فائض الشهداء وشحة الشهود

*خيري منصور

الثقافة بمعناها الدقيق هي الحراك الإنساني الأكثر عصيانا على التدجين في خانات تصنّفها أو تربطها ميكانيكيا بحراكات أخرى، سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو حتى اقتصادية، فهناك ثورات بشّرت بانقلابات كوبرنيكية على صعيد الإبداع والتحرر من الارتهان للماضي لم تلد من صلبها، أو تفرز أفضل من الثقافة التي أنجبتها ومنها، الثورة الفرنسية.
كما أن القرن التاسع عشر الروسي شهد موجات إبداعية رغم النظام القيصري، وليس بفضله، وما جاء بعد ثورة اكتوبر/تشرين الأول عام 1917 من إنتاج فكري وأدبي لم يكن موازيا، أو حتى متناغما مع الطروحات السياسية السائدة، وما حدث هو العكس، إذ سرعان ما ارتطم المبدعون بسقف إيديولوجي، كما حدث لمكسيم غوركي بعد صدور روايته الشهيرة «الأم»، ثم ما أعقب ذلك من قطيعة بين الحلم والواقع، كما يقول برديائيف، وانتهى الأمر إلى انتحار عدد من الشعراء منهم سيرجي يسنين وماياكوفسكي، وبلغ الأفق ذروة انسداده في الحقبة الستالينية، التي يرمز إليها الرقيب جدانوف الذي قال لشاعر أصدر ديوانا عن الحب، يكفي أن تطبع من الديوان نسختان فقط واحدة للشاعر والاخرى لحبيبته، لأن الشعب لا شأن له بالأمر. وشاعت في تلك الآونة مصطلحات من طراز شعراء الكولوخوز، ثم كانت رواية أهرنبورغ «ذوبان الجليد» بمثابة الإرهاص بنهاية الستالينية، وهناك حراكات وانتفاضات في الكثير من مناطق العالم اقترضت ثقافيا من أسلافها أكثر مما قدمت لأبنائها وأحفادها، لأنها لم تكن قد أنضجت خميرتها وبالتالي حاضنتها كي يحدث الافتراق بين ما ثارت عليه وما ثارت من أجله.
ولو أخذنا الثورة الفلسطينية مثالا فإن أبرز الأسماء التي اقترنت بها إعلاميا ورمزيا ولدوا وعاشوا تحت الاحتلال منذ عام 1948، ورغم أن اقتران أسماء محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وراشد حسين وأميل حبيبي وغيرهم، بالتحول الدراماتيكي الذي أحدثته هزيمة حزيران، إلا أنهم لم يكونوا من نتاجها وأنجزوا بواكيرهم وهم يراوحون بين الإقامة الجبرية والاعتقال، ثم حدث منعطف مثير للتأمل حين بدأ معظم الشعراء الفلسطينيين يشعرون بالضيق من التصنيف الجغرافي، وحين تذمّر محمود درويش من الاختزال والجغرفة، سرعان ما ردد الصدى آخرون، بدأوا يتنافسون على القفز بالمظلات من قصائد المقاومة ومنظومة مفاهيمها وقيمها باتجاه شعر أكثر اتساعا، على الرغم من أنهم عاشوا أشد فصول الدراما الفلسطينية توترا وإثارة واستدعاء للاحتياطي الوجداني والثقافي في مواجهة ثالوث العبرنة والأسرلة والتهويد.
وحين نراجع المنجز المعرفي وليس الأدبي فقط في العالم العربي خلال السنوات الست التي تنتظر عاما آخر كي تصبح عجافا، نجد أن الشهداء هم أضعاف الشهود، وأن التراجيديا في بعض البلدان بقيت أعلى قامة من أن يطالها الإبداع، وكانت الذريعة في العام الأول للحراكات التي راوحت بين الراديكالي والإصلاحي هي أن الأدب يحتاج إلى زمن تختمر فيه التجارب، أو أن النحّات يحتاج بعض الوقت لانتظار الصلصال الساخن كي يبرد قليلا ويغرز أصابعه فيه، وها هو الصلصال قد برد وبعض التجارب تجاوزت الاختمار إلى التعفن لفرط الهجران، وما أفرزته أعوام الدم والدمع والتشريد لم يصل بعد إلى ركبة التراجيديا المديدة في قامتها وقوميتها وقيامتها.
لقد كان من خطايا النقد المدرسي وكتابة تاريخ الأدب وفق تقاويم سياسية أن اختلط حابل الإبداع بنابل الثرثرة، وقمح الثورة بزؤان الفوضى، وكان الربط الميكانيكي بين الحريات السياسية وصعود الإبداع افتراء صريحا على حالات كان فيها التناسب عكسيا وليس طرديا بين الاستبداد والأشواق للخروج من عباءته السوداء.
في مصر قبل ثورة يوليو/تموز كان الفن والكتابة بأنواعها في حالة من التفجر، رغم الاستبداد والإقطاع والأسماء التي تعلمنا منها ولم يتلاش صداها، تعود مكوناتها الأولى إلى الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، ولو عدنا إلى ما هو أبعد لوجدنا أن ما كتب ونشر في مصر في نهايات القرن التاسع عشر ومنه «طبائع الاستبداد» للكواكبي وأعمال أخرى لمحمد عبده والأفغاني وغيرهم، لم يكن بفضل الحريات بل كان رغما عن الاستبداد، لهذا دفع النهضويون الثمن من دمهم، حين طاردهم الباب العالي وماتوا غرباء أو مسمومين.
إن المثقف الجدير بهذه الصفة عضويا وليس من خلال الاستيلاد القيصري بأنابيب الحزب والقبيلة والسلطة، لا ينتظر الحرية التي ينجزها له الآخرون كي ينسج منها نصوصه وبياناته، فهو يجترحها ويعبّد طريقها وتدمى قبضته في طرق بوابتها العملاقة الموصدة.
وكم أتمنى أن يعود النقد العربي من عطلته الطويلة وينهي بطالته المزمنة كي يقدم لنا نماذج من ثقافة تليق بتشريد نصف شعب العراق بعد احتلاله وتشريد نصف الشعب السوري بعدما ابتلي به، ثم يقدم لنا مرثية واحدة من طراز مرثية سعدي يوسف للسياب، أو يوسف الصائغ، تليق بتمثال ذُبح ودمع ناحته يرشح من مساماته.
نفهم كيف يمكن للاغتراب عن الذات واستلاب الوعي أن يؤدي إلى التمسحة واللامبالاة الديناصورية التي أدت إلى الانقراض، لكننا لا نفهم كيف يمكن لجريح أن يرى من السكين التي طعنته غير مقبضها العاجي أو الذهبي الأنيق، وكيف يمكن لأب أن يصعد على ظهور ابنائه في البحر كي يطفو وينجو من الغرق!
إن للثقافة ثوراتها وانتفاضاتها وقياماتها لكن بأدواتها ورؤاها فهي ليست القرعاء التي تتباهى بجدائل ابنة خالتها السياسية.
فأين هي ؟

___
*القدس العربي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *