العجائبي في رواية”سحر البحر “لأشرف الخريبي

خاص- ثقافات

*مالكة عسال

مقدمة
أول ما أستهل به قراءتي المتواضعة عتبة العنوان “سحر البحر ” كعلامة سيميائية لها وظائف متعددة ،تخص أنطلوجيا النص ومحتواه ،وتداوليته في إطار سوسيوثقافي، كتعريف وكشف له ،وهو الباب الأول لاقتحام المضمومة ،والعنوان” سحر البحر ” مركب من خبر لمبتدأ محذوف ومضاف إليه كجملة تامة المبنى والمعنى …وكلمة سحر تتعدد معانيها لغويا ،فهي تعني :جلب العين بدهشة ،أو عمل من أعمال الشيطان الذي يُذهب الصحة ،ويُحّول الشيء عن حقيقته ،أو تعني الخديعة والغواية ،غير أن مبدعنا يتناولها بشكل رمزي ،في إطار الإعجاب والافتتان بالشيء والروعة التي عليها البحر ،لكن لا يقصد البحر العادي بأمواجه الخلابة وشاطئه ورماله الذهبية ،وإنما عالم الشاعر المتقد بالتنوع :العشق ــ الحب ــ الموت ــ الحزن ــ الهلوسة ــ بل الكون برمته ،وما يحتويه من جمال ورونق ،مطليين بالقبح والتلوث ..وهي رؤية تفاؤلية /تشاؤمية في نفس الوقت لإيجابية الحياة والكون مهما اعتلتهما من قضايا إنسانية شارخة ،ومهما توسد الكاتب على سريرها من مخدات الجمر والبؤس والألم ،وسلبيتهما حين تتملى الرؤية بالسوداوية والقتامة .. فعين الكاتب مشرقة على الحياة تراها وردية مزهرة تارة، وأخرى تُوشحها قيَم سائرة نحو المنفى ،فكانت تلكُم شوكة حادة وخزت حِس الكاتب، ليزرع في واقع تَلبّد بالإبهام والغموض والمتنافر: الأبهى والأروع من الإبداع “رواية “سحر البحر “..
استهلت المضمومة بدفقة شعرية واسعة الدلالات كفاتحة، كأنها تناسلت من شعر أبي تمام، بضروب من المحسنات تتلاطم ألفاظها وتشتق في جَدَلية لا محدودة تنطق بصور شعرية بديعة ، مكتنزة بالرمزي والإيحائي والمجازي والاستعارتي ، ليفتح شهية القارئ بلقطة ، يعانق فيها الأشياء ماحيا المسافات بينه وبينها ،فانصهرت الذات الشاعرة والذات السردية في توحد عميق،بلغة متينة وصياغة مائزة ،ترقص على وتره العازف لتقول ما لم يكن مألوفا …

1ــ التيمات

قبل أن أتناول معولي للحفر في بستان الرواية أدبيا وثقافيا وفنيا ،لابد من الوقوف على موجزها ،الذي يدور حول ذكرى طفولية عَشِق فيها البطل جنية ،وهي هلوسة تنامت في الوعي انطلاقا مما تشبعه من الآباء من قصص وحكايات خرافية ، ظلت عالقة بالذهن …و العشق حدث أساس، تتفجرمن حوله أحداث أخرى فرعية، تتحرك في أزمنة وأمكنة متقاربة يهيمن عليها الليل والبحر ،غير أنها محملة بعدة موضوعات ،ينفرد كل منها بحكاية خاصة تجسرها خيوط رفيعة ….

** تيمة التذكر

تلوح ذكرى عشق طفولي لصبي ،تأججت عواطفه بقوة نحو”جنية” يحس بصداع قوي كلما استغرق في تذكر التفاصيل ،وهي صورة وهمية تسربت إلى الوعي عبر خرافات الأجداد وحكاياتهم ،فتنامت الهلوسة إلى درجة انفصاله عن عوالم الأسرة وتكوين عالمه الخاص مع الجنية المعشوقة ،وانسجامه التام معها..

“هل تذكر هذه اللحظة كانت تمسك نبضات الساكن فيك )

و تتنامى الأحداث عن طريق الاسترجاع والتذكر ،فتتداخل الحلقات الروائية في ما بينها أحيانا ،وأحيانا أخرى تنفصل بومضات سردية ،أو تتكرر بعضها، الشيء الذي ولّد حركة لولبية ،واهتزازا عن طريق التنويعات والدوائر السردية، كل دائرة تنفرد بموضوع معين تتجاسر بخيوط رفيعة لتصب في بوتقة واحدة ،معتمدة على الاستبقاء والاستطرادات ، الشيء الذي كسر بنية السرد وهشمت تماسكه …والتذكر لم يُستعرَض بطريقة مجانية دون هدف أو مغزى ،وإنما ليعري ويكشف الغطاء عن تفاصيل الشعوذة والخرافات والثقافة العتيقة التي تَبّرأ منها العصر ومازالت معشّشة في الذهن ،رغم أنها لم تعد لها أهمية قرب ثقافة حضارية تتماشى وروح العصر ،كأنها بذلك تقتبس نطفة من سيرة ذاتية، لتجربة ماضية مازالت مهيمنة بشكل قوي ،وكيف الذات المبدعة بقيت محصورة قيدها ،رغم المحاولات المتكررة للتنصل منها ،والتمسك بأهداب الحداثة وكل ما هو جديد ..فلم تعد تستقر على حال ،فأنشأت عوالم جديدة لترمم تمزقتها، وتعيد توازنها ، …

**أثر الخرافي على الجانب النفسي

كل كاتب لايكتب إلا من أفق معرفي لملمه من تجاربه المعاش منذ الصغر ،ومن اطلاعه الواسع على ثقافة الغير ،ومن تفتّق فكره إزاء الواقع والأوضاع ،والأحلام المنشودة للتغيير ،وهذه المجرة هي التي يدور في فلكها المبدع ليمنح ما يسعفه من ورطة القلق ،بترجمته إلى وعي جمالي يستوعب الأشياء ،ويتخلص من تيار السلف بكل ما يحمله من عوالم الأعراف والتقاليد البالية ،وما التقطته ذاكرته من قصص وحكايات مذهلة ، واقعية وخرافية متنوعة مليئة بما هو مرعب ومخيف أكسبته رصيدا ثرّا، ومواضيع متنوعة تخصبت في الذهن بحوادثها المذهلة والخرافية القديمة ،و التي تشبع بها مبدعنا ،وظلت مهيمنة
يقول :” تغرق يا عجوز في الكلمات الهزيلة التي لا جدوى منها “في الأرض الفضاء جنية مجنونة الكلمات والضحكات ،العينان طويلتان )

أشياء غريبة ظلت عالقة بالذهن ،حتى أصبحت تتراءى للذات المبدعة وكأنها واقعية ،وهذا تَمثُّل قوي لما يتعرض له الأطفال الصغار من طرف آبائهم من تربية التخويف والترهيب بأشياء مُفزعة ،أو غرس أشياء خرافية في أذهانهم ،لاأساس لها من الصحة عن طريق الحكي ،مما يشكل خطورة على جوانبهم النفسية ،والعقلية ،والتذوق والعين الناقدة ،حيث يمتلئون بالإيمان الباتّ بهذه الخرافات ،وبالتالي تصبح كممارسات في سلوكهم وتفكيرهم ،.فمبدعنا يُلَمّح قاصدا التربية الخاطئة التي يتلقاها الأطفال في الصغر ،من أساطير الآباء وخرافاتهم المليئة بالكذب ،ما يرسي في أذهانهم أفكارا خرافية رجعية مخيفة لا تورث غير الغباء
يقول:” يزيد النداء في الأشجار والرمال وفي الصخور “ص:8
لحظة مرضية صارخة ،مكتنزة بتمثلها من الهَم والوساوس ،أصابت الذات المبدعة بالهلوسة والجنون زرعت فيها خوفا لامتناهي ،
:يقول”حين امتدت يدي الخائفة ص:8 تتيه فيً الأطياف والخيالات المترددة …فتظهر أحيانا في صفة جنية طويلة العينين كبيرة اليدين تكلمه تحاوره تصف عشقهما الأبدي .فكان عالم العشق المهلوس

 **تيمة العشق المهلوس
تتسربل الذات المبدعة في فيافي العشق ،تتيه في أمدائه الرحبة ،منزوعة الفكر مهلوسة الخاطر ،مسلوبة العقل
يقول :”كنت أتدهور في أقداح ممالكها يدخلني العشق في حششتها ”
نار عشق كاوية تفور ،انعكست على الجسد ظاهرا وباطنيا ،ولم تكن الذات المبدعة تفرغ حممها البركانية إلا في علب البحر ،فهو وحده الخل الوفي الذي كان ينصت إليها ، ويفرج عنها كربتها ،ويخفف عنها وطأة عذابه المجبول بالفراغ والوحشة والإحباط ،وكلما حاولت أن تنسى إلا وتأججت جذوة العشق ،وتسربت بعمق في كل الأنحاء ،فتجرفها موجات القلق والحنين ،محبطة تائهة في شواطئ بلا مرسى
يقول : “ما أحوجك الآن لحاسة شديدة الحساسية ،لتسمعين بها ما يدور بداخلي ”
لحظات من الأوجاع والهموم مفعمة بالحزن والأسى، استبدت بالذات المبدعة ،وهزّتها من الجذور ،تحاول جاهدة أن تتنصل منها ،لكن يستفحل الأمر ،فتذوب في هالته يقول :”كنت أنا وأنت قدسا من الأقداس ،نورا من الأنوار”ص:42
درجة من التبجيل والعظمة حد الجنون مرشوشة بنبرة التصوف.. والعشق للحبيبة صفاء ليس هنا عشق الذكر لأنثى ،كما هو معتاد ومعوّد عليه ،وإنما عشق محمود وُظّف بشكل رمزي للصفاء ،أي الطهر والنقاء من الرذائل والخبائث ، عشق لحياة بلا كدر ،بلا مكائد وأحقاد وضغائن ،عشق لعالم بأجواء صافية خالية من تدمير القيم الإنسانية، وتخريب طيب العيش ،عشق لكون صاف من سموم الحروب ،وأوجاع القتل ،عشق لأوضاع تناشد بصيحة مدوية القيم الجميلة وصفاء الأنفس وطهر القلوب، في كل الأرجاء …هي إذن دوافع نفسية إنسانية لنفس ،تتوق إلى الرونق فتبحث في وجوه الأرض عن الأمان ، عن زرع قيم حضارية مبنية على الحب والسلام ،ومبادئ التآخي والتسامح والتماسك ،وعدم إلغاء الآخر ،كأنه بذلك يريد نشر ثقافة الديمقراطية في بعدها الإنساني الجميل ،والابتعاد تماما عن التشرذم والتسلط والهيمنة والجحود ،ليعيش الإنسان بكرامة ..هي رؤيا تولدت من خلال ما تعيشه الذات المبدعة من واقع مزر محاط بأسرار مبهمة ،تنثني على القلق والانفعال ..خاصة لما تعيش أحداثا أسرية محزنة كالموت بفقدان عزيز عاش معه تجارب متّنت علاقتهما ،أو كان له به صلة من الألفة والمحبة …

**تيمة الموت

الذات المبدعة ذاقت مرارة تمرة الموت ،حين فقدت أعز ما تملك ،الأم التي عاشت معها تربطها بها مواقف إنسانية حميمية ،فأصبحت تهيم في التذكر مستعرضة لحظات تشييعها
يقول :”رفعنا نعش أمي بكل بساطة فوق أكتافنا “ًص:25
الشيء الذي وشم في ذاكرتها بالمباشر أن هذا هو المصير ،مصير كل كائن حي في الوجود ،السير نحو العدم والتلاشي ،تقول بنفس الصفحة :” آه من ذاك الأرق الأبدي للدخول للعالم دخول يعني الموت أو الاستغاثة المباشرة قبل الموت حين تموت الأطراف ،وتموت خالتك جليلة كل ما تبقى لك وهَن يضاعفه الوهن ولكنه الموت ولاشك هو الموت “ص:30
كما تستعرض الذات المبدعة في نهاية الرواية موت صفاء ودفنها في جنازة رهيبة، مما يبين أن حجم الموت كبر بشكل شمولي في نفسيتها حين تلمست أن كل ما هو جميل في الوجود من قيم النبل والسلوك الراقي والمعاملات الطيبة والدفء الروحي في طريقها نحو الحتف ..رؤية حادة وعميقة انبثقت عن وعي ثاقب بمجريات الأمور في بعدها الإنساني، من خلال الأوضاع المزرية في الواقع المعيش،نتج عنه انفعال الذات المبدعة فأصبحت تعيش حالة من التوتر تتفجر بالشؤم والحزن ..

**الرؤيا

حالة من صراع قوي تكابده الذات المبدعة بين ما تأمله وما تعيشه ،فتتوغل في دوامة يسيطر فيها المجهول على مكامن النفس ،فيضيق الخاطر ويصبح العالم مجرد كائنات متوحشة مستبدة ،وهو خوف مطلق في قرارة النفس نتيجة المعاناة التي احتلت زاوية غير سهلة في العمق ،ناهيك عما اعتراها من نكبات كدرة ، نزلت بثقلها على هامتها ،وأصابتها بالتلف ،ثم قذفت بها في ركن قصي من العزلة ،لتعيش حالة من الاغتراب إلى درجة أن الدنيا في اعتقادها، لم تعد مجرد شيء تافه ،ولعبة مسرحية سرعان ما تنتهي …هذه الرؤية لخلخلت الذات المبدعة فأصبحت ترى العالم بنظرة سوداوية تشاؤمية ،احترقت فيها كل حقول الأحلام ،وتحطمت فيها النظرة إلى المستقبل ،والاستعداد للآتي ،ودب الشك في وجود الذات ،فأخذت في المساءلة حول حقيقة الوجود ،وحقيقة ما تعيشه ،
هل فعلا الذات المبدعة لها حيز في الوجود أم ماتراه مجرد وهم ؟؟؟
حالة من الشك الفلسفي تعمقت فيه النظرة إلى العالم من زاوية فلسفية خاصة..
يقول :”كأنني أعيش وهما “ص46
و حتي يبلغ الوهم حده فيتحول إلى جنون وهلوسة ،حين يتخيل الرواي أن حبيبته صفاء تأتيه بين أفراد أسرته ،تسامره وتحاوره،وتغبطه بدفئها وهم لا يرون شيئا ..
تقول:”فانتظروا قدومك لكنك تسربِت إلى نفسي في هدوء وروعة ،ولم يشعروا بشيء

**تيمة التيه والاغتراب

تعبت الذات المبدعة ، وزلزل كيانها عالمٌ خائب اختلطت ألوانه وملامحه ،فأصبح لوحة بيضاء تاهت في خضم أسراره وإبهامه عن المسار المهتدي ،وتحاول جاهدة أن تكشف هل الأيام حقيقة ،أم مجرد وهم.. تقول :
فهل كانت هذه الأيام وهما كبيرا ص:36″
تقول :”أظل بروحين هائمتين في الملكوت “ص:45
هو سفر في طريق لايهتدي يفقد نقطتي الانطلاق والوصول ،تلاشت فيه الأهداف المرسومة ،والخطط المأمولة ،فتوغلت الذات المبدعة في دائرة الاغتراب ،باعتبارها لاشيء في هذه الحياة ،وأنها مجرد كائن زائد لاقيمة له في الوجود ،فتغترب عن العشيرة والخلان وأفراد الأسرة ،باعتبارهم لايضيفون لها أية قيمة ،كما تغترب عن المجتمع باعتباره حشدا من الأفراد ،تجمعهم أواصر الأهداف والمصالح لاغير ،فتُقلع الذات المبدعة عنهم ،وتبتعد إلى حد العزلة..
تقول :”أحس معه بالوحشة والغرابة “ً45

وهو اغتراب وعزلة كائنان في النفس نظرا لما صادفتها من اتجاهات معاكسة ،مجبولة بالألم والحزن أربكت الذات المبدعة ،وجعلتها تقف على حافة أخرى تناشد التغيير تقول :”لتترجم مابالعمق إلى الحبر “

وهذا هو ما جلجل قلم مبدعنا أشرف الخريبي وجعله يركض جامحا ببعديه الطبيعي والإنساني في كبد البياض ..بالتماهي مع الطبيعة والتساؤل الوجودي
بقلم سيال ارتوى من غدران الطبيعة ،التي تتلاحق مشاهدها بأشجارها وأغصانها وأطيارها وليلها ونهارها ،يغرف من حقولها ليخلق ملحمة سردية في قالب شعري .انطلاقا من رؤية خاصة للحياة والوجود،متعمقا في التفاصيل ،ليرسم عالما من الأحداث بسفر لاموقوت، وغير منته في الزمكانية السردية ،مختزلا المسافات بتكثيف لغوي لتعميق المعنى وتوسيع الدلالة ..
تقول الرواية: “كانت السماء تناجي الأرض والكواكب تضحك علانية من تصوري الخائب “ص:18
واحتكاره للطبيعة في هذا الهم الجميل فتّح عيونا زاخرة وشلالات دافقة من الروعة ،يمتح منها مبدعنا سر جمال التغيير، بصفاء العبارة وألق الحرف ،وصدق المشاعر ،بما تمليه عليه ثقافة التذكر والاسترجاع والتلميح، ليتخلص من ثقل موروث ،جاثم على الصدر…والصراع القائم بين المحمول من غياهب الماضي ،والمقبل في الزمن الحاضر ،مزق الذات المبدعة ،حين عاسرها أمر التغيير..
يقول”وما أنت سوى عالم غامض من المفردات والجمل تحمل إيقاع الأغاني القديمة فالذات المبدعة تشبعت بالحداثة والجدة حتى النخاع ، وتريد أن تنسلخ بالمرة من البقع القديمة ،وهذا هو السر الذي زلزل فضاءها ،وجعلها تركض لاهثة خلف أسئلة مبهمة تقول الرواية: “ألاتزال اللحظات دائرية كما الجنون ؟؟؟”ألم يتغير شيء لافي الأرض ولا في السماء ؟؟” هاجس التغيير والتحليق في أجوائه بجناح مهيض ،هيّج الذّات الكاتبة وكبّدها حسرة وأسفا ،وحزنا ممتدا إلى درجة الذوبان والتوحد مع الأشياء ، بقطع المسافات بينها وبين العالم المحيط ،فيختلط الأمر وتتيه بين صور هلامية مسكونة بالوهم ،لم يُخرجها منه غير عناصر الطبيعة
يقول :” والشمس حين تصرخ في وجودنا ،ننسى النهار ،ونبقى في الليل ”
ويشتد التساؤل :”أمسك النهاية بيدي كالبداية لوح الأسئلة”
فالتأمل في الطبيعة وتوحد الذات مع عناصرها ليس بهدف رومانسي فقط يستشري فيه المبدع لحظات العشق ،وإنما تأمل وجودي ملح مستطرد
“ولكن تبقى المسافة أكثر تعقيدا لما كنت أتصور ”
رؤيا وجودية مستفحلة تهيمن بأسئلتها الفلسفية العميقة ،قيدت الذات المبدعة ،وسيجتها بأطياف العتمة والإبهام إلى درجة الانهزام
يقول :” هل هناك تفسير ؟؟”أي تفسير وأي مبرر ،وأي شيء يدافع عني حتى لاأقف كذلك مهزوما أمام نفسي ” ص:36
يبقى التساؤل إذن فارضا نفسه في كل الحالات .

2ــ الجانب الفني

ترفل الرواية في الحداثة حتى النخاع في مبناها ،متنوعة في معناها ودلالتها ،وصياغتها الفنية ،والمرامي المستهدفة ،وتشكيلاتها اللغوية على النحو الذي سأفصّل فيه لاحقا ،فالذات المبدعة تمردتْ بوضوح على الوعي الجمالي المألوف ،مهشمة المتداول من الأنظمة الأدبية الروائية ،والذوقية والجمالية لتؤسس لها آفاقا جديدة ،زارعة بذرة الشك في القيم الإنسانية السائدة ،متجاوزة المعاني المباشرة الواضحة، لتجسيد رؤى فنية تهتم بالجوهر دون السطح ،واللب دون القشور ،في بناء مختلف يربط بين الأحداث والشخصيات والزمان والمكان بكل جزئياتها وتفاصيلها في قالب فني مدهش قافزا عن الحشو والتفسيرات الزائدة لتحقيق التأثير والمتعة والإقناع ،لذا اتخذت بلاغة الصور ،ومتانة الاستعارة،وانتقاء الألفاظ اتجاها فنيا فريدا، اصطفى فيه المبدع من بين الروائيين المحدثين،باستجابته لقضايا إنسانية، بالتعبير السردي على مواقفه في بعدها الكوني .. فهو لا يهمه من الرواية إلا الذات المبدعة والواقع من خلال علاقة جدلية تربط بينهما تنتهي بمتعة فنية لا تقاوم ..

**اللغة
لقد وظف المبدع السهل الممتنع بتوسيع وتبئير الأسلوب، في حبكة مشوقة عبر مسار حكائي ،أحكم القبض فيه على تكثيف الصور الشعرية وتلاحقها ،و على هندسة الرواية بفصولها وسياقها النصي ،وعلى مستوى الإيقاع الدينامي الحركي ،ثم كان التعبير الإجرائي بمعجم لغوي مكتنز بالرمزي والإيحائي والمجازي مرصع بألفاظ منحوتة مشعة سهلة القبض ،ما يبين بالملموس أن للمبدع القدرة على مراوغة اللغة بفنية عالية ،والتلاعب بمشتقاتها متقاربة الألفاظ مختلفة الدلالات ..
يقول “للبحر روح وريح ” ص:6
فالروح يقصد بها جوهر الأشياء ،والريح نسيمه العليل الذي لايستقر على حال ،فتارة هادئ وأخرى ثائر ،والمقصود بهما نار العشق اللافحة التي تفتُر برؤية الحبيبة ،وتتأجج بغيابها ..
يقول:”غيّبتني في غيابها فغبت “ص7 ..
شطحات ساحرة وملاطَمة مدهشة للألفاظ ،لاتمر حتى تترك في القلب لمستها المزلزلة ،وتطويع بهي للغة وجعلِها ملك أصابعه، يعجنها بالطريقة التي يحب ،فيخلق منها كائنات متحركة تنطق بالغريب والمدهش والتجديد غير المعتاد
يقول :”من خلف الزمن الساكن في أحشاء الناس متوهجا الوهج الهمجي ..”ص:
لغة قادرة على الوصف والتحليل والتصوير بكل ماتملكه من إشارات لنقل الأفكار ،والإرهاصات للمستقبل …
لاحظوا معي هذه اللمسة المذهلة التي تستدعيك لتعيش معها عملية الخلق التخييلي ،والتمتع بما توحي إليه من دلالات عميقة :
“والدنيا إذا ماكست أو كست ،وإذا ماحلت أو حلت ،وإذا ما أينعت نعت” ص
للكاتب خبرات فنية أدبية مايكفي للإتيان بأكثر من رواية ،بذائقة جديدة ووعي جمالي جديد ، بفضل التواصل مع الروائيين الآخرين ،والاطلاع الواسع الذي امتلأ به الوجدان

 ..**اللازمة المتكررة
ويظهر تطور وعي الكاتب الجمالي في اللازمة المتكررة التي خلخلت النص، وجعلته يتحرك في كل الاتجاهات ،واللازمة المتكررة لم تندسّ عبثا ،وإنما كانت لها دلالات أدبية وجمالية ونفسية وحركة إيقاعية واهتزازات نلمسها كلما قرأنا وأعدنا ،تَمكنٌ قوي من اللغة ساعد المبدع ،على أن يضع اللازمة المتكررة بإتقان ، ووعي تام، في أمكنتها المناسبة حسب معانيها ودلالاتها ، إما لإنطاق اللغة ، وتحريك المشاعر بهدف الإقناع من ،أو الإلحاح والتأكيد ،أو إشراك القارئ في الموقف ،وإبلاغه بإلحاح لتتضح الصورة ،أو بهدف زحزحة تراكمات قديمة أثقلت الوجدان ،أو بغرض فني يضفي على الصياغة التركيبية الروعة والجمال ،أو بهدف تكرار التساؤل حين غار الجواب في المستحيل ..
“مثل العمر أراك ،أراك الآن أراك ياااااه”ص:

**شعرية السرد

فعلى الرغم من الحدود والفواصل القائمة بين الأجناس الأدبية ،وما تنفرد به الرواية من قرائن ،فإنها على يد المبدع أشرف الخريبي كسرت ذلك الطابور،وجاوزت السرد النثري العادي لتقتحم فضاء الشعر بكل عناصره وحلقاته ودروبه: لفظا، وصورة وتركيبا، ماحية الحدود الناهضة بينهما ، حيث صهرت الشعر في بينتها ،وظل يغديها من ورقتها الأولى إلى آخرها ، قافزة على سرد تفاصيل الأحداث بأدق دقائقها ليتوهج المعنى فيبلغه القارئ بسهولة دون أدنى تعب يذكر فمبدعنا انفرد في هذه الرواية بأسلوب سردي مختلف ،محمول بكل أنواع الفنون الشعرية الحديثة،ليقهر القارئ ،ولايحقق توقعه
يقول :”كنت أنا وأنت سلالتان من الندى البري الساقط “ص4..

صناعة جديدة يلامس فيها الرمزي والإيحائي والمجازي ،من خلال قرائن مشتبكة ليوحد بين متنافراتها في قوالب حداثية ، مقتطفة من الشعر بكل مكوناته ،حيث يختزل العالم ـــ من رؤيته الخاصة ـــ في لغة تتناغم بصور شعرية تهتز بالإيقاع ، في حركة جدلية مبنية على التساؤل، والتأمل ، والاغتراب ،والشك ،والعزلة والحزن ..تُصَور القيم المتلاشية والذكريات الأليمة والمواقف المحزنة ،مايكهرب القارئ…فالكاتب يعبر عن حركته النفسية بلغة مشحونة بالاستعارات ،والصور الشعرية تتلألأ ألفاظها البراقة ببراعة التلميحات ،الشيء الذي أعطى فرصة قراءتها أكثر من مرة ،لأنه في كل قراءة تبزغ معان جديدة وكأن القارئ يتلمسها لأول مرة ..

**السارد
ليس المؤلف وحده من له دربة ومراس في مراوغة اللغة وتمسيد خصلاتها ،وتوليدها حتى تقول الكثير ،بل والسارد أيضا كان يلعب لعبة الخفاء والتجلي بشخصين ،فهو تارة ظاهر كبطل للقصة وطرف فيها تدور حوله الأحداث ، ،يستعرضها بأدق التفاصيل بضمير المتكلم يقول:””حيث كنت أقف أمام البحر أرقبها ” ص:
وتارة يختفي في جبة السرد بضمير المخاطب ،وكأن الأمر لايعنيه .
.يقول : “تهيم على وجهك تخرج للشوارع الوحيدة وحدك “ص:
وتارة هو محور الموضوع يوجه عدسته إلى ماحوله ،ناقلا إلينا الأحداث من الداخل واصفا الأشياء، قاطعا المسافة بينه وبينها ،في بنية سردية تنهض على الانحرافات الفسيفسائية المتكررة ،والومضات الشعرية الرمزية

يقول:”مسكون بالشياطين والجان وأساطير القدامى ص:
وأخرى يصف الوقائع من الخارج ،ويترصد الأحداث من الخلف ،وكأنه محايد وغير مشارك
يقول: :”ويمضي خلف النعش يبكي بصوت مسموع كالنساء “ص:

،مما يبين أن السارد في حيرة من أمره ،يتأرجح هائما بين عدة مسارات ،متعمدا مخاطبة القارئ بانتقاله من حدث إلى آخر يغنيه بتساؤلاته ، مُفجرا منطق الحبكة القائمة على التسلسل والترابط ،في هندسة مختلفة تنمو من الداخل ،على شكل جزيرات تتجاسر بخيوط رفيعة ،لتشكل وحدة في النهاية

**الرواية ترفل في الحداثة

ترفل رواية” سحر البحر “للمبدع أشرف الخريبي في الحداثة حتى النخاع في مبناها ومعناها ،متنوعة في دلالتها وصياغتها الفنية ،وتشكيلاتها اللغوية ،والمرامي المستهدفة ،فالذات المبدعة تتمرد بوضوح على الوعي الجمالي المألوف ،محطمة المتداول من الأنظمة الأدبية الذوقية الجمالية، زارعة بذرة الشك في القيم الإنسانية السائدة ،متجاوزة المعاني المباشرة الواضحة ،فالذات المبدعة مشروخة بنصال الغموض ،والأزمات المصيرية التي تعترض الإنسان ،والأمران معاً انعكسا على الصياغة الفنية بتكسير الحبكة القائمة على المقدمة والعقدة فالخاتمة ،حيث بلوغ المعنى ثم الارتياح ،لتتمثل الواقع بفوضاه العارمة والظواهر بارتباكها المفرط ،للجمع بين ماهو عصي على الفهم والتحليل ،من متنافرات تتلاشى فيها قيمة الإنسان ،فيصبح مجرد شيء من الأشياء ..وقد عرفت الذات المبدعة كيف تقتنص هذه العناصر ،لتشكلها مكونات روائية ،تحركها رؤية فنية عالية ،فتنسج منها أحداثا ،تتخللها قفزات مستمرة من سرد إلى شعر والعكس ،ومن الحاضر إلى الماضي عن طريق التذكر والاسترجاع ،فكان الإلمام بين صور متعددة ومواضيع مختلفة ،لاتوحدها هندسة مضبوطة أو تصميم معين ، هي إذاً كتابة جديدة مفككة صادمة ،تتداخل الحلقات الروائية فيما بينها أحيانا وأحيانا أخرى، تتمفصل وتتكرر بومضات سردية أخرى ،الشيء الذي خلق حركة واهتزازا عن طريق التنويعات والانتقالات المتعددة ..

**الرواية والقارئ

حتى يتسنى للقارئ استيعاب محتوى رواية “سحر البحر ” للمبدع أشرف الخريبي ،على ضوء الثقافة التي أنتجتها ،والأسئلة التي أثارتها ،والوقوف على الجمالي وكشف المنطق الفكري في إبراز قيمته الإنسانية، كمبدع ثانٍ بعد المؤلف ،نازعة عنه صفة التعامل مكتوف الأيدي بتلقيه المعنى وانتهاء الأمر ..يجب أن يتسلح برصيد لغوي قوي، ومعارف ثقافية متينة ،كسلاح لاقتحام الفجوات والإشكالات والفراغات، وسد الثغرات وترميم الرقع ، على كل الحدود ،بما فيها اللغوي من حيث انتقاء الألفاظ ،ونقاء العبارة ،والأدبي من حيث الصياغة الفنية ، والثقافي ، مما يُبديه من معارف واعتقادات وممارسات ،وموقفه الإنساني من خلال تشخيصه للقضايا الإنسانية عن سمت ووعي …لقد أفسح المجال للقارئ ليتأمل المغزى من خلال اهتزاز وعيه الجمالي ،وإلقاء الضوء على المصطلحات والمفاهيم ،لما ينطوي عليه النص من ومضات سردية مشتتة صادمة ،لايمكن فض بكارتها بسهولة،إلا بقراءة عميقة من زاوية خاصة ،تتمكن من لملمة أشلاء النص في سياقه الأدبي ، ومحاولة إيجاد حلول للمعضلات المطروحة ،واستنباط العلاقة بين الشخوص وعوالمها ،وحتى الكاتب نفسه وعالمه، واستخلاص المعرفة الكامنة في ثنايا النص بالتعمق في مفاصله البنائية ،وكشف العلاقات الخفية بين الأشياء معنية بالجوهر دون السطح ،وبالداخل دون الخارج ،واللب دون القشور …

**ما قبل الخاتمة

تندرج الرواية في ما يشبه السيرة الذاتية معتمدة ضمير المتكلم ،وهو نهج يمر من بوابته أغلب الروائيين ،نظرا للتراكمات المكدسة التي اكتنز بها العمق ،من خلال تجارب متعبة مرّ بها منذ النشأة ،فامتلأ بالمبكي والمفرح والمؤلم والمؤذي ،وهذه الطبقات المترسبة المتورمة بين الحين والآخر ،خلخلت الذات المبدعة وأثارت قلقها وانفعالها ،فكان الحل الأجدى تفريغ هذه الشحنات المتقدة بالتعبير، للتنفيس عما بالداخل ،واستحضار مراحل التجربة بأداة وعي تُزاوج بين الواقعي والتخييلي ، بكل ماتعنيه آليات الكتابة من سبك فني في أسمى تجلياته ..فكانت رواية “سحر البحر” تجربة مليئة بالعبرات، والذكريات والأحلام ،أصبحت فيها الحياة مفعمة بالتمرد والانكسار ..فشيّد مبدعنا أشرف الخريبي إطارا وموضوعا لعمله الروائي، كاشفا عن أحاسيسه المشتعلة في نص ماكر مراوغ ،لايبوح بأسراره إلا بعد صدود ومشاق ،يرفل في حلة من الصور الطليقة لايكاد يحدها حد ،تتموج بالفتنة والبهاء موغلة في عالم قصي من الخيال ،منمقة برموز عذبة فياضة كخليج المرجان ،ورؤية فنية ناضجة تتنامى في كل قراءة فتزداد عمقا واكتمالا ،ولا يتأتى ذلك إلا بمخيلة خصبة وإحساس مرهف ،وحدس ثاقب ، وتمكن عميق من اللغة ،وتجربة كبيرة اختزلت نواميسه …

الخاتمة

من خلال ما اطلعت عليه في رواية” سحر البحر “للمبدع أشرف الخريبي ،يتبين أن لائحة التذكر ممتلئة بالهلوسة والجنون،وحكايا خرافية للأحداث ،وهي رمز صريح للحياة المربكة بأسرارها المبهمة ،وأسئلتها الضخمة العسيرة ،وما تنثني عليه من أشياء تحاصر الذات المبدعة ،وتكبلها على أن تعيشها كما ترغب وتأمل ،والسفر في الإجهاد للوصول إلى الحقيقة المحجبة بالتسويف والتزييف ،والطقوس والأعراف والإيديولوجيات المهيمنة ،والأفكار السلوكية الرجعية الغارقة في القدم والتقليد في عالم مسكون بالحساسية والمتناقضات ،عاسرت الذات المبدعة العاشقة للتجديد التواقة للحداثة،فأصبحت تتأرجح بين الصمت على الجمال والتأثيث للآتي ،وبين فضح المهترئ من الواقع وانتقاده جهرا ،ولأنها لا حول لها ولا قوة ،ولاتملك سلطة التفعيل والخلق لتغيير الأوضاع ، دخلت عالم الهلوسة والجنون ،محلقة في البياض لتنشئ حقولا من الروعة والجمال وفق ماتبتغيه فكان السحر في إبداع رواية “سحر البحر “”لامكان يريح التفاصيل على نحو جديد ً”

وتقول الرواية علي لسان الراوي :”في هذا الكون تذهب الأناشيد وتتوارى الظلال ً

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *