*شريف الشافعي
على مسرح الأحداث المتخيلة، وفي الحياة أيضًا، هناك “أشخاص خطرون” منفيون إلى الماضي، سيقوا قسرًا خارج اللحظة، ظنًّا من السلطة الباطشة أنها باتت في مأمن من “شرورهم” و”شراراتهم”. الروائي هنا، في حقيقة الأمر، مثله مثل حاكم البلد الذي تدور فيه الوقائع، كلاهما يدرك أنه يتعامل مع الواقع ظاهريًّا، ويستدعي ماضيًا ليس له وجود سوى في ثلاجة الموتى، فيما يتقلب قلبا كلٍّ منهما (الروائي والحاكم) في السماء، ترقبًا لمستقبل قد تشعله تلك الشرارات، فيكتسح قانون هذا المستقبل كل شيء.
في روايته “قطط العام الفائت”(*)، يلجأ الكاتب إبراهيم عبد المجيد إلى “الرمز” الذي هو ليس رمزًا، فاللعب على المكشوف باصطلاح “السياسة”، التي هي المنبع الفعلي لكتابة هذا العمل، بإسقاطاته المباشرة، وآلياته الخطابية والتعبيرية.
السارد العليم يتحدث بوضوح، منذ السطور الأولى للحكاية حتى آخر كلماتها، عن مصر، وثورة 25 يناير 2011، وما سبقها وأعقبها من أحداث معروفة وموثقة، الأمر الذي يجعل “الإهداء”، ربما، أقرب لسخرية مقصودة، يبقى صداها مترددًا بين ثنايا الرواية: “في بلد يسمى (لاوند)، قامت ثورة في اليوم نفسه، التي حدثت فيه الثورة في (مصرايم). هنا ما جرى في (لاوند)، وأي تشابه مع الواقع غير مقصود”.
لا يقص السارد العليم، ولا يتحدث الشخوص، باللغة “اللاوندية” بطبيعة الحال، بل بلغة “الحالة المصرية”، المفهومة حتى لغير قراء الأدب من محترفي التأويل ومستكشفي خباياه الفانتازية، فالنص “مذكراتي ألبوماتي” برمته إذا جاز التعبير، منحاز، ضمنيًّا وظاهريًّا، إلى ما يمكن وصفه بـ”مبادئ ثورة 25 يناير” (عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية)، وإلى معتنقيها، خصوصًا من “الشباب”، مفرقا بين هؤلاء “الورود”، وبين كثيرين آخرين قادوا أو صنعوا أو شاركوا أو انتسبوا أو تكالبوا على تلك الثورة.
لربما كان هناك، خارج معيار الإبداع، ما يمنع الكاتب من استخدام الأسماء الحقيقية للشخوص والأمكنة، والعناوين الفعلية للوقائع، لكن من الوجهة الفنية، على سبيل المثال، فلا تكاد تبدو رمزية أو دلالة لأن يكون مقتل “فاضل سعيد” (بدلًا من خالد سعيد) هو محرك إشعال الثورة، ولا لأن يسمى وزير الداخلية بـ”وزير الأمن”، على سبيل التورية، ثم إذ به يتحدث (وكأنه يقرأ من صفحات التاريخ) عن واقعة موت “فاضل سعيد”، وعن أجواء الانتخابات البرلمانية التي سبقت يناير 2011، وتصاعد نفوذ ابن الحاكم (المهيّأ للتوريث) مخاطبًا الحاكم “أمير أبو العساكر” بقوله: “في البداية أريد أن أعيد التأكيد أننا لم نقتل فاضل سعيد، هو شاب حشاش، وأنتم تعرفون القصة، لكن جهات أجنبية لعبت في الحكاية. كما أني لم أزوّر الانتخابات إلا بتعليمات من ابن فخامتك، وكان رأيي أن ينجح بعض المعارضة، كديكور يعني”.
هنا، حصة التاريخ كاملة، بعيون كاميرا ميكانيكية، على أنها لا تدعي الحيادية في نقل المشهد، إذ تعترف بوضوح بنقله من جهة “إدارة ميدان التحرير”، على طول الخط، (حتى في الحوارات السرية بين الحاكم وزوجته، في غرفة النوم، إذ لا يكفان عن الإهانات المتبادلة، وتصوير كل منهما للآخر على أنه “جاهل” أو “عاجز”، الخ)، فيما تبدو آراء وتصورات الآخرين، حتى من خارج فريق السلطة المضاد أو محل النزاع ودائرة الانتهازيين والمنتفعين، مجرد سحابات ضالة وظلال باهتة، خاضعة بالضرورة لتأويل “عقل الكاميرا” المفكر، بل وتقييمه، وهو ذلك العقل الإلكتروني، المبرمج فقط وفق سلطة الراوي العليم، بأحكامه شبه المطلقة.
ربما تجد لغة اليقين والإحالات المباشرة إلى العارض الواقعي الزائل موقعها من الإعراب عند أكثر المتفائلين من السياسيين، أو الإيديولوجيين، أو حتى الثوار، ممن تتسق قناعاتهم الفكرية مع مقولاتهم ومع تصرفاتهم وسلكوياتهم الطبيعية على الأرض بضرورة الحال، لكن حين تهدأ منصة الميدان، أو يزول أثرها التهييجي، فما موقع لغة “قصيدة الثورة”، مثلًا، بخطابيتها وشعاريتها وربما زعيقها، في عالم الشعر الآن؟ وما مدى تقاطعها مع المشترك الإنساني الباقي للأبد؟ وماذا يتبقى منها لو أن متعاطيها قارئ من مكان أو زمان آخرين، خارج بؤرة اللهب “المؤقتة”، مهما عظم شأن الحدث؟ وهل الأجدى، فنيًّا وحتى إنسانيًّا وعمليًّا: أن تكون قصيدة الثورة دعوة إلى الثورة، وتمجيدًا لفظيًّا لها، أم أن تحقق القصيدة ذاتها ثوريتها الخاصة، جماليًّا، من الداخل، بتمردها على الثوابت وخلخلتها المألوف، وتحريكها كل جديد في روح وذائقة متلقيها، بما قد يدفعه شعوريًّا أو لا شعوريًّا إلى الإيجابية والتغيير؟
هذه التساؤلات المقترحة في الأدب، وغيرها، لا شأن لها بطبيعة الحال بموقف العمل الأدبي وكاتبه من ثورة 25 يناير، أو أي حدث أو واقعة أو قيمة أو إيمان أو معنى نبيل، وما إلى ذلك. المؤاخذة أو التقييم بالمواقف والاتجاهات ربما تجد لها مكانًا بين السياسيين بعضهم البعض مثلًا، وربما تطول الأديب بشكل عارض حال كتابته مقالًا أو إقدامه على فعل ما، أو إحجامه عن ممارسة أخرى. أما حين تتجرد الأفكار والمعطيات كلها بين دفتي عمل أدبي، فلا مجال للتحليل، كما أنه لا مجال للتحليق، سوى بجناحي الإبداع، بماهيته المجردة، وجمالياته الغائية.
“قطط العام الفائت”، رواية كبيرة وعميقة، لم تكتف بالرصد المجاني للأحداث وتداعياتها خلال السنوات السبع الأخيرة، لكنها حاولت من خلال السرد التفصيلي لوقائع التاريخ أن تحدث ثقبًا في جدار المستقبل، لتستشرف “ماذا سيكون” بعد هذه المستجدات كلها، والأيام المتتالية بانتصاراتها وانكسارتها وتحدياتها وجنونها الصارخ.
المعطى الأدبي، الأكثر وضوحًا في رواية إبراهيم عبد المجيد، يمكن تحسسه في أمرين أساسيين؛ الأول: النزعة الفانتازية، والثاني: النبوءة. وهذان الأمران يعودان مرة أخرى كي يخدما “فكرة” أنتجها السياق الأدبي، هذه الفكرة هي أن “الثورة قادمة”. في هذا العمل، باختصار، “الثورة” هي التي تبدو كأنها تنسج الإبداع، من أجل أن تتكرر من جديد.
الفانتازيا لها شواهد ومنعطفات كثيرة في النص الزاخم، منها تلك القدرة السحرية الخارقة التي يمتلكها الحاكم أمير أبو العساكر، إذ تمكنه من إلقاء أي شخص إلى الماضي، وهذا ما فعله مع “السر عسكر” ناظر الحربية نفسه، إذ ألقاه إلى الماضي، لشكه في أنه قد يكون متواطئًا مع الثوار، أو مدبرًا خفيًّا للثورة من وراء ظهره. كما استخدم الحاكم تلك القدرة العجيبة، فألقى كل من كانوا في الميدان إلى العام السابق. ولكي تنطلي الخديعة على الجميع: “أصدر الحاكم قرارًا بأن هذه السنة ليست 2011، بل 2010، والدنيا كلها مشت وراءه.. الإعلام والصحافة والأحزاب وكله”.
ومن تلك الشواهد والرموز كذلك، هذه البراميل التي تستخدمها جماعة “النصيحة والهدى” من أجل تخدير الشعب في أي وقت ولأية مدة، حتى ينتهوا من صراعاتهم أو اتفاقاتهم المشبوهة مع الحاكم، وقدرة مدير المحن والأزمات “مز” على أن يُخرج من أصابعه الثعابين، وتدخُّل الفنانة الراحلة سعاد حسني التي راحت تقبل الشباب المنفيين إلى الماضي واحدًا تلو الآخر، لتدب الحياة فيهم من جديد، وكذلك تحوّل آلاف الشباب الثوريين المنفيين إلى الوراء عامًا كاملًا إلى “قطط” تملأ الميادين، لتبدأ رحلة اليقظة ومحاولة استعادة الثورة بآليات مغايرة، لا تتكرر فيها أخطاء الماضي، وغيرها من التخييلات والإرهاصات بامتداد النص.
أما نبوءة السارد، فتتجلى بعد اختفاء الحاكم وزوجته مع اقتراب موعد 25 يناير في المرة الثانية (بعد عام من الثورة الأولى)، إذ تتكشف للشباب حقيقة تزييف الحاكم للتاريخ، ويصارحهم “السر عسكر” بتفاصيل كل ما جرى، في محاولة منه لكسب الرأي العام والسيطرة على الموقف بعد عزل الحاكم، وتحييد جماعة “النصيحة والهدى” بعدم ذكرهم بسوء، وهنا تأتي النهاية بأن أغلبية الشباب لم يصدقوا نوايا “السر عسكر”، ومن ثم انطلقت فتيات محلقات بأجنحتهن في الفضاء، وانتشر هاشتاج “#خرافة_أم_حقيقة_انزل. بناتنا تطرن الآن في سماء لاوند، فهل يجلس الرجال في البيوت؟ انزل. انزل. انزل”.
هذه النبوءة الختامية، ومن قبلها تلك النزعة الفانتازية، هما المساران الفنيان، اللذان أثريا خارطة الأحداث التاريخية المنقولة حرفيًّا على مدار النص، بانحرافات تفجيرية غير جاهزة، أنعشت مخيلة التلقي، بقدر ما بلورت فكرة قطبية مركزية لخصت كل شيء من جديد بمفردة “انزل”، باعتبارها لحن المستقبل، لا محالة.
هذا اللحن “انزل”، هو الصاعقة التي هرب الحاكم خوفًا من دنوّها، وهو في الوقت ذاته النغمة الخفية الطروب، التي ظلت تداعب صدر الراوي العليم، منذ أولى كلمات الرواية الافتتاحية، حتى آخر حروفها. على أن الرواية اقترحت موعدًا لانفجار اللحن (25/1/2012)، فيما، في الحقيقة، لا يزال شخوص الرواية مرتقبين المشهد بصمتٍ بين دفتي كتاب.
(*) صدرت عن الدار المصرية اللبنانية في قرابة أربعمئة صفحة