ولادة لابن زيدون: يا أخا البدر سناء وسنى


د.رشا غانم

إنّ قصّة حب ولادة وابن زيدون واحدة من أجمل قصص الحب في تاريخ الأندلس وفي تاريخ الأدب العربي بصفة عامة، ولولا هذا الحب ما وصل إلينا هذا الشعر الجميل لابن زيدون.

فقد ذاق ابن زيدون القرطبي (ت: 463 هـ) ولهْ الحب وآهات الشوق ولوعة الفراق وألم الجوى والحرقة من محبوبته الأميرة ولادة بنت المستكفي بالله آخر الخلفاء الأمويين في القرن الحادي عشر الميلادي، فنجده يرسل لها معبرا عن تباريح الهوى بقصيدته النونية التي يقول فيها:

أضْحَى التَّنَائِي بَدِيْلاً مِنْ تَدانِيْنا ** وَنَابَ عَنْ طِيْبِ لُقْيَانَا تَجَافِيْنَا

ألا وقد حانَ صُبح البَيْنِ صَبَّحنا ** حِينٌ فقام بنا للحِين ناعِينا

مَن مُبلغ المُبْلِسينا بانتزاحِهم ** حُزنًا مع الدهر لا يَبلى ويُبلينا

أن الزمان الذي ما زال يُضحكنا ** أنسًا بقربهم قد عاد يُبكينا

غِيظَ العِدى من تساقينا الهوى فدعوا ** بأن نَغُصَّ فقال الدهر آمينا

فانحلَّ ما كان معقودًا بأنفسنا ** وانبتَّ ما كان موصولاً بأيدينا

لم نعتقد بعدكم إلا الوفاءَ لكم ** رأيًا ولم نتقلد غيرَه دينا

وما زالت الآلام لا تسكن كأنها أنفاس حارة ملتهبة تبرز شوق الشاعر ولهفه وهيامه وموته حبا ووجدا في محبوبته يقول أيضا:

حالت لفقدكم أيامنا، فغدت ** سوداً وكانت ـ بكم ـ بيضا لياليناً

لا تحبسوا نأيكم عنّا يغيّرنا ** إن طالما غيّر النأيُ المحبينا

وقد يقول قائل لماذا كل هذا العناء من الشاعر، وقد نجح في تحقيق مكانة كبيرة على المستوى المهني فكان وزيرا شاعرا مفلقا في عصره، ولكن هذه المكانة العظيمة لم تجعله يهمل حبه الذي أذاب به كل ألفاظ العشق، والذي كان ملجأ لإثارة الغيرة والحقد على القلبين المتحابين سواء من الوزير ابن عبدوس الذي أحب ولادة وسعى للتفريق بينها وبين ابن زيدون، أو لفورة كثير من الإضرابات السياسية في عصر الشاعر، نجده لم ينس حبه الذي اكتوى بنيرانه وتنفس لهيب زفراته، وراح ابن زيدون يئن ويتعذّب، ويكتب الكثير من القصائد الخالدة عن حبه.

يقول:

أَغائِبَةً عَنّي وَحاضِرَةً مَعي ** أُناديكِ لَمّا عيلَ صَبرِيَ فَاسمَعي

أَفي الحَقِّ أَن أَشقى بِحُبِّكِ أَو أُرى ** حَريقاً بِأَنفاسي غَريقاً بِأَدمُعي

أَلا عَطفَةٌ تَحيا بِها نَفسُ عاشِقٍ ** جَعَلتِ الرَدى مِنهُ بِمَرأىً وَمَسمَعِ

صِلينِيَ بَعضَ الوَصلِ حَتّى تَبَيَّني ** حَقيقَةَ حالي ثُمَّ ماشِئتِ فَاصنَعي

قيثارة حبه كسمفونية عظيمة شدت بأعذب الألحان نجده يقول مناجيا لها:

لَعَمري لَئِن قَلَّت إِلَيكَ رَسائِلي ** لَأَنتَ الَّذي نَفسي عَلَيهِ تَذوبُ

فَلا تَحسَبوا أَنّي تَبَدَّلتُ غَيرَكُم ** وَلا أَنَّ قَلبي مِن هَواكَ يَتوبُ

أما ولادة بنت المستكفي (ت: 480 هـ)، فهي أميرة أندلسية، أديبة وصاحبة مجلس أدبي، اشتهرت بثقافتها واتصالها بذوي الأدب، ومعظم ما يذكره المؤرخون عنها يتصل بمجلسها الأدبي الذي كان يحضره الكثيرون من أهل الأدب ووجهاء القوم بقرطبة يجتمع فيه أشهر المثقفين والشعراء والأدباء؛ ليتحدثوا في شؤون الشعر والأدب بعد زوال الخلافة الأموية في الأندلس.

وكان ابن زيدون من أولئك الأدباء الذين ارتادوا مجالسها الأدبية وكان آنذاك في مَيْعة الشباب ورونقه.

ارتبطت سيرة ولادة بالشاعر الأندلسي ابن زيدون، في قصة من أشهر قصص الحب والمعاناة والهجر في الأدب العربي. وقد حكت أشعار ابن زيدون مأساته مع ولادة. .

ولادة مبدأ حياة ابن زيدون، هام بِها، وقال فيها قصائده الجميلة وأعذب أشعاره وأرقها التي تعبر عن حبه لها. وكانت ولادة ليست كأي واحدة من النساء فكانت تتمتع بالجمال، وبالإضافة لجمالها كانت تتمتع بثقافة عالية.

فنجد أن أحسن وضع للمرأة عند العرب في العصور الوسطى كانت تحظى به المرأة العربية في الأندلس، حيث تمتعت المرأة بمكانة عالية في المجتمع. فكانت انطلاقتها في المجتمع الأندلسي أوسع مما كانت عليه في البلدان العربية والإسلامية الأخرى.

وإننا نلاحظ من خلال المصادر الأدبية والتاريخية المتعلقة بالأندلس أنّ المرأة في الأندلس احتلت مكانة عظيمة في المجتمع. ولقد قدّر الرجل الأندلسي المرأة الأندلسية، وبالغ في تبجيلها. ومن القصائد والمقطوعات التي قالها الأندلسيون في المرأة تظهر هذه المكانة العظيمة في قلوبِهم.

ولقد تميزت المرأة العربية في الأندلس بحكم طبيعة المجتمع بنشاطها الذي ساعد فيه براعتها في شتى النواحي العامة في الحياة، ولو تأملنا واقعهن في الحياة للمسنا العناية الواضحة التي كان يوليها المجتمع للمرأة من حيث توفير فرصة التعليم لها، فضلا عن الرعاية التي خصصها الأمراء والخلفاء لهن، وتشجيعهن من خلال إغداق الأموال عليهن، وتحفيز العلماء لتعليمهن، فكانت المرأة الأندلسية أكثر قدرة على الحركة تتعلم وتتفقه في الدين وتدرس الأدب وتنظم الشعر وتشارك في الحياة العامة، وتبوأت مكانة في مجالات الحياة المختلفة وتمتعت بحرية واسعة فأصبح لها شخصيتها المستقلة.

في حدائق مدينة قرطبة الأندلسية بدأ اللقاء الأول بين ابن زيدون وولادة. وفي أجواء مشبعة بالأريج والشذى. وتقول بحنين مفرط إلى لياليها السالفة مع ابن زيدون:

يا أخا البدر سناء وسنى ** حفظ الله زمانا أطلعك

إن يطل بعدك ليلي فلكم ** بت أشكو قصر الليل معك

وتقول بحنين مفرط إلى لياليها السالفة مع ابن زيدون:

ودّع الصبرَ محبّ ودّعك ** ذائع مِن سرّه ما اِستودَعك

يقرع السن على أن لم يكن ** زاد في تلك الخطى إذ شيّعك

وتقول عن الفراق ولوعة المشتاق:

أَلا هَل لنا من بعد هذا التفرّق ** سبيلٌ فيشكو كلّ صبّ بما لقي

وَقد كنت أوقات التزاورِ في الشتا ** أبيتُ على جمرٍ من الشوق محرقِ

فَكيفَ وقد أمسيت في حال قطعة ** لَقد عجّل المقدور ما كنت أتّقي

تمرُّ الليالي لا أرى البين ينقضي ** وَلا الصبر من رقّ التشوّق معتقي

سَقى اللَه أرضاً قد غدت لك منزلاً ** بكلّ سكوب هاطل الوبل مغدقِ

فما أجمل الحب الذي يجعل الإنسان نبضًا يشعر ويحس ويتألم ويضحك ويبكي، فتكون للحياة معنى، فهيا نحيا بالحب ونلقنه دروسًا للأجيال القادمة ونزود عنهم البغضاء والكراهية، ونتغنى به في كل علاقاتنا الإنسانية التي تتشكل بها الحياة فلا نشعر برتابة ولا بملل وإنما نرى كل الوجود جميلا، فالحب حياة الشعوب، وميسم شفائها.

د. رشا غانم ـ مدرس النقد الأدبي ـ الجامعة الأميركية (مصر)

الميدل ايست أونلاين

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *