أحياء في البحر الميت


*يحيى القيسي

جميل أن نحتفي بالراحلين من مبدعينا، ولكنّ الأجمل بالطبع أن يتم تكريمهم قبل رحيلهم، وأستذكر في هذا المقام الصديق الروائي الفذ مؤنس الرزاز (1951-2002) الذي تمّ اختياره الشخصية الأدبية لمعرض عمان الدولي للكتاب الجاري هذه الأيام، حيث سيتحدث مجموعة من أصدقائه عن جوانبه الأدبية والذاتية، ولي نصيب في هذا الأمر إذ توثقت معرفتي به في السنوات الأخيرة لحياته الحافلة حينما كان يعمل مستشاراً لوزير الثقافة، ورئيسا لتحرير مجلة “أفكار” حيث عملت بمعيته عضواً في هيئة التحرير، إضافة إلى إنجازي مجموعة من الحوارات معه لمصلحة “القدس العربي”، ومجلة “عمان” وفيلماً توثيقياً عن سيرته المتشابكة على المستوى الإبداعي والسياسي قد يتسع المجال هنا للإشارة إليه نظراً لغرابة ما حدث فيه .

معرفتي الأولى بالرجل عبر روايته “أحياء في البحر الميت”، وقد سحرتني بسردها الشائق والمراوغ معاً، وموضوعاتها السياسية الجريئة، كانت هذه الرواية ذات أثر كبير في بداية التسعينات على عدد كبير من أدباء تلك المرحلة أيضاً، وستتوثق العلاقة لاحقاً مع أدب الرّزاز في رواياته اللاحقة، غير أن الرجل بحدّ ذاته كان لا يفصل بين جانبه الأدبي والحياتي، إذ كان مخلصاً للكتابة والقراءة بطريقة يسابق فيها الزمن، وخلال اقترابي من مداراته خلال السنوات الأخيرة من حياته، عرفت فيه العمق الثقافي، والتنوع الإبداعي، والحسّ الإنساني المرهف، وبالطبع مزاجه المتقلب الذي يميل إلى الكآبة، وهذا الأمر ليس سرّاً، وقد تحدث عنه الراحل كثيراً في اعترافاته الجوانية، التي أستغرب عدم صدورها في كتاب منذ أكثر من عشر سنوات على وفاته .
كان مكتب الرزاز في وزارة الثقافة برفقة صديقه يوسف الحسبان منتدى فكرياً وأدبياً مصغراً، وعادة ما يمتلئ بالأدباء والزوار، وفي أوقات الفراغ القليلة يحرص مؤنس على القراءة، وحين توثقت معرفتي به أكثر كنت أزوره في بيته، وعادة برفقة بعض أصدقائه الأثيرين مثل هاشم غرايبة، وسميحة خريس، وسعود قبيلات، وحين اكتشفت لهم مقهى “عمون” في منطقة العبدلي ونال إعجاب الجميع، أصبح المكان الأسبوعي للقاء، وفرصة للتحاور بهدوء، وإحياء لفكرة المقاهي الثقافية في العاصمة عمان، وفعلاً اجتذب هذا المكان الكثير من المثقفين قبل أن يتم هجره لمصلحة فئة أخرى من العشاق والمراهقين .
أعود إلى موضوع فيلم “سيرة مبدع” الذي أنجزته عن الأديب الراحل في نهاية العام 2001 وبداية العام ،2002 حينما تم اختيار عمان عاصمة للثقافة العربية، وكان المشروع يتضمن أبرز عشرين شخصية في مجالات الرواية والتشكيل والشعر والغناء والتمثيل والنقد ومختلف صنوف الإبداع الأدبي والفني، وكان مؤنس من أصغر الشخصيات المختارة عمراً، خصوصا مع وجود باحث مثل روكس العزيزي قد شارف المئة عام، وناقد مثل د . إحسان عباس في الثمانينات من عمره، ومع ذلك أصرَ الرزاز حينها على أن يتم إنجاز الفيلم عنه في البداية لأنه لا يضمن أن يغير رأيه لاحقاً ويرفض الفكرة كما بدا لي، ولم أدر سرَ نشاطه غير المعهود حينها، وهو يقودنا مع فريق التصوير والزميل المخرج فيصل الزعبي إلى أماكن مختلفة من جبل “اللويبدة” حيث طفولته، وبيته لاحقاً، ولم يكد الفيلم يكتمل ومؤنس في كامل عنفوانه حتى فوجئنا بغيبوبته العميقة، فاقترحت على المخرج أن نصوره أثناء ذلك في المستشفى، فإن أفاق لم نعرض اللقطات، وفعلاً تم التنفيذ، لكن سرعان ما عاجلنا في اليوم التالي بالرحيل، وجرى تصوير جنازته، فكان الفيلم عجيباً حيث: مؤنس يتكلم . .ثم يمرض . . . . . . ثم يموت . . .!
فالسلام على روحك الجميلة الحيّة يا مؤنسنا في البحار الميتة.
__________
** روائي وإعلامي من الأردن
عن الخليج الإماراتية
رئيس تحرير ثقافات

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *