خاص- ثقافات
*عمرو أديب
يجلسُ جورج مارتن في مكتبِهِ، يفرشُ أمامهُ ماضي البشريّةِ و حاضرَها، يستحضرُ عفونةَ التاريخ الإنسانيّ، و أنهارَ الدّماء التي لا تجفّ فيه ، ثمّ يصهرها كلّها.. الدّماءَ و الدّموعَ و الصّرخاتِ و القسوةَ و الخُبثَ و الرّعبَ و الفجيعة، ليصيغَ بشريّةً ثانيةً مكافئةً تماماً، و ينشئَ تاريخاً مختصراً، موازياً للتاريخِ الحقيقي.. موازياً للغاية، و كأنّه يهمسُ بخبثٍ في آذاننا جميعاً: ” لمَ الإطالة و التنميق ؟ هذا هو تاريخنا، أيها الإخوة، و ها نحن ذا ” ..
توحي الأحداثُ بهذا الانطباع من الموسم الأوّل، و تستمرّ بالإلحاح عليه حتى نهاية الموسم السادس هذه هي حقيقة التاريخ.. تاريخنا، و هذه الشخصيات تمثلنا نحن، البشر، بكل جشعنا و غرائزيتنا و ضعفنا و عجزنا أمام الموت..
الموت، أجل، ربّما كان أكثر ما يميّزُ هذه السلسلة هو أنّ الموتَ فيها هو السيد الأوحد، و المحرّكُ النهائي للأحداث كلها، يقتحمُها فجأةً دون أيّ شفقة، و يقلبها رأساً على عقِب. فبعد أن تُرغمكَ الظروف، مثلاً، على الوقوف إلى جانب نيد ستارك، كممثّلٍ للخير، يُقطَعُ رأسه دون أيّ مراعاةٍ لأي شيء ، و دون الإذعان السخيف المعتادِ في فنون القَصِّ أغلبها لما يسمونه: حتميّة انتصار الخير على الشر، و ضرورة فوز الأبطال الشجعان.. إذ ها هو البطل الشجاع، يُهزم و يُقطع رأسه بأقسى الطرق، أمام ابنتيه و أمام الناس جميعاً، دون أن تحرك قوى الخير و الحق و النور ساكناً..
و هذا السيد الأوحد، الموت، قادرٌ على التدخل دائماً و في أية لحظة، مهما بدا لكَ بعيداً.. بل و أكثر من ذلك، هو يتدخّل تماماً حين تُشعركَ الظروفُ بأنه الاحتمال الأبعد.. ها أنتَ مثلاً، تشاهد حفلة عرسٍ في ليلةٍ هادئةٍ جميلة، يُتمّ فيها روب ستارك – خليفة والده في تمثيل الشجاعة و البطولة و الطموح – تصالحه مع آل فري..خلال الأمسية يقبّل زوجته الحامل.. يتلمّس بطنها المتكوّر و يتهامسان معاً حول الغد الجميل كأيّ زوجين متحابّين، ثمّ فجأةً، و في غمرة هذا المساء الجميل، تُذبَحُ زوجة روب ستارك أمامه، و يخترقُ سهمٌ صدره.. ثمّ يُجزُّ عنقه و عنق أمّه بمنتهى البساطة، لتنتهي حقبةٌ مهمةٌ في السلسلة، و تبدأ حقبةٌ جديدة. الموتُ هو الإله.. هو القدر.. هو الحقيقة الوحيدة، هذا ما يقوله جورج مارتن باستمرار عبر أحداث المسلسل.
و لكنّ ما يثير الرعب حقاً، هو التصالح المذهل مع فكرة الموت عند الشخصيات، فهو رغم سطوته الهائلة أمرٌ عاديًّ بالنسبة إليهم، لا يفاجئهم، بل هم قادرون على استياعبه و تجاوزه إلى أبعد حد. و ربما تعمّد المؤلفُ ألّا يجعل للكآبة الناتجة عن الفقد الأبديّ وقتاً في سياق الأحداث، لأن التاريخ الحقيقي، لم يحتفِ فعلاً كما نتخيل بتلك الكآبة.. بل لقد كان أقسى بكثيرٍ من أن يلقي لها بالاً.
من زاويةٍ أخرى، و عبر أحداث المسلسل كلها، تُصوَّرُ غريزة الجشع البشريّ بكل احتمالاتها. إذ إنّ كلَّ هذه العائلات، بكلّ أفرادها، يحرّكُ جذورَ صراعاتها شيءٌ واحد: هو العرش. كلٌّ منهم يريد لنفسه السلطة كلها، إنه الصراع الأساسي، الأناني ، صراع الكائنات البدائية نفسه على الوجود و البقاء و الارتقاء، إنها الغريزة الأولية.. التي تولّد كل تحركاتنا، و تخُطُّ كلّ آفاقنا، التي تأخذنا حيثما تشاء دائماً و أبداً، التي تتلاعب بنا و بحيواتنا بكل سهولة.. أجل نحن لعبتها.. و كل تلك الشخصيات و الأحداث كانت لعبتَها… و ” لعبةَ العروش “.
و في سياقٍ مرافقٍ، يُبرز المسلسل الدّور الحاسم و المدهش لغريزة الجنس في تحريك التاريخ، و قد ذهب في ذلك إلى الحد الأقصى، فصوّر هذه الغريزة بشكلها الأكثر دناءةً و فظاظةً، ذلك أنّ الحرب التي شاهدناها، انطلقت شرارتها لأنّ طفلاً صغيراً شاهد أخاً و أخته يمارسان الجنس في برجٍ ناءٍ.. كما أنّ روب ستارك قُتِل لأنه ضعف أمام حبه لامرأةٍ فتزوجها، ناكثاً بذلك عهوده ، و مخاطراً بالحرب كلها..
و لكن لا وقت للرومانسية أبداً في أحداث المسلسل، بل على العكس فإنها تُفقأ و تُكسر دائماً بشكل متعمد، كما حدث مع أمير دورن، الذي قبّل فتاته بشغف و وعدها بألّا يموت، ثمّ ذهب إلى القتال، و نلمحُ التماع عينيها حين اقترابه من النصر، ثمّ فجأةً.. تُفقأ عيناه و يُفجّر رأسه بغلٍّ غير عابئٍ بصرخاتها و دموعها..
و في التاريخ المكافئ الذي خلقته السلسلة، كان للدين نصيبٌ كبيرٌ في القدرة على تحريك البشر أفراداً و مجتمعات، كما في التاريخ الحقيقيّ تماماً، و ظلّ استغلاله للطبقات العليا في المجتمع.. و استغلالها له، كما في التاريخ الحقيقي أيضاً ، قوياً و مؤثراً لأبعد حدّ..
الإنسان حيوانٌ جشعّ غريزيٌّ، متديّن.. و غير خالد. هكذا يعيد المسلسل صياغة التعريف الأرسطيّ للكائن البشري.. بنفَسٍ ملحميٍّ مدهش..
لقد صوّر الكاتب في هذه السلسلة، كلَّ المحركات العميقة للنفس البشرية، و قدّم حبكاتٍ هائلةً للتعبير عن كل ذلك، ثم قام كاتبا السيناريو بمشهَدَةِ تلك الحبكات ببراعةٍ و تشويقٍ منقطعَي النظير بكل معنى الكلمة.. و لذلك كله.. استحقّ العمل الضّجةَ غير المسبوقة التي أُثيرت حوله..
في النهاية.. سأتخيّل بدوري مشهداً صغيراً موازياً: توماس إليوت.. الشاعر النوبلي، الذي ابتكر مفهوم المعادل الموضوعي، و كتب الويست لاند بناءً عليه.. حيٌّ حتى هذه اللحظة، شاهدَ المواسم الستة التي صدرت من غيم أوف ثرونز، بعد نهاية الموسم السادس اتصل بجورج مارتن و ديفيد بينيوف و دانييل وايس و طلب مقابلتهم. حين التقاهم، رفع قبعته و صاح: ما قمتم بتقديمه هو تماماً، المعادلُ الموضوعيّ لتاريخ هذه البشرية العفِن.. شكراً.
_______
*كاتب سوري