قّدم الكاتب والمفكر الاشتراكي المصري الراحل سلامة موسى (1887-1958م) في واحد من أهم وأبرز مؤلفاته “التثقيف الذاتي أو كيف نربي أنفسنا” -والذي صدرت له ست طبعات كان أولها منذ ما يقرب من السبعين عامًا؛ عام 1946م وحتى عام 1958م- تجربة مغايرة عن بعض المطبوعات العربية التي تناولت الثقافة ومفاهيمها وما يتعلق بها شكلاً وموضوعًا؛ فقد حاول خلال صفحات هذا الكتاب أن يبلور حاجة الفرد للغذاء الذهني وتثقيف الذات دون كثيرًا من التنظير الأجوف أو التقعر في الألفاظ، بل يضع القارئ مباشرة على طريق التجربة الثقافية، راسمًا حدودًا أساسية لهذا الطريق، ومرشدًا له بما تكّون له من خبرات شخصية وتجارب حياتية لاحتكاكه الطويل بالمجتمع الغربي. وقد استهل سلامة موسى كتابه بمقدمة تُعنى مباشرة بهدف وغرض هذا الكتاب؛ إلا وهو “تخريج الرجل المثقف”، بل ويعرج مباشرة إلى أهمية “الثقافة” بمفهوم واسع وشامل يتعدى معناها التقليدي ليشمل فكرة أوسع وأرحب كأسلوب لحياة الشاب العصري في القطر المصري خاصة، وفي المجتمعات العربية عامة، إذ أنه يوجه هذا الكتاب بالخصوص لفئة الشباب في تلك الفترة الهامة من تاريخ مصر؛ نهاية عهد أسرة محمد علي والاحتلال البريطاني لمصر. ويعد هذا المؤلف أيضًا أداة إرشاد تستهدف الذين لم ينالوا قسطًا وافرًا من التعليم لمساعدتهم للارتقاء والتطور الثقافي.
وقد لجأ سلامة موسى في مقدمة كتابه لتوضيح منهج قراءة محدد للانتفاع بهذا الكتاب؛ إذ أنه قام أولاً بمعالجة قيم ومبادئ وأفكار أولية، ثم ما لبث أن استكمل أهم مقومات التثقيف الذاتي بدارسة اللغة العربية ابتداءًا، مرورًا بدراسة العلوم والسياسة والتاريخ والفلسفة والدين والفنون، وانتهاءًا بوضعه لبرنامج للتثقيف الذاتي، داعيًا كل فرد في المجتمع أن يضع لنفسه برنامجًا لتثقيف الذات يناسبه وفقًا لاهتماماته.
التعليم والمجتمع
طرح الكاتب عدة قضايا جديرة بالتأمل ليومنا هذا، ومنها على سبيل المثال جدوى التعليم المدرسي والجامعي وأثره على حياة الفرد، ذلك أن هذا التعليم النظامي لا يشجع المواهب ولا القدرات الخاصة لكل طالب، بل والأكثر أنه تعليم تلقيني يقوم على تعليم بعض المعارف أو العلوم دون امتلاك للوسيلة أو المنهج أو الطريقة لاكتساب تلك المعارف والتزود منها، وهو للعجب من أكثر ما نشكو منه اليوم عن حال التعليم في مصر! والمجتمع الذي يؤمن بحرية الثقافة، ويدعم انتشار أوعية المعرفة كالكتب والمجلات، ويكون فيه للمكتبات أهمية وقيمة المدارس والجامعات، ولا يحد من حرية المثقف، حينئذ يكون لهذا المجتمع الراقي وما يقدمه من ضروب المعارف، أدبًا وفنًا وعلمًا، الأثر البالغ على ثقافة الفرد، ومن ثم ثقافة المجتمع بأكمله؛ فالمجتمع “يريبنا” حسب قول سلامة موسى، فالعديد من العلماء والأدباء البارزين، داروين، وبرنادشو، والأديب المصري عباس محمود العقاد على سبيل المثال، لم يتلقوا قسطًا كافيًا من التعليم، ولكنهم تركوا بصمات لن تمحي من تاريخ التراث الإنساني بمساعدة للمحيط المجتمعي والثقافي الذي أحاط بهم وأثر في تكوينهم.
مسئولية التثقيف الذاتي للفرد؛ أهميتها ومعوقاتها
يتساءل الكاتب بتعجب واستنكار كيف للفرد أن يقضي ما تبقي من عمره بعد تخرجه من الجامعة في بداية العشرينات على ما اكتسبه من معارف مرحلة الدراسة الجامعية وما سبقها، فيشبه الكاتب ذاك الشخص المنطوي على حاجته للكسب وحسب بأنه يعيش حياة غير ذات مغزى ودلالة، ولا يختلف بيولوجيًا عن الكائنات الأخرى الأدنى درجة، فالثقافة ضرورة أساسية لتطور الفرد والمجتمع، بل ومكونًا أساسيًا للسعادة الشخصية للفرد؛ فالفهم أعظم أنواع السعادة، والمعرفة هي السبيل إلى الحب. وفي نطاق المجتمع فالجمهور الغير مثقف هو أعظم الوسائل استغلالاً للمستبدين والمستعمرين؛ لأنه سريع الانقياد، شديد التأثر بالوعود البراقة والكلمات الرنَّانة، فمسؤولية الديموقراطية بعد انتهاء نظم الحكم القائمة على الأفراد –كالملكية والإمبراطورية وما على شاكلتها- تحتم على الفرد والمجتمع الاطلاع ما يدور حوله من ن مجريات الأحداث الآخذة في التغّير، والوقوف على “العقل العام” للمجتمع المحيط، وهنا تظهر قيمة أوعية المعرفة كتابًا أو جريدةً أو مجلة؛ فإن عاش المجتمع متخذًا من القراءة والمطالعة عادة اجتماعية لاتخذ الفرد قرارته المصيرية وفقًا لوعيه وفكره، مميزًا بعقله المستنير بين الأفكار الراشدة وبين الدعاية المضّللة.
وقد أصبحت مسئولية الثقيف الذاتي أشد طلبًا بعد زيادة أوقات الفراغ وتطور العلم حتى لا يصل الفرد لمرحلة أطلق عليها كاتبنا مرحلة “الترهل الذهني” لأنه يترك ذهنه فارغًا هشًا من الأفكار والرؤى، كالرياضي الذي توقف عن تدريب عضلاته يومًا بعد يومًا فصار مترهل الجسد. ولا ننكر أن هناك بعض المعوقات التي تقف حائلاً في سبيل تلقى المعارف والنهل من بحر الثقافة؛ كالعادات الشخصية للفرد، وقراءة الغث من الجرائد والمجلات، وعدم التكافؤ الثقافي بين أفراد العائلة الواحدة، وتعارض تحصيل العيش مع تحتاجه عملية التثقيف الذاتي من وقت ومال، وتعد أبرز تلك المعوقات وأشدها تأثيرًا هي المعارضة المجتمعية لبعض ضروب المعرفة والرقابة على حرية الفكر.
الثقافة: ماهيتها وغايتها
اختلف الكاتب في إيجاد تعبير محدد لماهية الثقافة ومدى اختلاطها بالحضارة؛ فقد رأى أن الثقافة هي التراث البشري الذي تكوَّن فيما لا يقل عن خمسين ألف سنة، والحضارة هي واقع الثقافة، ولا يلزم أن يكون واقع الثقافة والحضارة متماثل سوى في المجتمعات الراقية التي تتواكب فيها حركة الثقافة مع حضارة المجتمع وتوجهاته. وإن كان غرض الكتاب بأكمله هو الترغيب في الثقافة وإيضاح أهميتها للفرد والمجتمع، وعرض أبسط الطرق والأساليب للخوض فيها؛ فالكاتب قد شدّد على أن التثقيف الفكري يجب أن يكون بمحل العملية الفسيولوجية للفرد، يحتاج إليه كالماء والغذاء، ليتنفس عقله ولا يركد، ويموت ذهنيًا قبل أن يدفن بسنوات. كما أن المعارف وإن كانت ثابتة في موضوعها، فهي متغيرة في تأثيرها؛ فهي تمتزج بنفسية الفرد، ويختلف تأثيرها من شخص إلى آخر لاختلاف الحاجة النفسية عند كل منهم.
الفرد المثقف وإشكالية الثقافة والأدب العربي
أورد سلامة موسى شروطًا أولية لما يجب أن يكون عليه المثقف بصورة عامة نقلها عن الرئيس الأميركي الثامن والعشرون للولايات المتحدة “توماس ويلسون” (1913-1921م) لإعجابه بما لديه من الخبرات الحياتية والثقافية والسياسية البارزة، فيجب على “الفرد المثقف” –وفقًا لويلسون- أن يعرف تاريخ العالم منذ بداية الكون إلى الآن، وأن يدرك تاريخ الأفكار السائدة التي يسير عليها العصر الحالي من مبادئ، ويطلع على فرع من فروع العلوم التجريبية الحديثة، ثم يجيد لغة ما، وخيرها هي لغته الأم. لكنه -أي الكاتب- عاد وانتقد هذه الشروط، على أهميتها، إلا أنها أغفلت أهمية الفنون الجميلة في تهذيب سلوك الفرد المثقف. غير أن أبرز ما يؤخذ على سلامة موسى التفاته بالكلية إلى النظريات العلمية التي أثرت في تكوينه كنظريات داروين للنشوء والارتقاء، وانتقاصه من قدر الثقافة العربية القديمة بوجه عام، ومن مكانة الأدب العربي بوجه خاص، وعدم التفاته إلى دور الحضارة الإسلامية في حركة العلوم البشرية، فهو يري أن دراسة الأدب العربي لا يمكن أن تشكل مكونًا للإنسان العصري في وجهة نظره، وانتقد ما قدمته المكتبة العربية من معارف وعلوم خلال النصف الأول من القرن العشرين، وحين وضع قائمة بأهم الكتب التي غيرت وجه الثقافة البشرية في نظره؛ فجاء على رأسها كتاب “أصل الأنواع” لداروين، وذيلها بكتاب قاسم أمين الشهير “تحرير المرأة”.
سيكولوجية القراءة والدراسة
من أبرز موضوعات كتاب “التثقيف الذاتي” ما طرحه الكاتب عن سيكولوجية القراءة والدراسة، فقد رأى أن ما يحتاجه المثقف للدراسة وحتى القراءة الجادة هما أمرين؛ الحافز والذكاء. أما الحافز فهو الرغبة المشتعلة لتحصيل العلم، الشغف الذي تخلقه الحاجة الملحة للمعرفة، وهو أما طبيعيًا ينشأ مع الفرد منذ الطفولة، أو مكتسبًا يعرفه الفرد في سن الشباب. واشتهاء وطلب العلم والمعارف أهم من الذكاء عند سلامة موسى؛ فإذا كان الحافز قويًا، فلا يبالي الفرد بمقدار ما يملك من ذكاء؛ لأن قليلًا من الذكاء مع كثير من الرغبة في الدرس هما خير ألف مرة من ذكاء عبقري مع انعدام الرغبة. ولتكون للقراءة والدراسة أثرًا فعالاً وحقيقًا في نفس الفرد فيجب عليه أن يتصفح الكتاب بعناية أولاً، ثم يقرأ محتوى الكتاب وفقًا لترتيب الكاتب، ويقوم بالتعليق على ما قرأه، بل ونقده أيضًا وكأنه يناقش الكاتب في أفكاره، فتصير هنا القراءة ذات اتجاه إيجابي بحق، لا يتلقى معها القارئ المحتوى المدون في الكتاب وحسب؛ ولكن يتفاعل معها، وتنطبع في ذهنه، وتأثر في تفكيره مكونةً نسيجًا جديدًا يختلف باختلاف عقلية المتلقي واتجاهاته الفكرية. وينصح سلامة موسى أيضًا باختيار وقت ومكان الدراسة والقراءة للحصول على أكبر قدر من التهيئة النفسية للفرد والاستفادة من تلك المعارف.
أساسيات التثقيف الذاتي للمثقف المصري
بعد أن قدم سلامة موسى مدخل عن الثقافة وأهميتها ومعوقاتها وغايتها، وقدم دليلاً للاستفادة من القراءة المثمرة؛ فقد قام بتحديد إطارًا عامًا لما يجب أن يطلع عليه الفرد المثقف من معارف، فعكف على توضيح أهمية اللغة العربية في فكر وتكوين المثقف المصري، وانتقد في موضع آخر نكوص الجهات المتخصصة بتدريس اللغة العربية ككلية دار العلوم بمصر –في الفترة التي عاصرها الكاتب- عن إصدار معجم عربي عصري للطلبة. وعلى الرغم من انتقاده الدائم للأدب العربي؛ فالكاتب يعود ليقدم للقارئ ترشيحات مختارة لقراءة نماذج من عيون التراث العربي والتي تعد أساس الثقافة العربية القديمة، وكذلك الكتب التراثية في مجال الفلسفة والرحلات. ولدراسة الحضارة المصرية القديمة مكانة بارزة في عملية التثقيف الذاتي عند سلامة موسى لكونها تراثًا إنسانيًا فذًا، ولكون مصر تختص بهذا التراث في الأساس إذ يمثل جذرها التاريخي الأول، ورافدًا من روافد تشكيل ثقافتها، فوجب على المثقف المصري إلا ينقطع عن أصوله المصرية القديمة. وقد عنى الكاتب بأهمية التعرف على اللغات الأجنبية لتسهيل الاطلاع على الأدب العالمي بلغته الأساسية، فضلاً عن اللغات الأجنبية هي اللغة التي نطقت بها العلوم في العصر الحديث، كما رأى ضرورة تعرف الفرد على بعض أساسيات الاقتصاد والفلسفة والدين والفنون والتاريخ.
برنامج التثقيف الذاتي للفرد: من التعميم للتخصيص
قام سلامة موسى في نهاية كتابه بالحديث عن بذور ثقافته قبل أن يرشد القارئ لكيفية وضع برنامج للتثقيف الذاتي خاص به، ودعا من ينشد الثقافة بحق أن يتوسع في المعارف السطحية على خلاف نظرية التعمق والتخصص في علم محدد من العلوم، فللكاتب نظرية مفادها أن التعميم في المعارف سيؤدي بالتبعية إلى الوقوع في أسر لون من ألوان العلوم أو الفنون أو الآداب، فيأخذ هذا المثقف المحب في التبحر فيه رويدًا رويدًا، ويصير سائر ما يقرأ بالنسبة له فرعيًا. ومن يحصر نفسه في نوع واحد فقط من المعارف لا يعرف ما سواها فهو ليس بمثقف؛ بل متعمق أو متخصص، وبالمثل، فالمثقف الذي لا يتعمق في علمًا معينًا لن يكون مثقفًا حق الثقافة. والمعارف مرتبطة متشابكة منذ قديم الأزل، فكبار العلماء والمفكرين قد اتخذوا من الثقافة العامة منهج وأسوب حياة؛ فنجد الأديب يطلع على مبادئ علمًا من العلوم، ونجد العالم يبحر في لونًا من الآداب أو الفلسفة. والحق أن البحث عن الحكمة هو جوهر هذه الحياة، او بعبارة أخرى للمفكر سلامة موسى “التثقيف للحياة وليست الحياة للتثقيف، ولأجل أن نتوسع ونعيش الحياة؛ حياة النفس والجسم والذهن، يجب أن نثقف عقولنا ونربي أنفسنا”.