة حيث الأدخنة المتصاعدة وألسنة اللهب وصراخ بشري يقطع الأفئدة، ونكتشف أنّ كل هذا الجحيم مجرد كابوس، حيث يتمدد لانغدون في مستشفى إيطالي فاقداً ذاكرته فيما تحاول الطبيبة سينا بروكس ( الممثلة فيليستي جونز ) مساعدته لترتيب معلوماته المشوّشة، والبدء بسلسلة من الركض المتواصل لحلّ الألغاز التي تعترض طريقهما لانقاذ البشر من الكارثة التي يتسبب بها عالم مجنون يسعى لتقليص سكان الكرة الأرضية إلى النصف عبر نشر وباء فيروسي أطلق عليه اسم ” انفيرنو “، وهكذا يدخل مشاهد الفيلم في حالة من التوتر وحبس الأنفاس نتيجة التشويق الحركي والفكري المتواصل لصانعي الفيلم وصولا إلى النهاية..!
جحيم دانتي ضمن حبكة بوليسية
قد يتساءل المرء ما علاقة عمل أدبي رفيع المستوى مثل القصيدة الملحمية ” الكوميديا الإلهية ” التي ألفها دانتي الغيري بحبكات ذات طابع بوليسي، لكنّ ذلك بالطبع يحيل إلى الروائي دان بروان نفسه الذي اختار أن يكون الجزء الأول من قصيدة دانتي أي ” الجحيم ” مركزاً تستند إليه بقية خيوط الحكاية، فمن المعروف أنّ هذه القصيدة التي تعود إلى القرن الرابع عشر تستند إلى إرث ديني وخيالي هائل في وصف جهنم الأرضية التي تزدحم بالأشرار المحشورين فيها، فيما يتفنن دانتي بوصف عذاباتهم وعظيم آلامهم والطبقات التي تضمهم في مركز الأرض قبل أن يسمح لهم بالصعود إلى المطهر.
وهنا سيجد الأستاذ الجامعي والباحث في الأدب والمحلل العبقري لانغدون كما يظهر في الفيلم جهازا الكترونيا يستطيع عرض رسم لهذا الجحيم المليىء بالرموز، وما عليه إلا أن يبدأ بالتحليل والسفر من مكان إلى آخر برفقة طبيبة الطوارىء بروكس التي تصر على مرافقته مثل ملاك حارس فيما يتعرضان شيئاً فشيئا إلى مطاردة عدة جهات معاً للقضاء عليهما او محاولة اعتقالهما، ويبدو من غير المنطقي بالطبع أن يتذكر لانغدون الاسم السرّي ليدخل على بريده الالكتروني فيما لا يتذكر أشياء أخرى أكثر وضوحاً، ثم إن الأحداث تتوالى وكأنها مرتبة بطريقة هندسية وقسرية للذهاب من مكان إلى آخر، والنجاة في كلّ مرة من الضغوطات الهائلة التي يتعرض لها هذا الفريق الثنائي، رغم أنّ توم هانكس أصبح ثقيل الحركة وطاعنا في السن كممثل، ولا يبدو مقنعا افتعاله كلّ هذه الرشاقة في التنقل إضافة إلى التملص من كل الهجومات المتلاحقة.
ثمة مقولة للبروفيسور لانغدون في سياق الفيلم تشير إلى البؤرة الأخلاقية التي تحاول أن يستند إليها الطرف الآخر الذي يسعى لتدمير العالم ” أعظم الخطايا في تاريخ البشرية ارتكبت باسم الحب ” وهنا تبدو الإشارة جلية إلى الجانب الآخر للحل الجحيمي الذي يقوده الميلياردير والمتخصص بالطب الحيوي برتراند زوبرست الذي اكتشف أن البشر بطبعهم الحالي هم الفيروس الحقيقي عبر تكاثرهم اللامعقول وتلويثهم للأرض وبالتالي فإنّهم سيسعون آجلا أو عاجلا إلى دمار أنفسهم وبالتالي دمار الأرض نفسها، ولهذا تفتقت ذهنيته العبقرية عن حل جهنمي لكنّه يستند إلى قاعدة ” الغاية تبرر الوسيلة ” عبر نشر فيروس قام بتصميمه بنفسه وقادر على إفناء أكثر من نصف عدد سكان الأرض خلال وقت ضئيل، وهكذا ستغدو الحياة – حسب فلسفته- أكثر جمالاً ووفرة للناجين..!
ومن الصدف التي تطيح بجماليات الفيلم أنّ الطبيبة بروكس التي ترافق البروفيسور لانغدون في رحلته لحلّ رموز خارطة جحيم دانتي من فلورنسا إلى البندقية وصولا إلى استانبول تظهر لنا في النهاية منحازة إلى الجانب الشرير من الحبكة، وبالتالي تدفع روحها ثمنا لهذا الخلاص الجهنمي، أما المطاردات التي تقوم بها منظمة الصحة العالمية للعثور على الفيروس الخطير فتبدو غير منسجمة مع طبيعة عمل هذه المنظمة فهي ليست قوة عسكرية ضاربة لها قدرات هائلة وصلاحيات عمل واسعة في الدول كما تظهر لنا، لكنّ طبيعة الفيلم لا بد ستكون مختلفة عن البعد البحثي في الرواية، لأنّ عنصر التشويق قد يستفحل في الجانب الحركي للفيلم ويتمدد على حساب عناصر أخرى، ومع ذلك يحسب لفريق منظمة الصحة العالمية الأداء العالي، وخصوصا الممثل الهندي عرفان خان ( هاري) والممثل عمر ساي ( كريستوف بوشارد) وبالطبع سيدسي نودسن التي تقوم بدور رئيسة منظمة الصحة العالمية وأيضا صديقة البروفيسور السابقة ( وهذه أيضا من المصادفات غير المحببة في الفيلم ).
المعضلة الأخلاقية على المحك
” انفيرنو ” الذي جاء في 121 دقيقة وأنتج في الولايات المتحدة هذا العام 2016 بميزانية وصلت إلى 75 مليون دولار لاقى الكثير من الانتقادات سواء من ناحية حبكته أو مدى مصداقية أحداثه لدى المشاهد، لكنّ مخرجه هاوارد بذل جهداً خارقا في المحافظة على سويته التشويقية حتى النهاية، ورغم أن بعضهم يرى أنه ساهم في الترويج السياحي للمدن التي أنجز بها إلا أن دلالاته الخفية قد لا تبدو جلية للكثيرين، وخصوصاً في الجانب الديني إذ يبدو أن بعض المعالم التي اعتمد عليها الجانب الشرير تبدو دور عبادة مثل الكنائس التاريخية والمساجد إضافة بالطبع إلى الإرث البشري الثقافي مثل المتاحف، وأخيرا في العرض الموسيقي في استانبول وهذا يدل على فكرة التناقض التي يقوم عليها الفيلم، فكيف لمثل كل هذا الجمال أن يخفي كلّ هذه البشاعة، وهي الفكرة المركزية التي استند عليها العالم البيولوجي الذي قام بتصنيع فيروس الجحيم أن آخر الدواء الكي أو البتر أحياناً حتى تنجو بقية الأعضاء.
ثمة إشارة أيضا إلى أن مركز انتشار هذا الفيروس كما صمم له سيكون من تركيا إلى أنحاء العالم، وهي إشارة تبدو خبيثة إلى الجانب الديني أي ” الإسلام ” كمصدر للإرهاب في العالم، ولا تخفى على كلّ ذي لبّ، وتبقى مثل هذه الأفلام أيضا بحاجة إلى وضع رسائلها المفخخة على المحكّ، فالتشويق البصري المذهل المترافق مع موسيقى هانز زيمر ذات الإيقاع السمفوني الجميل قد يكون حائط صدّ أمام الذين يحتارون في عتمة الصالة بين المعرفة والمتعة.