هو علي بن محمد بن العباس البغدادي من أعلام القرن الرابع الهجري ولد نحو (310-414 هجري) 922- 1023 م اختلف العلماء في نسبته (التوحيدي) والأرجح أنها جاءت من عمل والده الذي كان يعمل ببيع نوع من التمور في بغداد يسمى التوحيد .
لا يمكن تجاهل العلاقة المحبطة بين المثقف والسلطة في العصر الوسيط فلقد لاقى المثقف في هذه الفترة الأمرين ،في غياب أي مدافع عنه ، وإذا لم يجد المثقف من يتولاه من النخب الاجتماعية قد يموت من الجوع وهذا ما حصل للتوحيدي ،الذي أحرق كتبه في نهاية حياته وبعث برسالة للقاضي أبى سهل يقول فيها : ( إني جمعت الكتب أكثرها للناس ،وطلب المثالة منهم ، ولعقد الرياسة بينهم ، ولمد الجاه عندهم ،فحرمت ذلك كله..) هكذا لم يكن أمامه وهو من كبار أعلام عصره أن يعمل في مهنة الوراقة التي يسميها ( حرفة الشؤم ) لانها لا تضع صاحبها في طبقة المتقدمين من مثقفي عصره، وحادثته مع ابن عباد مشهورة ،حيث قام التوحيدي ليحييه ، فنهره قائلا : اقعد فالوراقون أخس من أن يقوموا لنا . ومن المزري أن يعمل بهذه المهنة هو وبعض كبار مثقفي عصره ،مثال يحيى بن عدي ، والسيرافي ما يدل على وضعية المثقف المؤسية ، في ذلك الزمان ، ومن الموجع في هذا الأمر نص ذكره التوحيدي يذكر فية أبا بكر القومسي الفيلسوف حيث يقول 🙁 ما ظننت أن الدنيا ونكدها تبلغ من إنسان ما بلغت مني..) يقول التوحيدي فقلت له: لو قصدت ابن العميد ، وابن عباد عسى أن تكون من جملة ما ينفقان عليهم، فأجابني بما معناه معاناة الضر و البؤس أولى من مقاسات الجهال ،والصبر على الوخم الوبيل ، أولى من النظر إلى محيا كل ثقيل .. فقلت له ما أعرف لك شريك فيما أنت عليه سواي..لقد تمكن مني نكد الزمان ، ربما ذلك وغير ه من المكابدات التي كان يلاقيها هو وأقرانه من مثقفي ذلك العصر وأشدها ثقلا كان اتهامهم في عقيدتهم ودينهم.
المثقف العربي في القرن الرابع الهجري
حقيقة شهد ذلك العصر صراعا مريرا ما بين كرامة العلم وعزة النفس وما بين وطأة الحاجة والوقوف على باب أصحاب الجاه والسلطة ، وهو ثمن لا بد أن يدفعه المثقف سعيا وراء الأمان وكرامة العيش إذ عليه مدح السلطان وستر عيوبه ، ومنحهم مشروعية الوجود يقول التوحيدي في مقابسلته ( متى وجدت عالما وجدته خفيف المال ، ومتى وجدت موسرا وجدته خفيف البصيرة ) طبعا هذا الكلام ينجم عن وعي التوحيدي بطغيان هؤلاء الجهال المترفين والحكام المستبدين الذين يقترون على العلم وأهله بينما يتمتعون هم بمباهج الحياة ولا يفطنون إلى المثقف إلا إذا مدحهم مرددين مقولتهم (من طمع في موائدنا يجب أن يصبر على أوابدنا ).
التوحيدي ورموز السلطة
يقول التوحيدي في مثالبه 🙁 إن جرعة الحرمان أمر من جرعة الثكل، وضياع التأميل أمضى من الموت، وخدمة من لم يجعله الله لها أهلا أشد من الفقر ، وإنما يخدم من انتصب خليفة لله بين عباده بالكرم والرحمه والتجاوز والصفح ،رأيت الجرجرائي ، وكان في عدد الوزراء وجلة الرؤساء يقول للحاتمي وهو من أدهياء الناس : إنما تحرم لأنك تشتم ، فقال الحاتمي : إنما أشتم لأني أحرم وإن شئت عملناها على الواضحة قال :قل ،قال الحاتمي : يقطع هذا أن لا يسمعوا مدائحهم، ولا يكترثوا بمراتبهم ، وأن يعترفولنا بمزية الأدب وفضل العلم وشرف الحكمة… فأما إذا استخدمونا في مجالسهم بوصف محاسنهم ، وستر مساويهم ،فأن في توفية العمال أجورهم قوام الدنيا ،فإن العطاء أولى من المنع والتنويل أولى من الحرمان . )
ومن هذه النبرة الساخرة يتبين لنا لغة التهديد ، والوعيد لسلطة ورموزها ، وهم المثقفون المطلعون على خفاياالأمور ، والتوحيدي واحد منهم ، وهوالذي لم يعد يخشى من الفقد أو الخسارة ، ليواجه السلطة الشحيحة بعطائها الكثيرة بعيوبها لذلك استخدم السلاح الوحيد المتوفر لديه وهو القلم و بكل مايحمل من ثقل هوى به كالمطرقة على فساد السلطة ، وكما يقول الشاعر :
إن تمنعونا ما بأيديكم فلن تمنعونا إذن أن نقول
هكذا كانت المواجهة الحتمية مع رموز السلطة في عصره فالمانع للعطاء كمن حرم ومنع عنه الهبات طبعا مارس التوحيدي محاولته الثأرية عبرفضاء الكلمة والكتابة في كتابه (مثالب الوزيرين ) فكانت خير شاهد على ضراوة الصراع بينه وبين السلطة . لقد راجع الوزيرين الصاحب ابن عباد وابن العميد فخرج من عندهم خالي الوفاض واعتبرهم نموذجا لأغنياء عصره ومحدثي النعمة حيث لا أنساب راقية ولا طباع كريمة فصب جام غضبه عليهم.
يقول التوحيدي : إن العلم والمال كضرتين قلما يجتمعان ويصطلحان… والعلم يصحب صاحبه على الإملاق ،ويهدي إلى القناعة ويسبل الستر على الفاقة ، وماهكذا المال … والعامة تقول من جعل نفسه شاة دق عنقه الذئب ولعمري لو انقلبت عن ابن عباد بعد قصدي له من مدينة السلام ، وإناختي بفنائه مع شدة العدم والحاجة وبعد ترددي إلى بابه في غمار الطامعين الراجين وطلبا للجدوى منه ، والجاه عنده … لكنت لإحسانه من الشاكرين ..لكنني ابتليت به ، وابتلي بي ..حرمني فازدريته، وحقرني فإخزيته).
ومن كل ما سبق ذكره يتبين لنا مدى ضراوت الصراع المرير الذي عاناه هذا المثقف في ذاك الزمان ولعمرك كأنما هي سنة بين المثقفين في كل عصر إلى آخر الزمان صراع بين العلم على علو شرفه ورفعة مكانته وبين المال و السلطة فكم من مثقف غيب في غياهب السجون ثمنا لموقفه من قضية ، وكم من سلطة ظلمت واستبدت دون وجه حق فقط لأنها تملك القوة والنفوذ هذا هوالتوحيدي صاحب كتاب الإمتاع والمؤانسة، والمقابسات ، والبصائر والذخائر ، والإشارات الإلهية ، ومثالب الوزيرين ما يجعله من الرواد في القرن الرابع للهجرة وأحد أبرز أعلامه .