الدكتور عبد الله إبراهيم… رائد الدراسات السرديَّة العربيَّة

*لطفيّة الدليمي

 

   مع صدور عمله الموسوعيّ الفخم  ( موسوعة السّرد العربيّ ) أواخر عام 2016  يكون الدكتور ( عبد الله إبراهيم  ) قد أنجز التحفة الأعلى مقاماً في مشروعه السرديّ الذي نذر عمره لإنجازه منذ بواكير يفاعته وإنجازه لرسالته في الدكتوراه عن ( السردية العربية ) عام 1988 في جامعة بغداد ، وترسّخ حلمه السرديّ بعد أن غادر العراق لاحقاً ليعمل أستاذاً جامعياً ومستشاراً ثقافياً مرموقاً ؛ الأمر الذي أتاح له العمل على تحقيق مشروعه الثقافي ذي الأبعاد المعرفية الواسعة .

16176055_1520794697949358_525872729_n

   عُرِف عن الدكتور عبد الله إبراهيم اهتماماته المعرفية متعددة الأطياف ؛ غير أن بوصلته البحثية إتجهت صوب ميدانيْن محدّدين : الأول يختصّ بدراسة السردية العربية في كافة جوانبها ، والثاني يختصّ بظاهرة المركزية ضمن سياق نظرية المركز – الهوامش مابعد الكولونيالية ، وأثمرت جهوده في كلا المجالين عن دراسات منشورة كانت له فيها آراؤه الواضحة التي جعلت من تلك الدراسات مرجعيات مهمة منذ نشرها وحتى وقتنا الحاضر ، وليس خافياً أن الدكتور إبراهيم كاتب غزير الإنتاج ومجتهد إلى أبعد الحدود الممكنة لكاتب ذي طبيعة دينامية ينهض بمهام متنوعة تمتدّ من النشر المنتظم في الصحف والمجلات الثقافية والإشتراك في الندوات البحثية ، ولكن يبقى ميدان التأليف هو الفضاء الأرحب الذي يجد فيه الدكتور إبراهيم فسحة متاحة لإطلاق مكنون خزينه المعرفي الهائل ممّا لايُتاح له في العادة مع المنشورات الأسبوعية أو الشهرية ؛ فكانت النتيجة مايقارب العشرين كتاباً صارت مراجع مهمة في ميدانها ، أذكر منها :  المركزية الغربية ، المركزية الإسلامية ، الثقافة العربية والمرجعيات المستعارة ، السردية العربية الحديثة ، المتخيّل السردي ، معرفة الآخر ، الرواية العربية : الأبنية السردية والدلالية ، المحاورات السردية ، التخيّل التأريخي ، السرد النسوي ، السرد والهوية والإعتراف ، السرد والترجمة ،،،، كما إشترك محرراً ومشاركاً في العديد من المؤلفات الأخرى ، وينبغي هنا بالتحديد الإشارة إلى مشاركته الثرية في أحد مجلدات سلسلة تأريخ كامبردج الخاصة بالأدب العربي والمعنونة ( الأدب العربي في الفترة مابعد الكلاسيكية Arabic Literature in the Post-Classical Period ) التي ظهرت عن جامعة كامبردج عام 2006 . نال الدكتور إبراهيم العديد من الجوائز المرموقة في حقل الدراسات السردية إعترافاً بجهوده المميزة التي جعلت منه بحق رائداً للدراسات السردية العربية .

16144874_1520794814616013_755227511_n

   موسوعة السرد العربيّ التي نشرها الدكتور إبراهيم أواخر عام 2016 هي عمل موسوعي هائل : تسعة مجلّدات تشغل ما يقارب الأربعة آلاف صفحة ، تختصّ المجلدات الأربعة الأولى منها بتفكيك ظاهرة السردية العربية وتتبّع جذورها المعرفية ، أما المجلدات التالية فتختص بالسردية العربية الحديثة ، ويُلاحظ في كل المجلّدات الكمّ الهائل من المراجع والقراءات التي شملت مرجعيات قد تبدو أول الأمر بعيدة عن نطاق السرديات ( مثل الفلسفة وتأريخ الأفكار والدراسات اللغوية ) ؛ الأمر الذي يعزّز لدينا الرأي السائد في عموم العالم بأن السرد هو المُنتَج الإبداعي الأكثر قدرة واستجابة للتعبير عن متغيرات العصر ودينامياته ( الثقافية وغير الثقافية ) ، وسيتعزز هذا الشكل الإبداعي أكثر فأكثر في العقود القادمة بعد أن خرجت المآزق التي تعانيها البشرية عن نطاق سيطرة اللاعبين المفترضين ( سياسيين واقتصاديين وعلماء اجتماع ومنظرين مستقبليين ،،، الخ ) وباتت شبيهة بالمعضلات التي عانتها البشرية سابقاً وتناولتها الكلاسيكيات السردية ( مثل مشكلة الرقّ والظلم وفقدان النزوع الإنساني وتمجيد الحروب ،،،، ) .

16144392_1520794877949340_1317115390_n

   عُرِف عن الباحث الدكتور إبراهيم أنه كاتب إشكالي ؛ غير أن إشكاليته من النوع المحبّب الذي يستثير الفكر ويدفع باتجاه مراجعة المواضعات السائدة ، ويحفل عمله الأخير ( موسوعة السرد العربي ) بالعديد من الموضوعات الإشكالية الباعثة على إعمال الفكر والجهد النقدي المستنير ، وسأشير في الفقرات اللاحقة إلى بعضٍ من هذه الإشكاليات ( المحبّبة ) :

1 . تأصيل السردية العربية في إطار فضائها الثقافي : تعدُّ الظاهرة السردية في العادة منتجاً ثقافياً غربيّ الجذور والنشأة والأعراف ، وشاعت في الدراسات السائدة الخاصة بالسرديات ظاهرة تطبيق المستوردات النظرية ( الأنكلوساكسونية والفرانكوفونية على وجه التحديد ) تماهياً مع السطوة الكولونيالية ( وحتى مابعد الكولونيالية ) ، غير أن الدكتور إبراهيم في كل دراساته السردية في الموسوعة ( وخارج نطاق الموسوعة كذلك ) يسعى لتأصيل السردية العربية في نطاق فضائها الثقافي ، ويقول في هذا الصدد : ( رسمت لنفسي هدفاً منذ ثلاثين عاماً وهو استنباط القواعد العامة للسرد العربي من مروياته ومدوناته ، ولم أخذ بالطريقة المدرسية التي استعارت طرائق التحليل الفرنسية والإنكلوساكسونية ، والتعسّف في تطبيقها على السرد العربي ، ولا يجوز ذلك ، في تقديري، مع ما فيه من فائدة عظيمة في المنهج والمصطلح ، وللتعبير عن هذا الهدف كان ينبغي عليّ أن أترحل مدة ربع قرن في قارة السرد العربي  لإستخراج الأنظمة السردية للأنواع الكبرى فيه ، ولا أوافق القائلين بأن السرديات علم يجوز تطبيقه على أدب هذه الأمة أو تلك ؛ فالأحرى أن تكون مقترباً منهجياً نستعين به لإستنباط خصائص السرد عند هذه الأمة أو تلك )* ، ويضيف أن التسليم بصحة النظريات السردية الغربية والإدعاء بصلاحيتها المطلقة هو ( نوع من اللاهوت السردي يماثل اللاهوت الديني القائم على المسلّمات ، وينبغي نقده وتفكيكه وتجاوزه إلى البحث والاستنطاق والتأويل ، بدل استعارة جهود الآخرين … )* .

 

2 . علوية السرد على الشعر لدى العرب : من المقولات الشائعة – التي صارت أقرب إلى المأثورات الشعبية – هي مقولة  ” الشعر ديوان العرب ” وماتستبطنه من غلبة الصوت العالي والعاطفة الجياشة اللحظية البعيدة عن ضوابط الكتابة المُعقلنة التي لاتجنح إلى الإستجابة الفورية بل تحاكم الفكرة وتعيد النظر فيها من أوجه عدة ، وهنا يأتي الدكتور إبراهيم ليؤكد بأن العرب ساردون مميزون قبل أن يكونوا محض أصوات شعرية هائجة ، ويمضي في توضيح فكرته قائلاً : ( لم يشكّل الشعر في حياة العرب غير هامش ضيق مقارنةً بالسرد الذي أجرى تمثيلاً كبيراً للخيال العربي والإسلامي ، لقد تنادت لقول الشعر فئة تريد الإنتفاع بضربٍ من القول اتّخذ صيغ المدح أو الهجاء أو الرثاء أو الغزل ، وكانت تنتظر المكافأة في الغالب وفيها تصنّع ظاهر باستثناء عددٍ من الشعراء الذين انطوت فكرة الانتفاع لديهم تحت غطاء الصنعة الباهرة ، وإلى ذلك فالشعر عند العرب هو تغنّي الشاعر بنفسه أكثر من الغوص في شؤون مجتمعه ، أما السرد فقد شمل حياة الأمة – بدءاً من أوابد العرب في الجاهلية ، مرورا بأيامهم وأحاديثهم وأخبارهم وتواريخهم ، وصولاً إلى مروياتهم التي شملت الحكايات والخرافات والسّير الشعبية ، ومدوناتهم التي مثلتها مقاماتهم وعددها يربو على ألفي مقامة ، وصولاً إلى الرواية الحديثة التي قدمت تمثيلاً شاملاً عن أحوال العرب . أخفق الشعر اخفاقا تاماً في ذلك ، فانحسر، وانهارت قيمته ، وبالاجمال ماانتظر رواة السرد انتفاعاً بل رغبة في الاعتراف على نقيض ما سعى معظم الشعراء إليه … )* .

3 .  السرديات العربية وعَنَت المرجعيات الدينية والسياسية :  جاءت السردية الغربية استجابة لضرورة حاكمة في تخليق نمط إبداعي قادر على التعامل مع المستجدات التي حصلت بعد عصر النهضة الأوربية والتنوير وعقب ثورات الحداثة التي طالت العلم والتقنية وأنماط الحياة وطبعتها بطابع الحراك الثوري النازع للتغيير المستديم ، أما في بيئتنا العربية فقد ( قوبل السرد بعَنَت ديني وأخلاقي وسياسي لأنه لم يمتثل لا لشروط الدين ، ولا لشروط المؤسسة السياسية …..  تجسّد السرد عند القدماء في « أوابد العرب » أي الأساطير الحاملة لعقائدهم ، وكانت تروى بإسهاب ، جاء الإسلام فأبطلها وحرّمها ، ووصفها القرآن بعدد من الآيات بأنها أساطير الأولين – أي أباطيلهم –  وعدّها من الرذائل التي لا يجوز أن تروى في ظل عقيدة جديدة . حال الإسلام دون تداول السرد ، وحينما ظهر التدوين في القرن الثاني الهجري مع تأسيس الدولة خضع المدوّنون لشروط الدولة ؛ فما أبيح تدوين شيء جدير بالاهتمام من السرد العربي، ولكي نعرف ما كان للعرب من مرويات قبل الإسلام لابد من اختراق حاجزين: القرآن والتدوين ، وبذلك أصبحنا أمام تحدّيين: ديني وتأريخي ؛ فقد أبطل القرآن المرويات القديمة بحكم حملها لأفكار جاهلية ، وحال التدوين دون حفظها ….. )*

 16176856_1520794974615997_20177895_n

4 .  نشأة السرد العربي الحديث : عُرِف عن الدكتور إبراهيم جرأته الثابتة في كسر المرجعيات الراسخة التي صارت بمثابة الأعراف  الحاكمة للسرد العربي ، ومن تلك الأعراف هي أن السرد العربي الحديث نشأ مع ظهور رواية ( زينب ) للكاتب المصري ( محمد حسين هيكل ) عام 1914 – تلك الرواية كانت محاولة تقليد الشكل السردي الغربي في أطواره الكلاسيكية التي سبقت عصر الحداثة السردية ، وهنا يعلن الدكتور إبراهيم بكل وضوح رأيه التالي : ( ظهرت الرواية العربية قبل معرفة العرب بالرواية الغربية وقبل شيوعها في أوساطهم ، وهي نتاج تحلّل الأشكال السردية القديمة وانبثاقها مجدّداً في شكل الرواية ، ظهر هذا المخاض في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وفي منتصفه ظهرت أول رواية عربية، وهي « وي. إذن لست بإفرنجي »** ، وفيها يتضح البناء السردي للرواية ، وبناء الشخصيات، والموضوع ، والحبكة ، وشهد النصف الثاني من القرن التاسع عشر ظهور عشرات الروايات تركز معظمها في بلاد الشام …. )*

 

5 . التخيّل التأريخي بديلاً عن الرواية التأريخية : يرى الدكتور إبراهيم أن الرواية التأريخية ( كما كتبها جورجي زيدان والرهط المعاصر له ) قد تطوّرت إلى شكل سردي يمكن وصفه برواية ( التخيل التأريخي ) التي توظّف الحكاية أو المروية التأريخية في إطار رواية حديثة بدل شكل ( السردية التأريخية الخالصة ) التي جاءت كتب زيدان ومجايليه على نسقها  . يكتب الدكتور إبراهيم في هذا الشأن قائلاً : ( ما عادت الرواية حاملة للتأريخ – كما كان الأمر مع جورجي زيدان – بل أمست متّصلة بالعبرة التأريخية التي تعتمد على حبكة متخيلة تستلهم وقائع لها صلة بالتأريخ لكنها لاتمتثل لشروطه ، وإن سعى زيدان لحمل التأريخ في رواياته … )*

   إن ( موسوعة السرد العربي ) عمل هائل وغير مسبوق في الدراسات الثقافية العربية ، وكلّ ماسعيت إليه في تلميحاتي الوجيزة أعلاه أن تكون تلويحة إحترام واعتراف بالجهد الموسوعي الضخم الذي بذله باحث عراقي لطالما عرفناه ببحوثه الرصينة في ميدان السرديات العربية ، وأحسب أن هذا الجهد المميّز سيظلّ – ولعقود قادمة – مرجعاً مطلوباً لكل المشتغلين في حقل الدراسات السردية العربية .

ـــــــــــــــــــــــــ

*  جميع الاقتباسات عن الدكتور عبد الله إبراهيم ماخوذة عن ثنايا حوار معه نُشِر في صحيفة ( القدس العربي ) في 9 كانون ثان ( يناير ) 2017 .

**  رواية صدرت عام 1859 للكاتب الشاميّ ( خليل خوري ) .

___
*المصدر: المدى.

  

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *