حسب التصنيف المستقر حتى الآن، يمثلُ «المثقفُ» في ثلاث صور، التقليدي والعضوي والمتنبئ. الأول صورة مكرورة تواصل نشاطها بحدود وظيفة لا تتجاوزها، نشر المعروف من ثقافات تقليدية، والثاني صورة مغايرة ذات طابع صراعي، إما أن تكون ملتحمة بسلطة تحافظ عليها وتخدمها (ماسح أحذية كل صاحب سلطة)، أو معارضة تسعى إلى التغيير وتشارك في فعاليته وتتمتع بروح نقدية (المنخرط في نضال تغيير الوضع الإنساني)، والثالث صورة نائية بنفسها لا زمنية تمسك بمعايير مطلقة تقيس بها من دون انحياز إلى طرف دون طرف، معنية بما هو حق وعدل خالصين (المراقب من خارج الأزمنة).
هذه الصور حلل سماتها وأدوارها د. إدوارد سعيد (1935-2003) على خطى الإيطالي «أنطونيو غرامشي» (1891-1937) محلل شخصية المثقف العضوي بنوعيه، ولكن هناك شخصية رابعة تمثلُ في الذهن حين نتطلع إلى الوسط العربي بخاصة، شخصية شبه المثقف، منتحل صورة المثقف، وسماتها التلون والتحول حسب المناسبة. على هذه الشخصية تطلق تسمية «الانتهازي» عادة، وإن كانت السمة الأدق هي سمة الكائن الأميبي الذي يتحول ويتلون غريزياً حسب كل حالة، هلامي لا قوام له يمكن أن يكون اليوم شيئاً ويكون عكسه في يوم آخر. وأظن أنه هو من اخترع مقولة «لكل مقام مقال»، وكأنه يقول اليوم «لكل حالة لبوسها».
ما يعنينا هنا هو مأزق المثقف.. الكاتب.. العربي، ونعني به العضوي المنخرط في صراع تغيير الوضعية الإنسانية تحديداً، لا ماسح الأحذية ولا التقليدي ولا الساكن في عالم الأزمنة والأمكنة المجرد، ولا شبيه الكائن الأميبي المتقلب من حال إلى حال تدفعه غرائزه، وحاجاته العضوية في المقام الأول، لأن لا واحداً من هؤلاء يعيش مأزقاً، فهو الطاعم الكاسي بالأمس واليوم وغداً.
مأزق المثقف العضوي الكاتب، والحداثي بخاصة، المنخرط في مهمة التغيير هو الذي يعنينا هنا، لأن وضعيته، على رغم نبل غايته وحماسه، تحمل مفارقة قلما يُشار إليها، فهو يتطلع من جهة إلى التأثير في مجتمعه ووسطه الثقافي، أي أن يكون فعالاً، إلا أنه من جهة أخرى، لا يعرف سر انعدام فعاليته في الوسط الذي يعمل فيه، وحتى حين يتعرض للقمع والسجن أحياناً تصيبه الدهشة وهو يرى اللامبالاة تحكم الجمهور الذي يقدسه في أعماقه، فيعبر عن يأس وإحباط يشلان قدراته، وحين يتعرض للاغتيال ترثيه قلة ممن يعرفونه، وترى وحدها في جهده الفكري قيمة عليا، وتأسف على غيابه أو تغييبه.
هذه المفارقة ناجمة كما نرى عن تصور غير واقعي ماثل في أذهان غالبية مثقفينا العضويين. تصور أن ما يمتلكه المثقف من وصلات، أو مراجع ثقافية، متنوعة عادة وعديدة، تصله بما تيسر له في عالم المعرفة بجهده وغزارة إطلاعه شرقاً وغرباً، هي وصلات يمتلكها الجمهور الذي يكتب له أو يخاطبه أيضاً. مثقفنا هذا، لا يعرف، وسط اندفاعه وإيمانه البريء بإمكانيات الجمهور، أن لهذا الجمهور العام، أو الوسط الاجتماعي، وصلاته ومراجعه الخاصة بثقافته التقليدية التي نشأ عليها، وتدرب على السير في طرقاتها آمناً على يد مثقفيه التقليديين، ولا يمتلك حشد الوصلات أو المراجع التي يمتلكها المثقف الحداثي، والتي قد تكون ذات صلة بثقافات عوالم ومشاغل أخرى وبلغات مختلفة. مثل هذا الجمهور العام، ونحن نتحدث هنا عن الأغلبية الساحقة، لا يمكنه الوصول إلى وصلات ومراجع مثقفيه الحداثيين، سواء كانوا عضويين أو متنبئين، واستيعاب وفهم ما يقولون أو التأثر به. من هنا لن يكون لجهدهم فاعلية. وتجربة مثقفي الأحزاب والجماعات العربية المتقدمة، أو السابقة على عصرها كما يقال، من ماركسية وقومية، تدل على هذه المفارقة، ويمكن أن تكون السبب الجوهري وراء انحسار ما كان يتصوره الكثيرون من نفوذ على مخيلة وواقع المجتمعات العربية، ذاك الذي يسمونه فشلاً بالتعبير السياسي.
على الرصيف المقابل، نجد تجربة معاكسة؛ تجربة الجماعات والحركات التقليدية فكراً وسلوكاً، وأشهرها الحركات والأحزاب التي تتبنى الخطاب التقليدي بخاصة. فهذه الجماعات والحركات لم تنجح في مخاطبة الجمهور العام فقط، بل والتأثير فيه، واكتسبت كتاباتها وخطبها نفوذاً وفاعلية، ليس لأن كتابات وخطب الجماعات والأحزاب المستنيرة والحداثية فقدت السند السياسي بعد تدمير النظم والدول التي تبنت أفكارها، بل لأن جماعات وحركات الجانب الآخر من الرصيف خاطبت جمهوراً يمتلك وصلات تصله بعوالمها، ولديها وصلات تصلها بعالمه. ولهذا بدا التقليدي الآتي من أزمنة أخرى، لا علاقة لها بالزمن الراهن، مؤثراً وفعالاً حتى وإن لم يكن عقلانياً ومستنيراً، وعُدّ متخلفاً قياساً بما وصلت إليه البشرية عقلاً وسلوكاً في العصر الحديث. ولأن هذا التقليدي متخلف عن زمننا هذا الذي نعيشه، ولا شأن له بمشكلاته وقضاياه هو العائش، فعلاً لا مجازاً، في عصور بادت بأعرافها وعاداتها ونظمها، فسيظل الجمهور تحت تأثيره منخفض الوعي، مقاوماً بعنف لكل تغيير وتحديث، لأنه ينتقل مع «مثقفه» التقليدي هذا تحت سطوة أو هامه إلى عصور زاهية كان فيها سيداً ومتنعماً، وسيظل غافلاً عما يحدث له في عالمه المعاصر من بؤس وشقاء.
الوصلات التي وضعها في متناول الجمهور وهؤلاء التقليديين، المتوارثُ والاعتيادُ وسهولة الوصول إليها بلا عناء والثقافة الشائعة، هي عبارة عن مرجعيات مبذولة ومعروفة، فالجمهور يفهمك تماماً حين تكون إشاراتك المرجعية مبثوثة في زوايا عقليته، ولن يفهمك حين تكون إشاراتك مما لم يعرف ولم يألف، مثل مرجعيات المثقف العضوي الحداثي التي تصلك بالعالم المعاصر، بفنونه وثقافته ورموزه وسياساته وبآخر منجزاته، فهذه تظل خاصة بهذا المثقف أو القلة التي توفر لها ما توفر له من وصلات، وستكون نصوصه المكتوبة والمنطوقة (التي نصادفها أحياناً في وسائل الإعلام المقروءة والمرئية والمسموعة) أشبه ببوابات مغلقة أمام الجمهور الواسع.
الوصلات، وهي شبيهة بوصلات الحاسوب التي يصادفها المتصفح للمواقع الإلكترونية، تعمل عملها في دماغ الإنسان أيضاً، فما أن يُذكر اسم أو مكان أو حدث حتى يحدث ما يشبه الضغط على كلمة «وصلة» أو «Link» بالإنجليزية، فنجد الذهن ينتقل إلى مجال اسم ومكان وحدث مألوف. والثقافة هي التي توفر عادة عناوين هذه الوصلات، وتجعلها في متناول ابن هذه الثقافة. وميزة المثقف العضوي، المتطلع إلى تغيير عالمه والمساهمة في تغيير أساسيات ثقافته، أنه يحشد أكبر عدد من وصلات تكون بعيدة وغريبة في الوقت نفسه عن الجمهور العام وثقافته، وتشكل هذه الوصلات مراجع معرفته التي يستنير بها، والتي يشير إليها خطابه مباشرة أو ضمناً.
إلى هذه الوصلات، والفرق بين ما لدى الجمهور منها وما لدى المثقف، لم يلتفت أحد من المتحدثين عن أزمة الثقافة وانعدام فاعلية خطاب المثقف، أو فشل الفكر التنويري وسيادة الأفكار الظلامية، وتركز النظر والجهد على تفسيرات تتجاهل زوايا المشكلة الأربع؛ ثقافة الجمهور وأساسياتها، واختلاف المرجعيات، وقلاع الأيديولوجية التقليدية التي تظل فاعلة في وجه أي إخصاب ثقافي حتى في ظل نظام ساع إلى التغيير، وعدم إدراك غالبية المثقفين أنهم يخاطبون قارئاً أو مستمعاً أو مشاهداً لا يمتلك ما يمتلكون من وصلات.
ما يبدو مسلمات في وسط المثقفين، أي أن عليهم أن يقولوا وعلى الجمهور أن يرتفع إلى مستواهم، ليست مسلمات بقدر ماهي أوهام مضللة. إن انعدام الانسجام والتناغم بين مراجع الكاتب ومراجع مجتمعه الأوسع لا تعمق مأزقه فقط، بل ومأزق المجتمع ذاته حين لا يجد مساعدة واعية وكافية من مثقفين يشتم بعضهم مجتمعه أو يمعن في التعالي عليه والابتعاد عنه. قد نجد هذا التناغم والانسجام في بنى اجتماعية بدائية حيث يجد شاعر القبيلة من يفهمه ويتأثر بأقواله، ونجده في نظم أقدم حيث يقود السحرة والعرافون مجتمعاتهم بمجرد التلفظ بتعاويذ يعرفها ويتأثر بها الجميع، ولكن في البنى الاجتماعية المتطورة، وخاصة في العصور الحديثة، لم تعد العلاقات الإنسانية بهذه البساطة، ولم يعد العالم ذاته؛ عالم قبيلة أو قرية أو حتى مدينة، بل أصبح عالماً متنوعاً ومتعدداً، أو عالماً يحتشد بملايين الوصلات والمنافذ إلى ثقافات ولغات وأمكنة تحضر بالضرورة في ذهن المثقف الحديث، تثريه وتغنيه ولكنها تبعده و «تغربه» أيضاً عن عالمه سواء كان قبيلة أو مدينة أو دولة، وبالتالي عن الجمهور المفترض أنه يخاطبه ويطمح إلى أن يغيره أو يحدث فيه تأثيراً.
إذا أخذنا هذه الواقعة في الاعتبار، سنقول للكاتب ببساطة: عليك أن تعرف أنك تخاطب قارئاً حين تكتب.