نص نادر لآلبير كامي صحافي حرّ سنة 1939

*ترجمة: أيمن حسن

في عام  1939 كتب ألبير كامي (1913-1960) نصّا يعتبر مؤسسا لفنّ الصحافة. كان من المفروض أن يصدر المقال في جريدة ”لو سوار رييبليكان” ( المساء الجمهوري) وهي صحيفة يومية تصدر بالجزائر العاصمة كان البير كامي يرأس تحريرها، لكن وقع حظْر  المقال.
بعد حصول الكاتب على جائزة نوبل للآداب سنة 1957، عثرت جريدة ”لومند” على هذا النص الذي لم ينشر إلى حد اليوم، وفيه يثير  كامي المواصفات التي يجب أن يتحلّى بها الصحفي. وهي ليستْ بالأمر بالهيّن .
القارئ المتمرس قادر أن يتبين أسباب تواصل هذا الحجب.  ،خاصة في الظروف الراهنة ،، منذ اندلاع “الثورات ” العربية وسقوط أنظمة قمعية لتعوض بأخرى تتصرف أحيانا بعنف أشدّ  من سابقاتها مع الصحفيين.،  علاوة على تهديد حرية التعبير ولا أدلّ على هذا من الجريمة  النكراء التي لحقت بهيئة تحرير جريدة “شارلي هيبدو” في السابع من جانفي 2015، في قلب باريس .
نصّ البير كامي

من المبادئ الحسنة في فلسفة جديرة بهذا الاسم هو ألا نستغرق في بكائيات تافهة أمام واقع لا يمكن أبدا تجنّبه. وليست المسألة في فرنسا هي معرفة كيفية الحفاظ على حريات الصحافة اليوم وإنما هي البحث عن كيفية بقاء الصحافي حرا أمام إلغاء هذه الحريات. إنها مشكلة لا تهمّ المجموعة قدر ما تهمُّ  الفرد.
إنّ هذا حقّا ، هو ما نروم تعريفه في هذا الصدد ، فالظروف و الوسائل هي التي عبرها يمكن للحرية ليس فقط أن تُحْفَظَ ، بل و أن تتجلّى  ، و ذلك في صلب الحرب و إكراهاتها ، وهي أربع وسائل هي الفطنة، والرفض ، والسخرية،  والعناد،  إذ يفترض الوضوحُ مقاومةَ الكراهية و تقديس القدرية.
من الأكيد أن كل شيء يمكن إزاحته في عالم تجربتنا. إن الحرب نفسها التي هي ظاهرة إنسانية يمكن تجنّبُها  أو إيقافها  بوسائل إنسانية في أيّة لحظة،  ويكفي معرفة السياسة الأوروبية في السنوات الأخيرة للتأكد من أن للحرب أسبابًا  بديهيّة. فهذه الرؤية الواضحة للأشياء تزيح الكراهية العمياء واليأس الميسر للأمور.
لا ييأس صحفي حرٌّ مطلقا سنة 1939 ويصارع في سبيل ما يعتبره صوابا، وكأن عمله ذاك سيؤّثر في مجرى الأحداث ، وهو لا ينشر شيئا  من شأنه أن يثير الكراهية أو ينتج اليأس،  فكل هذايكون في متناول  الصحفيّ .
ومن الضروري أيضا ، أمام مدّ الغباء ،مواجهة بعض الصدّ ، كما إنّه ليس بمقدور كل مصاعب العالم أن تجعل من فكر شبه نقيّ  فكرا ضالعا في القذارة. فيكفي معرفة آليات المعلومات كي تسهل صحتها. و هذا هو ما يجب أن يهتم به صحافيّ حرّ وذلك أنه إن كان لا يستطيع قول كل ما يعتقده فإنه قادر على عدم قول ما لا يعتقده ، ويعتبره خطأ. وبالمثل فإن صحيفة حرّة تقيّم بما تقوله لا بما لم تقل.
وإن كانت هذه الحريّة ضالعة في السلبية فهي تبقى الأكثر أهمية إن تمكنا من الحفاظ عليها فهي التي تمهد لميلاد الحرية الحقيقيّة.  و بناء على ذلك تنفرد الصحيفة المستقلة بتقديمها لأصل المعلومات وتساعد القرّاء على تقيمها ودحض الدمغجة وتحذف الشتائم وتعوض بالتحاليل أحادية المعلومات. إذن تخدم الحقيقة قدر استطاعتها الانسانية. هذا الإجراء حتى و إن كان نسبيّا يمكنها على أقصى تقدير من رفض أكثر شيء في العالم يمكن قبوله ألال وهو خدمة الكذب.
حان وقت التطرّق لمسألة السخرية. يمكن اعتبار أن عقلا يملك ذوقا ووسائل لفرض الحواجز هو رافض للسخرية. لم نََرَ  هتلر ، وهو مثال من بين الكثير ، يستعمل السخرية السقراطيّة. تبقى السخرية إذن سلاحاً ضد الطغاة الأقوياء. إنها تكمل الرفض بمعنى أنها تؤدي إليه،  ليس قطعا ما هو خاطئ بل قول غالبا ما هو صحيح.
صحفيّ حرّ سنة 1939 لا يشكّ  في غباء هؤلاء الذين يقمعونه ، إنه متشائم في ما يخص الإنسان. إنّ حقيقة معلنة بنبرة دغمائية تحذف تسع مرات من أصل عشر،  والحقيقة نفسها التي تصاغ بلطف لا تحذف إلا خمس مرات من أصل عشر. هذه المعادلة تصوّر إمكانيات الذكاء البشري. بذلك تفسر الصحف الفرنسيّة مثل ”لو مارل” ولو كانار أونشاني” القادرة على نشر المقالات الساخرة بانتظام. إذن صحافيّ  حرّ سنة 1939 ساخر بالضرورة ، وإن كان ذلك ذا تبعات وخيمة. لكن الحرية والحقيقة عاشقتان متطلبتان ولهذا السبب قليل هم عشّاقهما.
من الجلي أنّ هذه الرّوح المعرّفة بإيجاز لن تدعم فعليا إلا بقليل من التعصّب، فعلى الرغم من العراقيل الموضوعة ضد حريّة التعبير ، فانها ليست الأكثر صرامة لتتمكن من إحباط الفكر لأنّ التهديدات و الإيقافات و التتبعات تعطي في فرنسا المفعول المضادّ لما يُتوقّع منها. غير انّه يجب الاعتراف  بوجود عقبات مثبّطة للعزائم : تواصل الحمق و السفاهة المنظمة والغباء الحادّ وغيرها . وهنا توجد العقبة الكبرى التي يجب تخطّيها. وهنا ، أيضاً، يبدو التعصّب بمثابة الفضيلة الجذريّة. وفق تناقض غريب، إلاّ أنّه بديهيّ، فإنّ هذا التعصّب يخدم الموضوعية والتسامح؟. هنا إذن جملة القواعد للحفاظ على الحرية حتّى داخل العبوديّة. وماذا بعد؟ يسألنا بعضهم. و ماذا نقول بعد ذلك؟ علينا بالتريّث. وإذا أراد كلّ فرنسيّ أن يحافظ في محيطه فقط عمّا يعتقده صحيحا وصائبا،  وإذا أراد من موقعه المتواضع المحافظة على الحريّة والمقاومة من أجل الخير و معرفة إرادته فحينئذ فقط ستكسب هذه الحرب بالمعنى العميق للكلمة.
______
*مجلة نزوى

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *