كان العم شحاتة أشهر وأهم شخصية في عزبتنا , فلولاه ما دخلت المياه النقية إلى العزبة , ولا أنارت الكهرباء شوارعنا وداخل بيوتنا , وهو فوق ذلك رجل طيب بمعنى الكلمة . لم يؤذ أحدا , تراه مبتسما دائما , خدوما لا يتأخر عن مساعدة أي أحد من العزبة أو من خارجها , ومع ذلك كان اللقب المعروف به – في غيابه طبعا – هو ” شحاتة أبو رشفة ” .
وأنا الذي كنت أحب عمى شحاتة وأكن له احتراما كبيرا , لم أكن أقبل أن يدعوه أحد بهذا اللقب , أما هو نفسه – وقد عرفت ذلك فيما بعد – فلم يكن يجد غضاضة في هذا اللقب , وكثيرا ما كنت أراه وهو يرشف بصوت واضح , ثم يمسح منخاره بطرف كم جلبابه الواسع الذي كان دائما غامق اللون أسود أو بنى أو أزرق .. وقد لاحظت في الأيام الأخيرة من حياة عم شحاتة أنه يرشف بكثرة وبصورة لافتة للنظر , وكان في هذه الأيام قد انقلب حزينا بسبب تنكر كثير من الناس في العزبة لجهوده , وربما بسبب المرض الذي ظهر عليه بصورة واضحة .
– 2 –
كان لقائي المعتاد بعم شحاتة في الصباح الباكر عند كوبري الصيفي ، هو عائد من عمله الليلي خفيراً في منطقة الإصلاح الزراعي ، وأنا ذاهب إلى المدرسة ، قبل أن نلتقي بعدة خطوات أشم رائحة الطعمية الساخنة ، وقبل أن أنطق يبادرني بتحية الصباح :
– صباح الخير يا أستاذ
لم يزد عن هذه الكلمات الثلاثة ، أما الأستاذ الذي هو أنا فليس سوى تلميذ في الصف الأول الثانوي . ولذلك كنت أسعد بهذه التحية , فأزفر من أعماق صدري ، دلالة على الرضا , إنه العم شحاتة يقدرني ويحترمني .
– صباح النور يا عم شحاته
– 3 –
إنه يوم الاثنين , أعظم أيام الأسبوع وأهمها في العزبة ، أو بالنسبة لي على الأقل , إنه يوم الإجازة الأسبوعية للعم شحاتة , فقد كان العم شحاته ينام معظم نهار هذا اليوم على غير المعتاد ,استعدادا للسهر وملاقاة الأحبة والجلوس مع الأهل والأقارب . أقول على غير المعتاد , لأن العم شحاتة في باقي أيام الأسبوع يعمل طوال النهار في الحقل , وفى آخره يعود منهكا إلى عمله الليلي في المدينة , فما الذي يفعله خفير لا يحمل إلا عصا من الخيزران سوى النوم وهش القطط والكلاب التي تحاول الاقتراب من غذائه أثناء صحوه ؟ !
في هذا اليوم تبدأ السهرة ، بعد العشاء مباشرة , ويسبقني أبى ومعه أمي إلى بيت العم شحاته وهناك يجتمعون مع نفر كبير من أقارب العم شحاته ونسائه فله زوجتان الأولى فاطمة والثانية هانم ، وإلى جانب ذلك هناك بناته الأربعة و أيضا صباح زوجة محمد أبو أمام ابن فاطمة من رجل آخر ، كنت أتأمل في الوجوه فأجد الجمع يغلب عليه النساء ، أما الرجال فقليلون ، فكل رجل يأتي بزوجته وقد يغادر المكان قبل أن تنتهي السهرة التي كانت تطول إلى منتصف الليل ، رغم شدة البرد في الشتاء إلا أن كثرة الأنفاس والنار التي لا تخبو في الموقد الفخاري ونار النرجيلة التي لا تهدأ ورائحة المعسل وأكواب الشاي ، كل هذا كان كفيلا بإشاعة الدفء في المكان والنفوس معا .
– 4 –
لم أكن لأحضر السهرة من أولها ، كنت انتظر إلى أن أنتهي من عمل واجبي المدرسي فأذهب متأخراً متسللا من المنزل تاركاً إخواني الصغار نائمين ومغلقا الباب في حرص خشية أن تدخل الكلاب أو القطط ، وأسير في الظلام مستهديا بنور القمر أو بالأضواء المتسللة من بعض البيوت التي لم تنم بعد ، فلم أكن أخاف أو أشعر بالخوف ، ربما لأنني كنت طوال الطريق أفكر في شئ واحد هو لقاء العم شحاتة مستعرضاً كل الوجوه التي أتوقع حضورها ، فاطمة بوجهها الأسمر الباسم ، وصباح التي تدور حولنا كالنحلة ، ثم تأتى لتجلس بجواري ومن آن لآخر تتطلع في وجهي وتبتسم ، وأبى وقد قبع مكوما على نفسه في ركن القاعة يستمع دون تعليق لحكايات العم شحاتة المتواصلة التي لا يقطعها سوى صوت رشفته التي تعلو وتخفت أحيانا حسب إيقاع الكلام ، وعندما أصل يلتفت الجميع نحوي بعد أن ألقى تحية المساء ، ويتوقف العم شحاتة للحظة عن الحكي ، في حين تبدأ فاطمة في صب الشاي لي ، الذي يكون دافئاً في الكنكة القريبة من النار ، فأشرب الشاي وأجدني بدأت في الكلام بتعليق أو بذكر حكاية عن المدرسة ، فأجد اهتماما بحكايتي , فاستمر تساندني نظرات أمي المشجعة ، وابتسامة فاطمة العذبة ، أما هانم فكنا نسمع شخيرها من آن لآخر فنضحك ، ويردد العم شحاتة تعليقه الساخر :
– قومي نامي يا هنومة .
وعندما انتهى من حكايتي ، يكون هذا إيذانا بانتهاء السهرة ، وتكون هانم قد كفت عن شخيرها وبدأت في الانتباه هي والبنات إلى تعليمات وأوامر العم شحاتة , في الفجر يعلق محمد أبو إمام الساقية في غيط العبيد ، وصباح تضع ماء للبقرة الصغيرة والبنات يناموا بدري علشان بكرة فيه شغل في الغيط و.. عند ذلك يتململ أبى الذي كان ساكنا طوال السهرة ، ويبدأ في القيام من مكانه الدافئ معلنا انتهاء السهرة :
– تصبحون على خير .
فتسحب أمي نفسها في صمت وراءه ، أما أنا فكنت أتمنى أن تطول السهرة أكثر من ذلك ، ولكنى أنسحب أيضا ونكون نحن آخر من يخرج .
– 5 –
وفى المنزل استعرض ما حدث طوال السهرة ، ثم أحاول النوم ولكن بلا جدوى ، وعند ذلك يلفت انتباهي صوت أمي وأبى في الغرفة المجاورة التي يفصلها عن غرفتي باب خشبي مغلق , يمكنني مع سكون الليل أن أسمع أي همسات أو حركات في الغرفة المجاورة ، بعد قليل أسمع صوت أبى يناديني ، فاذهب ، أجلس على طرف السرير بجوار أبى الذي يكون في ذلك الوقت راكنا بجذعه على الوسادة وفى يده سيجارة مشتعلة حتى منتصفها بينما ترقد أمي بجوار الحائط ، وقد كشف الغطاء من أعلى عن جزء من قميصها الوردي الذي يبدو لي قاتما خلال الضوء القادم من مصباح مضاء في الصالة ، فانظر إلى عينيها اللامعتين ، فأشعر بأنها راضية عن أبى ، على الرغم من كثرة سخطها عليه في أغلب الأوقات ، فيسعدني ذلك ، و يتواصل الحديث وأشعر بإعجاب أبى نحوي ، فأتحدث وأتحدث ، وعندما أرى أبى قد وضع رأسه على الوسادة وأسمع في الوقت نفسه شخير أمي المتقطع أنسحب في هدوء وأنا أقول
تصبحون على خير
فلا أكاد أسمع رداً فأقوم وأغلق الباب خلفي ثم أدلف إلى حجرتي من جديد ، وأبدأ رحلة النوم في رضى تام ، يحدث ذلك كل يوم اثنين تقريبا ، غير أن الذي كان يضايقني ، أنني عندما أقوم من نومي صباح الثلاثاء ، أجد لباسي الداخلي مبللاً بسائل لزج ولأنني كنت أصحو متأخرا ذلك الصباح ، أضطر لتأجيل الغسل كي لا أتأخر عن المدرسة ، فارتدى ملابسي على عجل وأسير في الطريق ، وأنا أعلم أنني لن أقابل العم شحاته هذا الصباح ولن أسمع تحيته المعتادة لي :
ـ صباح الخير يا أستاذ
-6-
وفى المدرسة ، لسبب أو لآخر كنت أهان في ذلك اليوم ، لذلك كنت أكره يوم الثلاثاء ، ولم أكن لأكره العم شحاتة أبو رشفة أبداً .