نقطة، انتهى الكلامُ؟!

خاص- ثقافات

*محمد الهجابي 

لالة فاطمة داخلها الشكّ. في صباح هذا اليوم، وفيما هي تعد الفطور، شكّت في رجلها. رجل يلازم الحاسوب في الشقة والمحمول خارجها، كيف لا يساورها شك تجاهه. قبل أسبوع، أو يزيد عنه بيومين، ولتكن ثلاثة أيام بالضبط، قالت له إنّك تأرقُ يا السي محمد، وستؤذي عينيك. رُويْدك! يا رجل. قالت كلامها، ثمّ رفعت السبّابة وحركتها ذات اليمين وذات الشمال، وأضافت إنّه سيكون عليه تصحيح نظره أو وضع عدسة لنظارتيه أكثر سماكة مما هي عليه الساعة. وحذرته من مغبة هذا الإدمان على الحاسوب. بالواقع، لم تفض إليه بحقيقة ما يشغل صندوق تفكيرها. كلامها كان لبقاً. ضبطت لالة فاطمة أعصابها إلى أقصى حد ممكن وهي تؤدي له ملاحظتها تلك وتدير الظهر، ثمّ تجر اللّحاف عليها. يفزعها غضبه. وتعرف أنه حين يَزوي بين العينين يتلبّسه طور غريب. وتراها تتفادى الاحتكاك به إلاّ بما يلزم من روقان خاطر وصفاء دخيلة. الليلة، وفيما استغرقها الرقاد واصل السي محمد  المسح على لوحة اللمس في الجهاز قدامه بالإصبع الوسطى أساساً، وبها وبالبنصر في مرات. البنصر بدل السبّابة (!!). يحلو للرجل أن يسوّي الجهاز على الفخذين الممدين وهو مسندٌ الظهر إلى وسائد. ويطيب له في وضعته هاته أن يشتغل في ضوء الأباجورة القائمة على صوان السُّفرة. كان يفعل محاذراً إصدار أي صوت قد يربك غطيط امرأته. من وقت إلى آخر، كان يسترق البصر إليها كما لو كان حريصاً على راحة نومها. يزنُ عمق نومها بحجم وتيرة شخيرها. على أن المرأة، وفي عمق نومها ذاك، شكت في رجلها.

في الصباح أرادت أن تحكي له عن رؤياها، فلم تقدر. خافت لالة فاطمة من أن تكون تسرّعت، فأحجمت. في سرها حاولت أن تقنع نفسها بأن السي محمد بعيد عن تقوّلات صويحباتها وتخرّصاتهن فيما هنّ يعرضن لسير الرجال مع الجهاز. لالة فاطمة لا تصدق أنّ كل رجل يمسك بالحاسوب هو بالضرورة رجل دنئ. ربما جاز حكم النساء في رجالهنّ، غير أن السي محمد، رجلها هي، أبعد بكثير عن مثل هذه الشبهات. ما بالرجل، رجلها، شقذٌ ولا نقذٌ.
السي محمد لا يخبر امرأته بشيء. ولعل الرجل قرأ ما يدور بخلد المرأة منذ وقت. لا ينكر السي محمد أنه يتعمد إثارتها بصمته. ولربما تقصّد طبع صمته بقدر من التشويق. صمته ملغم ومتعمد وعلى سبق إصرار. في نفسه، في قرارتها، يعترف الرجل بصنيعه. ويرى في عينيْها السؤال، فيعرض ولا يحير رداً. لكنه هذا الصباح رغب في كشف مخبوء هذا الولع بالحاسوب. أخيراً قرر أن يضع حداً لقلقها. قال لها، بينما هي تحضر وجبة الفطور، إنها ستفعل خيراً لو استعاضت عن متابعة المسلسلات المكسيك الجارية بمسلسل تشكيل الحكومة. لم تفهم، فقوّست الحاجبين ووسعت من الحدقتين وأدلمت الشفة السفلى. وجهها الإهليلجي لا يناسب تقويس الحاجب، يفكر. سبق له أن وشى بهذا الانطباع. فعل في مرات. الآن، لم يعد يفعل. سيكون محض صفاقة وقلة ذوق لو أعاد التذكير به. قال لها السي محمد موضحاً، في منتهى برودة أعصاب، إن الحكومة هي هاجسه الأول من هذا الحاسوب. ثمّ قال لها إن أمر السياسة في البلاد عجيب. ثمّ شرح طويلاً أشياء أخرى ذات الصلة بالسياسة والسياسيين. هل صدقت لالة فاطمة بيان دفاعه؟ عقلٌ يقول لها إن الرجل جاد، وعقلٌ يفتي بغير ذلك. كيف تفعل السياسة في رجل من سنه أفاعيلها تلك؟ تعيّنتْهُ لبرهة، ثمّ ما برحت أن أشاحت عنه بوجهها إلى جهة مجلى المطبخ كما لو أنها تمنح إشارة بغياب الاهتمام.

يعرف الرجل أن المرأة مهتمةٌ بفكّ شيفرة علاقته بالجهاز اللعين، بهذا الذي يجعله لصيقاً به  كدبوس الأُرْبة، حتى وإن أظهرت أحياناً بعض تبرّم وتأفّف. يعرف امرأته ويكنه فصّها. يعرف اللحظة أنها تداور. هاجسها التعرف على حقيقة علاقته بالحاسوب، وهيأتها الظاهرة كشفٌ بعدم الاكتراث. تخفي بما هي تعلن. ولعلّها تعلن بخفر. امرأته هي، ويعرفها. متأكد هو من أنها تحسب سلوكه هذا على شبيه سلوكات الصبيان، أو أقلّه هو من تصرفات المراهقين. لا يأبه. لمَ يأبه؟ والحال أنه لا يأتي شناراً به يُرجم ويُجرّس. يندم السي محمد لمّا يجرأ فيحادث امرأته في السياسة. قال لها، بينما هي توليه الظهر، إنه لا يني يتابع سير تشكيل الحكومة. السي محمد لا يجد في البيت من يشاطره هذه المتابعة. منذ فارق الولدان البيت صار فيه من غير رجع صدى. بات يتوجه بالكلام إلى غيرٍ مصمّت. لا السياسة تستهوي المرأة ولا الحاسوب. فقط عجوز ظهِرٌ ولا تسفر عن رابط كما لو فُلجت. في العادة، يتناول السي محمد فطوره وعينه على باب الشقة.

بئسه من تقاعد، يا صديقي،  هذا الذي لا تلفي فيه من يقاسمك الحديث في السياسة وما شاكل! الرجل اللحظة بمقهى مسك الليل وأمامه جليسه عمار، وإليه يفضي بشجون. وحده السي عمار يجاريه في هذا الاهتمام الذي يشفّ عنه السي محمد وهو يرصد وقائع تشكيل الحكومة ثانيةً بثانيةٍ. أنا لا أفهم كيف أن البلاد على صفيح ساخن فيما امرأتي غائبة. هل يجوز هذا يا عمار، هل حقاً يجوز؟ يعلم السي محمد مسبقاً جواب صديقه، لكنه يريد أن يسمعه من جديد. لا يعنيه عدد المرات التي أسمعه إياه السي عمار. ويعنيه سماع هذا الجواب نفسه. في المقهى يتلهى الرجلان باقتناص الأخبار. السي عمار يرشف من كأسه الشاي وهو يغرق الوجه بين الصفحتين، في حين يلوذ السي محمد بالمحمول يستودفه آخر المستجدات في باب الحكومة. أخبار على الواتساب، وأخبار على تويتر، وأخبار على الهسبريس، وأخبار على الفايس.. الصحافة الورقية لوحدها لا تقنع الرجل.

يحدث أن يقعد الرجلان بالمقهى لوقت دون أن يبصما على حديث. فقط يظلان متقابلين أو متجاورين مستغرقين في الصحف، وقد ينهضا فيتمشيان على طول الرصيف الواصل بين النافورة والمركز التجاري أسواق السلام. يتمشيان كل على منواله المعتاد. يشبك عمار أصابع اليدين خلف ظهره بينما يفرد السي محمد اليدين على الجنب أو يحشرهما في الجيب. وبعد حين، يعودان الهوينى إلى المقهى أو يغادران إلى المطارح. يتفقان في أوقات على ارتياد بار نجوم الليل أو بار إيلدورادو. قنينة جعة على حدة وقنينة نبيذ مشتركة. يشربان ويتحادثان. تكون السياسة، في الغالب الأعم، الخيط الناظم لجلسة قد تستغرق الساعتين أو تتعداهما بفائض معقول.

شأنُ تشكيل الحكومة شأنٌ يشغل بال السي محمد. يظل الرجل يقلب حالة “البلوكاج” الحاصل وجهاً لقفا، فلا يفهم. في الشقة يفعل. في المقهى يفعل. في  البار يفعل. ويفعل آناء الليل وأطراف النهار. كيف يفهم؟ صارت حالة الرجل تثير شفقة لالة فاطمة. ليت أحداً ينصحه، فيكفّ عن هذا الهوس الذي ينمّ عنه رجلها ووالد ولديْها. ليت السي عمار، صديقه الأثير، ينصح ويفيد. لالة فاطمة تريد أن يعود إليها السي محمد. والسي محمد يريد أن يُفكّ إسار حكومتنا الموقرة، فترى في ما باتت عليه البلاد من انحسار خاطر وفوضى أسعار وغياب أمن. كل هذا الهوس بالأخبار من هذا “البلوكاج” اللعين. لالة فاطمة صارت تكره هذا المسمى “البلوكاج”. وتكره من خلقه، ومن أبقاه، ومن أقحمه في بيتها. لالة فاطمة تكره التلفزة والحاسوب والجرائد والحكومة والانتخابات والأحزاب. وتكره السياسة والسياسيين. فقط تريد أن يعود رجلها إلى البيت، تماماً مثلما كان يعود إليه من قبل. رجل محمل بالمونة ووافر ضحك. كيف تنسى أوبْة الرجل كل مساء؟ وله تتحمّم وتتزيّن وتتعطّر وتُزجّج الحاجبين وتُدلك الشفتين بالقلم وتضع الكحل في العينين وتمشط الرموش بالماسكرا . ولها يأتي صافياً ومتلهفاً ومدججاً بحلوى وهدايا. تلك أيام، واحسرتاه، مضت كأنّما لم تكن قط. اليوم، وقد أضوى منها الجسد ووهن العظم وفاضت عنها الكُسوة، ها إن الرجل اختار السياسة شغلاً والجهاز اللعين وسيلةً.

ولمّا سمع السي محمد امرأته تدعو في صلاتها لصباح هذا الجمعة 13 يناير 2017 بدعوات الرحمة والفرج لهذا “البلوكاج” لم يتمالك نفسه فسرّح ضحكة طويلة كادت تذهب ببلعومه. ولولا أن هبّت لالة فاطمة من صلاتها تلقِمه جرعات ماء لكانت روحه قد زهقت. يا رجل (أعادت اللفظ غير ما مرة، يا رجل!)، الله يهديك. تلقِمه وتردد اللازمة فوق رأسه، فيما هو يشطّب بيده في الهواء وينهض وقد شخب الماء من مقلتيه. قالت له إنّها بدعواتها تلك إنما تدعو له هو وليس لهذا “البلوكاج” اللعين. فافهم يا رجل، الله يهديك، تضيف وهي ترفع السجادة وتطويها على اثنين. السي محمد ابتسم، وانصرف إلى الخارج يشدّ بيده على محموله سمارت فون. في الخارج، بمقهى مسك الليل، لم يجد لصديقه عمار أثراً، لكنه وجد صحف اليوم تخبر عن “توجيهات ملكية لابن كيران” مفادها  «.. أن الملك محمدا السادس كلفه، رفقة النائب الأكبر في البرلمان المغربي عبد الواحد الراضي، بالاجتماع مع الأحزاب السياسية بهدف انتخاب رئيس مجلس النواب..». انتهى الكلام؟!

____
القنيطرة، يناير 2017

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *