د. عبد الله إبراهيم: أرغب في تعديل مفهوم نقدي جرى تداولهُ مئة سنة..


حوار: رشـا فاضل


يعد الناقد عبد الله إبراهيم من النقاد القلائل الذين يعيدون قراءة النظريات النقدية برؤى حديثة تستند إلى الوعي بمعطيات التجديد وإعادة قراءة النظريات النقدية وتأويلها بما يتيح خروج الأدب نحو آفاق أكثر اتساعا وشمولية وفقا لأسس نقدية رصينة، وغالبا ما يأتي اشتغاله النقدي منسجما مع الفنون الأخرى؛ لإيمانه بأن العمل الأدبي هو نتاج مشترك لقيم جمالية وثقافية متداخلة، تصلح للقراءة والتأويل من عدة جهات، ترفض القولبة وتنظر إلى النص الأدبي كجسد حيوي ليس ملزما بأن يكون عينا «فوتوغرافية» لنقل الواقع بل صانعا للصورة والعين والواقع معا. والدكتور عبد الله إبراهيم مفكّر وأكاديمي متخصص في الدراسات الثقافية والسردية، أصدر أكثر من عشرين كتابا، ونال درجة الدكتوراه في الآداب العربية عام 1991 من جامعة بغداد، وشارك في عشرات المؤتمرات والملتقيات النقدية والفكرية. ثم عمل أستاذا للدراسات الأدبية والنقدية في عدد من الجامعات العربية، وهو باحث مشارك في الموسوعة العالمية (Cambridge History of Arabic Literature). ارتأينا أن نبدأ حوارنا إثر فوز كتابه «التخيّل التاريخي: السرد، والإمبراطورية، والتجربة الاستعمارية» بجائزة الشيخ زايد للدراسات النقدية في دورتها السابعة 2012-2013.
أتمنى أن تتفاعل الهويات الدينية والعرقية والثقافية فلا تختصم وتتقاتل.
نُقل عنك كثيرا القول بضرورة إبدال مصطلح “الرواية التاريخية” بمصطلح “التخيّل التاريخي”، هل تريد بهذا الاستبدال إلغاء هوية الرواية التاريخية أم كسر الحدود بين الأجناس الأدبية؟
– لا أُريد بإحلال مصطلح “التخيّل التاريخي” محل مصطلح “الرواية التاريخية” إلغاء هوية جنس أدبي، فلا يستطيع ناقد أن يقوم بذلك، إنما أُريد تعديل مفهوم نقدي جرى تداولهُ مدة مئة سنة بدلالة لا تعبّر عن مضمونه، فهذا الإحلال، فيما أرى، سوف يساهم في دفع بالكتابة السرديّة التاريخيّة إلى تخطّي مشكلة الأنواع الأدبيّة، ثم إعادة النظر في حدودها ضمن قضية التجنيس، وتجديد وظائفها الاعتبارية والفنية، وإلى ذلك فأرى أن هذا التعديل سيخرّب الثنائيّة الراسخة، وهي: الرواية والتاريخ، ويعيد دمجهما في هُويّة جديدة قوامها مزج المكونات السردية لا فصلها، وسيقود ذلك إلى زحزحة الفكرة الشائعة في البحث النقدي، وهي مقدار خضوع التخيّلات السرديّة لمبدأ مطابقة المرجعيّات التاريخيّة، وأتطلّع من ذلك إلى الوصول إلى كتابة لا تحمل وقائع التاريخ، إنّما تبحث في طيّاتها عِبر الماضي، وعن التماثلات الرمزيّة فيها، فتجعل منها أطرا ناظمة لأحداثها ودلالاتها، فتلك هي المسارات الكبرى التي يقترحها “التخيّل التاريخيّ”. وهذا هو السياق الثقافي الذي طرحته فيه.
ألا ترى أن هذه النظرية الاستبدالية قد تعطي المسوّغ للغرق في التهويمات الوصفية والانفلات من شروط التجنيس الأدبي، وربما تمنح أنصاف الكتاب المشروعية في قول ما يقولون بناء على نظريتك هذه؟
– ليس النقد هو الذي يُعطي الكتّاب مشروعية الانخراط في عالم الأدب، فكيف بصغارهم!!، إنما الأعراف الأدبية هي التي تفرض على الكاتب شروطها، وهي التي تُحدد موقعهُ في الأدب القومي والعالمي. ولا يمكن للنقد أن يجعل من كاتب ضحل الموهبة كاتبا ذا شأن، لكن ممارسة الخداع ممكنة في كلّ زمان ومكان، واستغلال الآراء النقدية للتغطية على العجز معروف في تاريخ الأدب، على أنها حالات عارضة ليس ينبغي أن نحجم عن قول الحقيقة بسببها، فمرادي من كل ذلك هو مراجعة التصوّرات الأولى لوظيفة “الرواية التاريخيّة”، فقد استنفد المصطلح طاقته الوصفيّة بعد أن جرى تحويل جذريّ في طبيعة الكتابة السردية – التاريخية، التي استحدثت لها وظائف جديدة لم تكن معروفة في عصر جورجي زيدان وأضرابه من الكتّاب، فتراجعت القيمة النقديّة للتصوّرات التي عاصرت ظهورها في الأدب العربيّ الحديث، وأصبحت غير قادرة على الوفاء بتحليل موضوعها، وآن لها أن تكون جزءا من الجدل الذي رافق نشأتها، فمكانها تاريخ الأنواع السرديّة، ويلزم إعادة طرح المفهوم بتحوّلاته الجديدة ضمن مصطلح “التخيّل التاريخيّ”، للتخلّص من العثرات التي لازمت هذا الضرب من الكتابة مدّة طويلة.
قد يرى بعض النقاد أن بيانك النقدي لم يأت بجديد يضاف للرواية؛ فالرواية التاريخية هي نتاج خيال الكاتب مستندا إلى وقائع يشتغلها على وفق الزاوية التي يرتئيها في حين أن رواية التاريخ هي من عمل المؤرخ التي تستند بشكل رئيسي وموضوعي إلى الحدث التاريخي
– لا أرغب في التلاعب بالألفاظ، وما عهدت ذلك، ولست مسؤولا عن تحديد مهمة الروائي أو مهمة المؤرخ، إنما أتطلّع إلى استنباط خصائص المادة السردية وسماتها الجمالية، وهذا الأمر دفع بي لاستنطاق المادة السردية التي تقبع على أحداث تاريخية، وبما أن النقد ظل مدة طويلة مشغولا بتقدير حصّة التخيّل من جانب، وحصّة التاريخ من جانب آخر، فقد وجدتُ أن ذلك النقد قارب تلك الظاهرة السردية على أنها تلفيق بين التخيل والتاريخ، والحال، فهي ليست كذلك؛ فعملية إنشاء خطاب لا تتوافق مع ثنائيات مستعارة من خارجه، وعلى هذا فالتخيل التاريخي إنما هو صيرورة قائمة بذاتها، وكلّ مكوناتها تولّدت في حاضنة عملية الإنشاء الكتابي، وليس من الصواب إخضاعها لمعيار الصدق والكذب، فذلك معيار أخلاقي يقوم باتهام الكاتب على أنه مُزور لحقائق التاريخ، إذا ما زحزح التصوّرات الشائعة عنه، ولطالما نُكلَ بزيدان، ونُظر إليه على أنه زيف تاريخ الإسلام بقصد تشويهه، مع أنه صرّح في مقدمات كثير من كتبه بأنه يسعى إلى جذب القرّاء إلى معرفة المادة التاريخية في مظانها الأصلية، فهو لم يدّع أنه الطبري أو ابن الأثير، أو حتى الأصمعي أو الأصفهاني، إنما بنى هيكلا سرديا دفع فيه أجزاء منتقاة من الأخبار التاريخية، رابطا إياها بشخصيات معينة، ليجتذب القارئ إلى تلك المادة في مصادرها الأصلية، وهذا هو مفهوم الرواية التاريخية عند زيدان، الذي أُسيء فهمه بناء على تصوّر جاهز يقول بعدم جواز التلاعب بصورة الماضي، وعلى هذا بُنيت التهمة ضده، ومع كل ذلك فخطوته كانت خطوة أولى فحسب. مصطلح “التخيل التاريخي” سيحول دون طرح هذا السؤال الخاطئ، وسيمنع اطلاق التهم من خارج المادة السردية إلى داخلها، إنما سوف يفتح الأفق أمام نظرة جديدة إلى كتابة متماسكة الأطراف وليست مفكّكة الأوصال.
في الوقت الذي يرفض فيه كثير من الكتّاب والنقاد وجود ما يسمى بـ”الأدب النسوي” نرى أنك تذهب في دراساتك إلى وجود هوية خاصة لهذا الأدب، وبخاصة “السرد النسوي” الذي هو عنوان أحد آخر كتبك. هلا شرحت ذلك؟
– اقترحت تلك الهوية استنادا إلى استقراء طويل شمل كثيرا من النصوص السردية التي كتبتها نساء بإيحاء من ثورة الفكر النسوي التي اجتاحت العالم خلال القرن العشرين، ووصلت آثارها إلى الثقافة العربية في النصف الثاني منه، لكنها شاعت على نطاق واسع في مطلع القرن الجديد، وقادني الاستقراء إلى أن هوية “السرد النسوي” صيغت من حضور أحد المكوّنات الثلاثة الآتية، أو امتزاجها كلّها فيه، وهي: نقد الثقافة الأبويّة الذكورية، واقتراح رؤية أنثويّة للعالم ولذات المرأة، ثمّ الاحتفاء بالجسد الأنثويّ، فتشابكت تلك المكوّنات من أجل بلورة هوية “السرد النسوي”.
على أنه من المهم وضع تفريق حاسم بين كتابة النساء، والكتابة النسويّة، فالأولى تكتب بمنأى عن وجود الرؤية الأنثويّة للعالم وللذات، أمّا الثانية فتهدف إلى التعبير عن حال المرأة بناء على الرؤية، ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد إنما تعرض الكتابة النسوية نقدا للثقافة الذكورية بحسبان أنها تمثّل عائقا أمام الأنثى فلا تعترف بها إنما تخضعها لمواصفات دونية فقط لأنها امرأة، وأخيرا فتلك الكتابة تعالج موضوع الجسد الأنثوي بوصفه امتيازا أنثويا خالصا يجتذب الاهتمام إليه لجمالياته المغرية، وعلى هذا يحتفى به، ويصبح مركزا للسرد تنشدّ إليه سائر المكونات السردية، فيكون موضوع احتفاء في الكتابة، ولا يكتمل كل ذلك إلا إذا جرت الكتابة في إطار الفكر النسويّ، مستفيدة من فرضيّاته وتصوّراته ومقولاته، أو في الأقل أن تهتدي بأدبيّاته الكبرى.
ويستحسن القول في هذا السياق أن “السرد النسوي” هو لبّ نصوص المتعة، تلك النصوص التي تزعزع معتقدات القارئ، فتترك لديه شعورا بأنه ينغمر في خضم كتابة لا تنسجم وما عهده من تخيّلات موروثة عن العالم الذي يعيش فيه، هذه الكتابة تزدري العالم الرتيب الذي صاغته ثقافة الذكور عبر آلاف السنين، وإنما فضلا عن ذلك فهي تضمر له نقدا قاسيا، وعلى أنقاضه تقترح حريات فرديّة مختلفة عن الحريات الجماعية المبهمة التي تواطأ عليها الآخرون وانصاعوا لها. ولا بد أقول إن “السرد النسوي” يقوم بتمثيل تجارب خاصة للنساء لا تعرف الولاء، وفيها من الخروج على الأعراف أكثر ما فيها من الامتثال لها، فهي تحفر في مناطق شبه محرّمة، وتزعزع الانسجام المجتمعي، لأنها تريد أن تقطع صلتها بالموروث حينما تشكّ في كفاءته وجدواه، وهي بمجموعها تختلف عن الكتابة الباعثة على الارتياح التي تستجيب لتوقّعات المتلقّي، وتشبع رغباته، وتتوافق مع الأعراف السائدة
هذا هو المضمون الذي استرعى اهتمامي في مداومتي لقراءة السرود النسوية الجديدة، ولست ممن يتعثّر أمام الآراء الشائعة، وينكفيء إلى الوراء، إذ ليس مسموحا الجهل بما تضمره الكتابة السردية من مقاصد ودلالات والتوهم بأنها ثابتة لا تغيير فيها. ينبغي على الناقد مراجعة تصوراته للأدب كلما استجدت فيه ظواهر جديدة، وتعديل رؤيته النقدية، وتطوير منهجه، وإلا فسيكون حجر عثرة أمام ذلك الأدب، وكثير من النقد العربي يريد أن يدخل الأدب في بيت الطاعة، فهذه نظرة أبوية ذات بطانة أخلاقية، ولا يدرك أن الأدب الحقيقي هو في جوهره انشقاق عن الأقوال السائدة في الحياة اليومية، وهو عدول عن حقائق ووقائع، وانزياح عن المستوى المباشر للقول إلى مستوى غير مباشر، ولذلك ينبغي على النقد استنطاق النصوص، وتشريحها بلطف، وتعويم مضمراتها بتبصّر دونما تقويل، وتجنّب فرض الوصاية الأبوية عليها.
برأيك هل تمكّنت الرواية العربية النسوية من احتواء عوالم أبعد من التجارب الشخصية التي ظلت حبيسة آفاق ضيقة تخص التجربة النسائية الحياتية ومحيطها الاجتماعي؟
– ليس بعدُ كما يرتجى، فهي ظاهرة جديدة، سيفضي تراكمها الكمّي إلى تحديد خصائصها النوعية، وستختفي التفوّهات الإنشائية المفرطة فيها، وتصبح “الأنا” واعية بوجودها فلا تكون موضوعا للاحتفاء الأناني بها من خلال الكتابة المسهبة، وافترض أن تتوارى الفضائحية، وتنحسر الكراهية ضد الأبوية، وتنبثق رؤية أنثوية أكثر موضوعية للعالم. وبالإجمال سيقع تخطّي عثرات الكتابة كلّما كُشفت الأخطاء فيها، فللأدب طريقته في تخليص نفسه من عثراته. ومادامت الرواية النسوية قد أصبحت حقيقة مؤكّدة في الأدب العربي الحديث، فمن غير الصحيح جعل أخطائها دليلا على عدم أهميتها، ولا يجوز وصمها بالعار بسبب نصوص ضعيفة تسلّلت إليها، فتاريخ الأدب إنما هو تاريخ أخطاء يُقصد بمناقشتها تعديل مسار الأدب.
بعد كسر “تابوات” الصمت واجتراح الكتابة، ما “التابو” الآخر الذي ترى على المرأة الكاتبة أن تكسره لاحقا؟
– الإقرار بأن تكون المرأة شريكة للرجل وليس موضوعا لمتعته، ثم لا يجوز أن تكون نسخة منه، وهذا هو التحدّي الأكبر الذي لم تلتفت إليه المرأة إلى الآن، فقد توهّمت بأن حرية الرجل هي النموذج الأعلى للحرية فراحت تحاكيه في كل شيء تقريبا، فيما ينبغي أن تكون المرأة مختلفة عن الرجل، فالاختلاف هو الذي يحقق الشراكة وليس التطابق الذي يؤدي لا محالة إلى التبعية.
كيف تعرّف النقد خارجا عن سياقه الوظيفي في التشريح والتأويل والتقييم؟
– لديّ تحفّظ على وظيفة التقييم في الأدب، إنما من دون الوصف والتشريح والاستنطاق والتأويل يتعذّر وجود نقد جدير بالتقدير. لا يجوز تبسيط مهمة النقد لأي سبب كان، ومن المهم الحفاظ على قيمة القول الأدبي، فأنا شديد السخط بسبب انهيار قيمة الأدب في ثقافتنا الحديثة، لأن معظمه أخفق في تمثيل التطلعات الكبرى للمجتمعات العربية، فعزف عنه القرّاء. وأوافق “تودوروف” على ما يذهب إليه من أن “الأدب في خطر”. وكلّما قارب الأدب تلك التطلعات، وقام بتمثيلها بكيفية جديدة أعاد الاعتبار لنفسه، ومن بين كافة ضروب الأدب يلزم النقد أن يوظّف العلوم الإنسانية، ويستفيد منها، وألا ينغلق على قواعد ضيقة تقضي على وظيفة الأدب التنويرية، فللأدب وظائف كثيرة في مجتمعات تمور فيها كثير من المشاكل العامة أو الخاصة.
بعيدا عن النقد قريبا من عبد الله إبراهيم الإنسان، لماذا نشعر أن الناقد كائن صارم ومُحكم غير قابل للعطب؟
– هذا تصوّر تعليمي بلورتهُ سلطة النقد المزوّرة، ولا وجود له في الحقيقة، فالناقد غالبا ما يكون هشّا، وربما يكون منعطبا، وليس ينبغي أن يكون “مجاهدا” لا يلوي على شيء سوى غايته، فهو يستبطن النصوص، ويرافقها، ويلاطفها، ويستمتع بها، ويغوص فيها، قبل أن يستنبط سماتها الأسلوبية والبنائية والدلالية. ليس الناقد حاملا لسيف أحدب ينحر به النصوص، ويقطّع أوصالها، ويحيلها أشلاء متناثرة، بالأحرى هو معماري يعيد تركيب عناصرها في ضوء خبرة شخصية ومعرفة موضوعية. وليس من الوارد وجود علاقة عدائية بين الناقد ونصوص الأدب إنما لابد من علاقة حوارية عميقة وأصيلة تقوم على التقدير الكامل، فمهما شرّق النقد أو غرّب، فإنما هو حصيلة قراءة تلتقي فيها مقاصد النصوص بمقاصد الناقد، وحصيلة ذلك هو ما يصطلح عليه “القراءة النقدية” ولا أقصد بذلك إنها انطباعات وشروحات وملامسات خارجية، إنما الممارسة النقدية غوص عميق لتعويم القيم الفنية والدلالية للأدب. لا تضير البحر مهارة الغوّاص في استخراج اللآلئ.
في مراجعة لحواراتك يظهر صوتك بين السطور بعيدا عمّا تقوله وتدلي به من آراء ونظريات نقدية لنقرأ بين الفواصل والكلمات شعورا بالعبث حينا واللاجدوى حينا آخر؟
ـ إنما هو تبرّم بالتاريخ، وزهد بالإيقاع الرتيب للحياة، بسبب انحسار الجمال والمتعة، وغياب الحس الإنساني العظيم، وتدهور أحوال الطبيعة، وانهيار الوعود العقلانية للحداثة، وشيوع روايات مزوّرة عن الماضي، وبعث للاهوت القرون الوسطى بأشكال جديدة، فأنا “نيتشوي” في رؤيتي للعالم، بمعنى أنني غير راض، ولكنني لست بمستسلم، أتمنّى أن يكون العالم أكثر بهجة وأكون فيه أكثر سعادة، ويتخطّى التاريخ عثراته، ويحل التسامح محل الكراهية، وتتفاعل الهويات الدينية والعرقية والثقافية فلا تختصم وتتقاتل، وظني أن الأدب يُسهم في تفكيك الضغائن والأحقاد، ويمتص الغلواء، وبما أن شيئا من ذلك غير متحقّق كما ينبغي، فأجدنى أُقيم صلتي بالأشياء على قاعدة شفافة من السخط ونوع غير مرئي من الاستياء.
أي مدينة استوقفت ذاكرتك واستفزتها للكتابة؟
– زُرت كثيرا من المدن، واجتذبتني إليها، ولديّ مدونة أسفار ضخمة عن عشرات المدن والبلدان، لكن كركوك هي المدينة الحية التي تستفز ذاكرتي للكتابة، فهي المحضن الذي ترعرت فيه، والمهاد الذي انبثق فيه وعيي الأدبي، وعبّر عن نفسه، وبعد أن فارقتها مدة عشرين عاما، راحت تتعالى في ذاكرتي فأصبحت مثل “يوتوبيا” صارت مدينة متخيلة، وحينما عدت إليها، وجدتها تتوجّع، وتتلوّى، وتكاد تصرخ مما آل إليه أمرها بين الأعراق والطوائف حيث يوقد الطامعون بها نزعات مفتعلة، عسى أن تتخطّى كركوك أزمتها، فتعلن للملأ مرة أخرى عن هويتها المتنوعة عبر تاريخها العريق.
ما وجه التشابه بين المدن والنساء؟
– للنساء وللمدن هويات خصبة ولا نهائية، يخدع الرجل نفسه حينما يتوهّم أنه اكتشف الهويات الغامضة للمدن، وكذلك النساء.
إذا جعلتك تقف على قمّة عالية وتتطلع لنفسك من بعيد.. ماذا ستقول لعبد الله إبراهيم الذي تفصلك عنه عشرات الأعوام؟
ـ أنادي به: ترجّل.
منذ سنوات طويلة وأنت عاكف على كتابة يومياتك.. ما الحدث الذي تنتظر أن تختم به تلك اليوميات لتقوم بنشرها؟
ـ انطفاء الرغبة في العالم.
هل هنالك حدث محوري في هذه اليوميات تعتقد أنه سيكون الأكثر بروزا فيها؟
ـ الحدث الناظم لها إنما هو وجوه تنسخ بعضها لرجل دُنيوي، على خلفية أحداث خطيرة شهدها بلدهُ، فمن خلال الحبكة الشخصية التي اعتمدت فيها على يوميات بدأت بتدوينها منذ شتاء1976 – أردت عرض الخلفية التراجيدية لحال بلادي خلال حقبتي الاستبداد والاحتلال.
ألا تشعر بأن تدوين السيرة الذاتية ممكن أن يمنح القارئ المفاتيح السرية للنصوص، فنحن في الغالب لا نكتب إلا ذواتنا على الورق؟
ـ لا تُكتب السيرة الذاتية لكي تكون نافذة نتلصّص من خلالها على الأسرار، إنما تُكتب لشغف في إقامة حوار متداخل بين الذات والعالم، ومن الضروري، فيما أرى، أن تذهب السيرة إلى منطقة الحياة السرّية لصاحبها، فتلك هي البؤرة المتوهجة للتجربة الشخصية، ولكن لن يكون ذلك متاحا من دون الوقوف على حياته الخاصة، وحياته العامة، فكتابة السيرة تقتضي إطارا ناظما، كالصَدَفة الحاضنة للؤلؤة، ولكن حيثما يكون ثمة سرد فليس من الصواب البحث عن مركز نهائي للتجربة الذاتية، إذ كلّما أزلنا طبقة من طبقاتها ارتسمت لنا أخرى، ومن المهم في الكتابة الذاتية أن يعنى صاحبها بكيفيات القول، وليس بماهيات التجربة، ومعلوم بأن أدب الاعتراف في الأدب العربي يربض خارج السياق الرسميّ، فلم تزل الثقافة العربيّة تتبرّم منه، وفي كثير من الأحيان يوصم المعترف بأنّه الشخص الذي غدر بمجتمعه، وبه استبدل ذاته، أو إنّه فضح البطانة الخفيّة المسكوت عنها، فلا يقع استيعاب كامل لاعترافاته.
كونك ناقدا فهذا يجعلك تسبر بواطن النصوص لكن ألا يشكل هذا عائقا أمام الانسجام مع فطرة النص والذائقة، بمعنى أن تعجب بنص ما أو عبارة ما دون أن تخضعها تلقائيا لمشغلك النقدي؟
– ليس الناقد منقّب آثار يضع على كتفه فأسا، ولا النقد ورشة لتصحيح أخطاء الأدب، إنما هما، أقصد الناقد والنقد، خلاصة ممارسة قوامها الشغفٌ الرفيع بمادة متخيلة مشعة بالإيحاءات وقادرة على إثارة الأسئلة، أهم ما في الممارسة النقدية عملية الكشف وليس استخلاص النتائج وحصرها في قواعد ثابتة.
هنالك موجة من الكتاّب تستكتب النقادَ وفق مقابل مادي بأشكال مختلفة، كيف تتم غربلة هؤلاء الكتاب بعد أن يتم (تلميعهم) نقديا؟
– لستُ منهم، ولم يتجرّأ أحد على الإيحاء لي بذلك، ولهذا فلا خبرة لي في هذه المنطقة المتعفّنة، ولست صاحب قول فيها، وإن وُجد مثل هؤلاء الكتّاب لظروف خاطئة فلن يصمدوا أبدا أمام غربلة التاريخ الأدبي. صناعة أديب حقيقي تناظر خلق آدم.
بعيدا عن كون “الفيس بوك” شبكة تواصل اجتماعية، برأيك ما الذي أضافه للكاتب والقارئ؟
– حسنا، فقد تآلفت مع التقنية الجديدة للكتابة والاتصال منذ بداية الألفية الجديدة، وباستثناء يومياتي الشخصية لا أكاد استخدم القلم فيما أكتب، فبحوثي وكتبي ومحاضراتي أكتبها مباشرة على “الكومبيوتر” منذ أكثر من عشر سنوات خلت، ومع حبّي للكتاب الورقي، وشغفي به، وامتلاكي مكتبة حيثما أكون، فقد طوّرت صلة شخصية للقراءة بواسطة “الآي باد” وصرت استمتع بذلك كثيرا، فهو “كائن” أليف وناعم ويستجيب باللمسات الرقيقة، ثم يخلد للراحة فورا ما أن انصرف عنه، بانتظار لمسة جديدة توقظه فكأنه في حالة انتظار، وقريبا سوف تكون له السيادة في القراءة والتعليم والتواصل. ولدي حساب على “التويتر” اعبّر من خلاله عن أفكاري العامة، بتغريدات خاطفة حول ما يجري في العالم، وما يثير اهتمامي من أمور. أما “الفيس بوك” فهو المجال الذي أتواصل به مع أصدقائي وقرّائي. وهو وسيلة تواصل اجتماعي، وهذا مهم جدا، فالمجال العام سوف يصبح بمرور الوقت مجالا افتراضيا، إن لم يكن قد أصبح، فقد تحدّث “هابرماز” قبل نصف قرن، عن المجال العام بمعناه التقليدي باعتباره المكان الذي يصاغ فيه الرأي العام، لكن المفهوم في طريقة للانتقال إلى مستوى جديد. إن تبادل الآراء والاهتمامات العامة، وأحيانا الخاصة، عبر هذا الفضاء الافتراضي بلمسات خاطفة وعبارات قصيرة، سوف يجري تحويلا في مفهوم الرأي العام، وتبادل الخبرات، وإعادة صوغ العلاقات الاجتماعية.
ما الذي يعنيه لك المكان.. فكرة الوطن والوطن البديل؟
شأني شأن كثير من المنفيين الذين شاءت الظروف أن يكونوا بعيدين عن أوطانهم، فانقسموا بين الحنين إليه وعدم القدرة للعيش فيه، فسوف استعير في جوابي كلمات راهب عاش في القرن الثاني عشر الميلادي: “الإنسان الذي يجد وطنه أثيرا لم يزل غرّا طري العود؛ أما الذي يرى موطنه في كل مكان فقد بلغ القوة؛ غير أن المرء لا يبلغ الكمال إلا إذا عدّ العالم بأجمعه أرضا غريبة عليه؛ فالغَضّ هو مَنْ ركّز حبه في بقعة واحدة من الأرض؛ والقويّ هو الذي شمل العالم بحبه؛ أما الإنسان الكامل فهو الذي أطفأ جذوة الحب في أعماقه”.
غالبا ما يصرّح الكتّاب بضعف أداء المؤسسة الثقافية لذا نطمح إلى مقترح أو مشروع ثقافي من شأنه دعم الكاتب العراقي والثقافة العراقية والنهوض بها في الداخل والخارج؟
ـ أمضيتُ حياتي وكوّنت مشروعي الثقافي خارج إطار المؤسسات الثقافية والأكاديمية ولا أجد أنها ذات أهمية في تكوين الكاتب إنما قد تُعيقه بشروطها أكثر ما تفيده بأموالها على الكاتب أن يوفّر شروطه الخاصة بالكتابة، فتلك هي حرية الكاتب.
اترك لك هذه المساحة البيضاء لتملأها بما تشاء.
بعد أن سوّدتُ آلاف الصفحات على الورق أو صفحات الحاسب الآلي، صرتُ عاشقا للمساحات البيضاء. لقد منحتني فرصة للاستغراق فيها.


( الجديدة نيوز)

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *