* هاشم صالح
ألف هذا الكتاب البروفسور جيرار دوليدال أحد كبار المختصين الفرنسيين بالفلسفة الأميركية وبالأخص الفلسفة الذرائعية أو البراغماتية. وفي هذا الكتاب يقدم لنا المؤلف لمحة تاريخية عامة عن أكبر فيلسوف أنجبته أميركا في تاريخها المعاصر: جون ديوي، وهو يقول منذ البداية ما معناه: ولد جون ديوي في منطقة فيرمون بالولايات المتحدة عام 1859 ومات في نيويورك عن عمر يناهز المائة تقريبا عام 1952. وقد أصبح فيما بعد أشهر فيلسوف أميركي في مجال علم التربية وعلم النفس التطبيقي. وأثر بذلك على البرامج الدراسية الأميركية وعلى أجيال متتالية من الطلاب والطالبات.
والواقع أنه كان أستاذا في جامعة شيكاغو التي تعتبر من أشهر الجامعات الأميركية. وكان يدرس في قسم الفلسفة داخلها وكذلك في قسم علم النفس والتربية. وقد أسس هناك مدرسة تجريبية تحت عنوان: المدرسة التجريبية لشيكاغو. وبين عامي 1896 – 1904 أسس مختبرا علميا للدراسات النفسية التطبيقية من أجل فهم التربية بشكل أفضل، وكان يعرف التربية على النحو التالي: إنها علم النفس التطبيقي، فلا يمكن أن تربي الأجيال الجديدة بشكل صحيح إلا إذا فهمت تركيبة النفسية البشرية وحاجياتها، وقد نقلت روسيا منهجيته التربوية إليها بين عامي 1900 – 1930 وطبقتها على برامجها التعليمية قبل أن تتخلى عنها تحت ضغط الشيوعيين.
والواقع أن جون ديوي كان متأثرا بالفيلسوف الألماني الكبير هيغل على الرغم من أن هذا الأخير لم يكن براغماتيا وإنما مثاليا، كما تأثر كثيرا بأفكار تشارلز داروين الذي كان قد شغل القرن التاسع عشر بنظريته الشهيرة عن تطور الأنواع، وعموما فإن أفكار جون ديوي السياسية هي أقرب ما تكون إلى الاشتراكية.
ثم يردف المؤلف قائلا: كان ديوي يعتبر الروح البشرية عبارة عن أداة لا تنفك تتطور وتتيح للإنسان أن يتأقلم مع المحيط السائد، وبفضل اللغة والتربية فإن الفرد يغتني بالتجارب الجديدة عن طريق احتكاكه بأشخاص آخرين أكبر منه سنا وتجربة، ولكن ينبغي على المعرفة التي يكتسبها الإنسان أن تنصهر في شخصيته وتجاربه الذاتية لكي تصبح فعالة وذات معنى، وبالتالي فإن جون ديوي كان يدين التعليم المقدم للتلامذة على هيئة التلقين والحفظ الببغائي عن ظهر قلب، وهو للأسف نوع التعليم السائد في مدارسنا وجامعاتنا العربية، من هنا يأتي الفشل الذريع للعالم العربي على جميع الأصعدة والمستويات، فإذا فسد نظام التعليم فسد كل شيء، نقول ذلك ونحن نعلم أن التعليم لكي يكون مفيدا وناجعا ينبغي أن يلبي حاجيات الإنسان وتساؤلاته الشخصية، ولا ينبغي أن يفرض عليه فرضا عن طريق الوعظ الذي يلغي إمكاناته العقلية.
والواقع أن أهمية جون ديوي تعود إلى أنه كان أول من طرح التساؤلات على التربية الديمقراطية الحديثة في أميركا، وقد بدأ يتساءل منذ بداية القرن العشرين قائلا: هل تتوافق مدارسنا مع المثال الأعلى للديمقراطية، إذا كانت تقدم للطلاب إمكانية الاعتراض عليها وعلى برامجها فإنها تكون فعلا ديمقراطية، أما إذا كانت ذات طابع تلقيني محض فإنها تكون عندئذ استبدادية، ينبغي أن نعود الطلاب على الاحتجاج والمساءلة الحرة لا على القبول الأعمى والخنوع لكل ما يلقى عليهم من دروس أو أفكار.
ويرى المؤلف أن يناقشوا مضامين البرامج الدراسية بكل حرية، إلخ. أما المدرسة التي تكتفي بالتلقين والتدجين العقائدي كمدارس الشيوعيين مثلا أو الأصوليين عموما فإنها لا تخرج طلابا أحرارا أو مواطنين حقيقيين وإنما تخرج القطيع والبهائم، وبما أن طلاب اليوم هم مواطنو الغد فإنه يفضل أن تتبنى الدولة التربية الديمقراطية من أجل تخريج مواطنين أذكياء وصالحين.
ولكن إذا كان جون ديوي يقبل أفكار أستاذه هيغل عن الديالكتيك، أي دراسة الصيرورة البشرية وقوانينها الجدلية، إذا كان يقبل تصوراته عن كلية الوجود وتطور الأفكار من عصر إلى عصر وقوتها التأثيرية، إلا أنه يفضل مصطلح العقل العلمي على مصطلح الروح المطلقة لهيغل، فجون ديوي يعتقد أن العلم هو وحده الذي يتطور من مرحلة إلى أخرى وهو وحده القادر على تغيير العالم ونقله من مرحلة متخلفة إلى مرحلة متقدمة. بالطبع فإنه يتفق مع هيغل على ضرورة الانتقال من مرحلة التعسف والاعتباط إلى مرحلة دولة القانون والحريات الديمقراطية الحديثة، وهنا لا يوجد أي خلاف بين الرجلين، فكلاهما مع الحداثة والعلمانية والفهم المستنير للدين.
ثم يردف المؤلف قائلا: بعد أن درس جون ديوي الفلسفة وعلم التربية في جامعات ميتشيغان ومينيسوتا وشيكاغو انتقل إلى جامعة كولومبيا في نيويورك عام 1904. وكان ذلك يعتبر بمثابة ترفيع له بعد أن انتشرت سمعته أو شهرته في شتى أنحاء الولايات المتحدة الأميركية، فجامعة كولومبيا بنيويورك من أهم الجامعات الأميركية ولا تعادلها إلا جامعة هارفارد. ومعلوم أن إدوارد سعيد كان أحد أساتذتها، وقد بقي ديوي يدرس في تلك الجامعة حتى إحالته على التقاعد عام 1930، أي بعد أن تجاوز السبعين من العمر، ثم عاش بعدئذ عشرين سنة أخرى أو أكثر قليلا.
وهكذا اخترق جون ديوي التاريخ الأميركي من منتصف القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين. وأتاح له هذا العمر الطويل أن يشهد بل ويرافق كل القفزات النوعية والتطورات التي طرأت على الولايات المتحدة الأميركية. وأصبح هذا الفيلسوف العقلاني الحكيم رمزا على الحياة الأميركية ككل. نقول ذلك وبخاصة أنه جسد قيم الحرية والديمقراطية ومعاداة التمييز العنصري الذي كان شائعا جدا في ذلك الزمان.
وهناك ميزة أخرى لجون ديوي هي أنه رفض دائما الانغلاق في اختصاصه الضيق كما يفعل أساتذة الجامعات عادة، على العكس، فإنه راح ينفتح على جميع الاختصاصات والعلوم الإنسانية، وكان يرى أن الفيلسوف ينبغي أن يكون ملما بعلم الاجتماع، وعلم النفس، وعلم التاريخ وسواها لكي يصبح فيلسوفا حقيقيا، وبالتالي فقد كان فيلسوف الثقافة العامة الشاملة على طريقة نموذجه الأعلى هيغل.
ثم يطرح المؤلف مسألة العلاقة بين جون ديوي والفلسفة البراغماتية أو الذرائعية المسيطرة على أميركا، وهنا يقول بما معناه: كان جون ديوي براغماتيا على طريقته الخاصة، بمعنى أنه كان يقبل بمسلمات هذه الفلسفة التي تسود الولايات المتحدة مثلما تسود الفلسفة الديكارتية فرنسا.
وهذه المسلمات تقول ما يلي:
1- لا يمكن للفلسفة أن تعيش لوحدها في برجها العاجي وتنعزل عن بقية العلوم أو عن هموم الحياة، فالفيلسوف ينبغي أن يكون منخرطا في هموم المجتمع وقضاياه وإلا فلا معنى له ولا لفلسفته.
2 – الحقيقة التي يكتشفها الفيلسوف ينبغي أن تكون مفيدة للمجتمع وفعالة ومثمرة وإلا فهي ترف فكري لا لزوم له، وهكذا تقيم الفلسفة البراغماتية مطابقة بين الحقيقة والمصلحة أو الحقيقة والمنفعة، فكل ما ينفع المجتمع صح وكل ما يضره غلط حتى ولو كان صحيحا، من هنا الطابع البراغماتي للسياسة الأميركية والحياة الأميركية ككل.
3 – الواقع لا وجود له إلا بالقياس إلى الإنسان، وبالتالي فالفلسفة البراغماتية أو الذرائعية لا تعترف إلا بالواقع المحسوس وترفض متاهات الميتافيزيقيا التي تتحدث عن الأشياء المطلقة واللانهائية التي تتجاوز حدود العقل.
4 – غاية الفلسفة إسعاد الإنسان على هذه الأرض وتشكيل مجتمع متقدم يلبي حاجيات كل أفراده، أما كل ما يتجاوز ذلك من تساؤلات غيبية عن الموت والحياة بعد الموت فلا يهم الفلسفة البراغماتية، فهذه الفلسفة تريد تحقيق الجنة على الأرض، وهي تعتبر أن المجتمع الأميركي حققها إلى حد كبير عندما أصبح أقوى مجتمع في العالم بفضل العلم والتكنولوجيا أساسا. وختاما هذه هي المسلمات الأساسية للفلسفة البراغماتية التي كان يتبناها جون ديوي وسواه من كبار فلاسفة أميركا، ونلاحظ أن السياسية الأميركية ليست بعيدة عنها على الرغم من المغامرات الحمقاء التي قام بها المحافظون الجدد مؤخرا، فهي سياسة براغماتية عموما، ويتوقع المراقبون أن يعود القادة الأميركان إلى هذه الفلسفة التي أدت إلى نجاح أميركا وتفوقها على جميع أمم الأرض، فالبراغماتية هي فلسفة الناس الواقعيين الذين لا يؤمنون إلا بالتجربة المحسوسة والفعالية الفكرية وتحقيق التقدم المادي والحضاري، وبالتالي فالإنسان البراغماتي هو نقيض الإنسان المثالي الذي يعيش بعيدا عن الواقع أو محلقا في سماوات الأحلام.
__________
*(الشرق الأوسط)