المَسِيْحُ وَجِيْهًا

خاص- ثقافات

*دكتور بليغ حمدي إسماعيل

مخطئ من يظن أن سطور المقال أو ما بينها ستتناول حادث تفجير الكنيسة البطرسية في ظل الإخفاق المستدام من وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية في إدارة ملف تجديد الخطاب الديني مكتفية فقط بطبع كل ما يكتبه وزيرها وإعادة طبع ما كتبه وترجمة ما كان قد كتبه أيضا ويكتبه إلى لغات أجنبية متعددة وسط  إحداثيات متباينة أبرزها التغافل المتعمد لأقلام وعقول مصرية تنويرية أخرى أتيقن أنها كفيلة بتجديد الخطاب الديني بصورة حقيقية ، وأيضا في ظل موجات تكفيرية تتوافد على المشهد المجتمعي كل نهار وأظن أن الرئيس عبد الفتاح السيسي نفسه مندهش من هذا التقاعس الذي ترتكبه وزارة الأوقاف صوب التجديد والتنوير وكأنها في صراع ضد الكلمتين لا ينتهي الأمر الذي دفع الرئيس إلى تحويل مسار أجندة التطوير إلى الأزهر الشريف الذي عليه أن ينتبه جيدا إلى وجود أصوات تبدو متطرفة أيضا ولا تكترث من الأساس بفعل التجديد .
هذا ليس من باب الادعاء بل من واقع مشهود ونتيجة خبرة مباشرة في العمل بالأزهر الشريف سنحت لي لمدة تزيد عن خمس سنوات لم أر فيها عقلا متجددا أو فكرا مستنيرا اللهم إلا من رحم ربي لكن المناخ العام آنذاك كان كفيلا بشيوع الإحباط واليأس وربما الفوضى أيضا .
والحمد لله أنني قلت ما أريده بشأن تجديد الخطاب الديني في كتابي الأخير ” فقه الخطاب الديني المعاصر ” والذي أعتقد حسب ظني بالمؤسسات الدينية الرسمية أنها لم تعر أية انتباه أو اهتمام لأصوات لم تخرج من عباءتها الضاربة في القدم . لكن على آمل بأن مؤسسة الأزهر التي ألصقت باسمها لفظة الشريف رغم أن المصطلح نفسه يوحي بدنس موجود في المؤسسات الجامعة وإلا لماذا لا نقل جامعة القاهرة الشريفة أو جامعة المنيا الشريفة ، لذا أنا لم أعرف سوف المصحف الشريف الذي اعتاد المصريون أن يحلفوا به وعليه أيضا لكن ربما لفظة الشريف تلك التي ألصقها المتعمدون طوعا أم كرها بالأزهر كانت نتيجة ظروف تاريخية اعترضت حياة الأزهر وتاريخه منذ قرون بعيدة والله أعلم .
لكن هذه السطور التي لن تتناول حادث تفجير الكنيسة ولا تتناول أيضا مسألة تجديد الخطاب الديني المسكين والتائه بين معترك المحتكرين له وحدهم وسواهم ، تتناول السطور التالية الحديث عن شخصية أثرت في تاريخ الإنسانية وهي شخصية جديرة بالاحتفاء لا الحديث عن مشاهد مجتمعية تثير القلق والتوتر وتخلف مشاعر اليأس والقنوط من نواتجها اليقينية والافتراضية أيضا . هذه الشخصية الاستثنائية في تاريخ البشرية السيد المسيح عليه السلام . وربما تأتي متعة الكتابة عن السيد المسيح عليه السلام من زوايا متعددة ، منها أن الذي يخط السطور مسلم ، ومنها أن هناك من نجده متربصا بالسطور وصاحبها ويسعى إلى إيجاد سبب جديد للوقيعة بين عنصري الوطن الواحد ، ومنها على سبيل المثال لا الحصر أن الكتابة عن السيد المسيح كتابة عن السلام في وجهها العالمي ودعوة حقيقية للتسامح الأمر الذي يغفله الكثير من القائمين على أمر تجديد الخطاب الديني .
والحديث عن السيد المسيح حديث شائق ومثير وأكثر إمتاعا لأنه بقصد استطاع أن يؤثر في حياة الإنسانية ، ولأنني كمسلم مأمور بالتسليم والإيمان به بغير شك امتعاض هذا ما لا يفطنه المتهوكون الذين يؤججون للفتنة الطائفية من ناحية ، ويدشنون لأفكار راديكالية متطرفة من جهة أخرى . وهذا يخالف ما ظنه بولونجبروك والملتفون حوله وهم جماعة ارتاع لأفكارهم فلتير نفسه وكانوا يقولون في مجالسهم الساذجة من ناحية الفكر أن المسيح قد لا يكون له وجود على الإطلاق ، بل إن فلني جهر بهذا الشك المريض نفسه في كتابه خرائب الإمبراطورية الذي نشره في عام 1791 .
ولما التقى نابليون في سنة 1808 بالعالم الألماني فيلاند لم يسأله القائد الفاتح سؤالا في السياسة أو الحرب ، بل سأله هل يؤمن بتاريخية المسيح ؟ .
ما سبق ليس من وحي خيال مريض بل أورده أعظم مؤرخي التاريخ في إطلاقه الضارب في القدم وول ديورانت في موسوعته الرائدة قصة الحضارة تحديدا في المجلد السادس الموسوم بقيصر والمسيح . بل إنه يشير إلى أن الصراع حول إثبات تاريخية المسيح استمر قرابة مائة عام بالتمام والكمال وهذا بحق يثير الشفقة على عقول هؤلاء الذين ربما لم يتصفوا وقتئذ بالتطرف والإرهاب أو عدم إعمال العقل ، بل أقل ما يمكن توصيفهم به هو انعدام العقل أصلا .
أما قرآني الذي يهجره الكثير من فصائل التطرف والتكفير وإن اقتربوا منه لم يفطنوا تأويله فيشير إلى تاريخية السيد المسيح اليقينية وفقا للنص القرآني، يقول الله تعالى  : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ ) .
وقوله تعالى (قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) . وقوله تعالى : ( إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ) .
وهذه الآيات القرآنية السابقة تشير إلى عظمة الشخصية التاريخية والدينية والإنسانية للسيد المسيح بخلاف العبث الذي يورده أعظم مؤرخي العالم وول ديورانت في موسوعته العالمية لاسيما وأن هذا المؤرخ لم ير في السيد المسيح عليه السلام أنه من الزهاد أو النساك أو حتى المصلحين بل إنه يتجاوز حد الحديث والأخلاق في أتباع وحواري السيد المسيح عليه السلام .
ومجمل يقيني أن المدعو وول ديورانت كتب المجلد الخاص بالسيد المسيح تحت مظلة عدائية مطلقة لأنه جرده من كل معالم الروحانية وألص به سمات وشهوات مادية لم أعرف عنها شيئا سواء من القرآن الكريم أو حتى في الإنجيل نفسه .
أما القرآن الكريم فلقد أبدى اهتماما بالغاً بشأن نبي الله عيسى عليه السلام ، فابتدأ سرد قصته بذكر ولادة أمه ، ونشأتها نشأة الطهر والعفاف والعبادة والتبتل ، يقول تعالى  : ( وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ) . ثم ذكر إكرام الله تعالى لها بأن رزقها غلاما بدون أب ، حيث أرسل لها جبريل – عليه السلام – ليبشرها ، ولينفخ فيها فتحمل بعيسى عليه السلام ، ثم ذكر رعاية الله لها أثناء حملها ، ورعايته لها أثناء ولادتها به ، ثم حديثها مع بني إسرائيل واستنكارهم الولد ، وكلام عيسى في المهد تبرئة لأمه مما قذفها به اليهود.
ولعلي لازلت أطرب وأعشق الوصف القرآني للسيد المسيح الذي انفرد به وحده وهو ” الوجيه ” وهذه لفظة لا يفطن كنهها سوى علماء اللغة المتخصصين ، وهذا الوصف الفريد والنادر ينبغي الوقوف أمامه طويلا وكثيرا ، فالقرآن الكريم يشير إلى ذلك : (﴿إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم وجيهًا في الدنيا والآخرة ومن المقربين ) . وعلى يقين بأن الله تعالى منحه الوجاهة في الدنيا كما منحه الوجاهة في الآخرة، وذكر هذه الصفة (الوجاهة في الدنيا) للسيد المسيح عليه السلام  تدل على أهمية هذه الصفة، من المهم أن يكون الإنسان وجيهاً في الدنيا، كما يطمح أن يكون  وجيهًا في الآخرة.
إن الحديث عن السيد المسيح حديث عن الإنسانية كلها في وجهها المشرق الرائع ، وكارثة الكوارث أن المتطرفين من فصائل الإسلام السياسي الراديكالي إما أنهم في خصومة واضحة من النصارى بوجه عام فلا يروا في شخصية المسيح عليه السلام الصورة التي تدفعهم للتسامح والمواطنة وقبول الآخر ، أو أن بعض المهووسين بالفكر الغربي يجدون متعة حقيقية في نقل الأكاذيب والترهات التي يوردها أصحاب هذه الأفكار الخبيثة إلى أصدقائهم أو جيرانهم أو حتى تلاميذهم من الأقباط فتقوم القيامة من جديد .
إن شخصية السيد المسيح من زاوية إسلامية شخصية حقيقية وواقع واجب الإيمان به والتسليم به أيضا وهو شرط من شروط الإيمان في الإسلام ، وهي أيضا شخصية مشحونة بالحماسة الدينية السليمة والطبيعية لا المتطرفة البغضاء نسأل الله العفو والعافية .

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *