يرصد كل من ماري لومونييه وأود لانسولان في هذا الكتاب «الفلاسفة والحب.. الحب من سقراط إلى سيمون دي بفوار»، الصادر عن دار التنوير بترجمة دينا مندور، علاقات الحب عند الفلاسفة، وكيف عاشوا قصص الحب وأبرز حكاياته، وتأثيره في أفكارهم، وطريقتهم في الحب، وكيف ينظرون إليه، ويبدو أن الدافع لدى الكاتبين هو كيفية التقاء العقل بالعاطفة، العقل الشقي بفعل الأسئلة الكونية، الذي يخضع كل شيء للمنطق، فهل يستجيب الحب لتلك العقلنة التي وسمت تفكير هؤلاء الفلاسفة من الرجال والنساء؟
يذهب الكتاب إلى أن الحب يبدو مقاوماً لكل أشكال العقلنة، وهذا ربما يبدو غير مفهوم لدى الفلاسفة، الذين تلح عليهم هذه الرغبة المجنونة في عقلنة الأشياء، ولعل هذا ما يدفعهم للارتياب، وأحياناً للجنون، فهم يرفضون ذلك التسليم الذي عبر عنه الشاعر العربي مظفر النواب بمقولته في أحد نصوصه «الحب أن لا تعرف شيئاً»، فمهمة الفلاسفة معرفة الأشياء في كل أحوالها، ورغم أن الفلاسفة قد أشرعوا رماح أفكارهم صوب كل فكرة في الكون إلا أنهم توقفوا ملياً أمام الحب، ففي تعاملهم معه ربما قدم كثيرٌ منهم آراء غريبة، تقترب من الجنون والبؤس، ربما هنا تبرز مسألة ملحة، وهي لما لا نحيل ذلك الاندفاع في الحب من قبلهم درجة الجنون والهوس، إلى رهف أحاسيسهم؟
الكتاب يقدم محاولة للنظر في الحب لدى مجموعة من الفلاسفة العقلانيين، فهو يريد أن يطّلع على طريقتهم المرتبكة، أو المختالة، واللاذعة في معظم الأحيان، بل والعدائية الشرسة التي انتهجها بعضهم عند تعاطيهم مع مفهوم الحب، والحديث عن كل ذلك بلهجة حاسمة. فجميعهم في الحقيقة لديهم ما يقولونه عن الحب، وعما يصاحبه من وَهْمٍ بالخلود، وما يولّده من معاناة، وعن الطريقة التي نطمح بها لترويضه، ويطوف الكتاب بنا في عوالم الحب عند الفلاسفة الكبار، في دونجوانية سارتر، أو تغييب كانط لفكرة الرغبة في الحب، أو الفشل الذريع المتكرر لنيتشه في الحب، ويعد المؤلفان تلك التجارب جميعها حلقات صادمة أو غريبة يستطيع كل منّا استخلاص دروس منها وتطبيقها على حياته الخاصة.
ينفتح الكتاب على تأويلات عديدة لمسألة الحب في الفلسفة، عبر علاقات المحبين من الفلاسفة، وفي رؤيتهم للحب، ومعايشتهم له من خلال تجارب عميقة، وطرحهم لسؤاله، وهل يقترب من كونه سؤالاً فلسفياً، هل للحب فلسفته؟ كما ذهب إلى ذلك العديد من الفلاسفة وأبرزهم اليوناني أرسطو في كتاباته عن الحب وتناوله لتلك الوجدانيات التي تنشأ في قلب الإنسان وشعوره الخفي، وفي هذا المنحى تبرز العديد من الاتجاهات في تناول الفلاسفة، لقد سار شوبنهاور في اتجاه مضاد للحب، ولديه موقف راسخ يتمثل في العداء الشديد للمرأة، ولعله الموقف المشابه لموقفه من الحياة على المطلق، أي مع موقفه الفلسفي، بينما نجد على العكس من ذلك أن رائد الوجودية، الفيلسوف الدنماركي سورين كيركجارد، يعلي من الحب في التناول الفلسفي له، فهو يرى أسمى مراحل التجربة الذاتية.
ينفتح الكتاب على مسألة في غاية الأهمية، وهي كيف أن الكثير من الفلاسفة قد هاجموا الحب من منطلق ذكوري، عندما تحدثوا عنه أحياناً بازدراء وهاجموا كل من يرفض تحليلهم، ويرى المؤلفان أن الخطاب الفلسفي المحلل للحب مكتوب بأيادٍ ذكورية، فباستثناء حنة أرندت وسيمون دي بفوار لم تكتب امرأة عن فلسفة الحب، لذلك لا عجب أن يؤكد المؤلفان أنهما يحللان في الكتاب رؤية نصف البشر، لكن الكتاب يشير إلى من يسميه أحد النادرين من الفلاسفة المعاصرين، الذي نظر بإيجابية لموضوع الحب وهو الفيلسوف الفرنسي آلان باديو، الذي عرف الحب بأنه «نتاج الحقيقة»، وخبرة ترتكز على تجربة اثنين.
لكن الكتاب لا ينفي أيضاً أن الكثير من الفلاسفة قد عرفوا الحب، وهي النقطة التي يبحث فيها الكتاب، وفي 10 فصول أو عناوين يحلق الكتاب في عوالم مجموعة من الفلاسفة الكبار، في أزمان مختلفة، وهو لا يتناول فقط تلك التجربة التي عاشوها مع الحب، بل مواقفهم الفكرية التي استقوها منه، تلك التي كونوها عنه، وهي بذلك تعبر عن تجارب نادرة، ثرية في اختلافها، فخصوصية كل تجربة أوجدت مواقف فكرية مختلفة، وبالتالي شكلت اتجاهات متباينة في الموقف من الحب، فقد ضم الكتاب تجارب فريدريك نيتشه، وأفلاطون، وجان جاك روسو، إيمانويل كانط، ولكريس، ومونتاني، وآرثر شوبنهاور، وسورين كيركيجارد، ومارتن هايدجر، وحنة أرندت، وجان بول سارتر، وسيمون دي بوفوار. ويحتل هؤلاء موقعاً مميزاً في الفلسفة، حيث قدموا نصوصاً أساسية في مواقفهم من الوجود، بالتالي نحن أمام حشد كبير من الخبرة المعرفية والفكرية، وخلاصة الآراء التي شكلها هؤلاء الفلاسفة الكبار عن مسألة الحب لا شك أنها تشكل موقفاً يقترب كثيراً مما يمكن أن نسميه فلسفة للحب، وفرادة هذا الموقف أنه يجيء محتشداً بالمواقف المختلفة، والاتجاهات المتباينة في النظر إلى الحب، بالتالي يشكل هذا التنوع ثراً كبيراً في الموضوع.
ويرى المفكر الإسباني خوسيه أورتيجا أن الفيلسوف يحدد الأمور ببراعة من دون تردد، ويطارد بملقطه العقلي عصب الحب المرتعش. ويطوف بنا المؤلفان في عوالم أفلاطون وتجربته في موضوع الحب، فكتابه «المأدبة» ومن خلال قراءة جاك لاكان، المحلل النفسي، رسم معالم الرؤية الغريبة للحب، حيث يحشد تجارب مجتمع المفكرين والمثقفين آنذاك وتجمعاتهم وعلاقاتهم العاطفية، فالحب عند أفلاطون يهدف إلى السعادة وهو محض روح، وخصوبة روحية، وضوء ساطع، وربما هذا الموقف الميتافيزيقي من الحب هو ما قاد إلى وصف الحب على طريقة أفلاطون بالحب الأفلاطوني، ولقد ألهم هذا الحب الأفلاطوني أوروبا ردحاً من الزمان، بل شكل وعي الأوروبيين عن الحب لقرون طويلة، ووفقاً لقراءة لاكان، لا يوجد أي أثر أدبي أو فلسفي قدم تصوراً للحب من دون الاستعانة بمؤلف أفلاطون، ويقدم لنا أفلاطون في «المأدبة» مشهداً لمجلس جماعي ضم سقراط والشاعر أريستوفان، قدما خلالها أحاديث عن الحب وخلاصة ما قدمه سقراط يكشف لنا منظوره لتراجيديا الوجود في التناقض المؤلم للإنسان، فالإنسان يتطلع إلى الخلود، رغم علمه بأنه فان، ولا سبيل إلى تجاوز ذلك إلا بالحب فيما يرى أريستوفان أن الإنسان، الرجل والمرأة، في الأصل كانا كائناً واحداً، لكنّه انشطر إلى نصفين، فأخذ كل واحد يبحث عن نصفه الآخر ليتحد معه.
ويعرج الكتاب على شخصية فلسفية في غاية الأهمية نسبة لما عرف عنها من تقلب المشاعر وهو الفيلسوف شوبنهاور، الذي يرى الحياة غارقة في الملل والمعاناة، مشبهاً لها ببنادول الساعة الذي يتحرك يمنة ويسرة متقلباً من الضجر، لذلك لا مجال لحب نقي شاعري في ظل هذا الشقاء، ويصب شبنهاور لعنات كثيرة على المرأة التي يجد فيها مستودع التعاسة والشقاء فهي كائن تافه ومنافق، وفي المقابل يبرز الرجل عند شبنهاور كضحية لهذه المرأة فهو مسكين ومجنون، وينقلنا الكتاب في اتجاه آخر قريب من شبنهاور ومختلف عنه، نحو عوالم تلميذه الفيلسوف الألماني نيتشه الذي عقد تصالحاً مع الحب في عقب خروجه من أزمات نفسية حادة، فبدأ وكأنه يدخل في حياة ثانية، ويتناول الكتاب حياة نيتشه في الحب وعلاقته بكارمن ملهمته، فالحب عند نيتشه هو طفل بوهيمي، كما ذهب إلى ذلك في كتاب «ما وراء الخير والشر» والزواج عند نيتشه مقبرة للحب.
ويضعنا الكتاب في قلب أشهر قصة حب ربطت بين فيلسوفين هما جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار، وكذلك العلاقة الكبيرة التي ربطت بين الفيلسوف الألماني هايدغر والفيلسوفة حنة أرندت، فقد رأى هايدغر أن أرندت كانت تبث ما أطلق عليه الفكر العاطفي في كتاباته، أي يتحدث عن لحظة الإلهام التي مثلتها أرندت في حياته، وهو الحب الذي مثل لكليهما لحظة جملت حياتهما، فهيدغر يرى أن لا شيء يقود إلى قلب العالم أكثر من الحب.