الرواية (كيفيات) لا (موضوعات)

*محمد العباس

يراهن معظم الروائيين العرب على وعورة الموضوعات وحساسية القضايا التي يتناولونها في رواياتهم، وهو الأمر الذي يجعل الرواية العربية حقلاً خصباً لقراءة هواجس الذات العربية، كما يفسر هذا الانهمام بفكرنة الواقع اندفاع النقاد وراء تلك الموجة الصاخبة من الأداءت الموضوعاتية، حيث يندر وجود قراءات ذات منحى جمالي للمنجز الروائي العربي، ربما لأن الرواية العربية لم تقدم في آخر أطوارها ما يقنع من الناحــــــــية الفنية، وربما لأن قُــــراء الخطاب الروائي لا يمتلكون من القدرة المنهجية والاستعداد البحثي والتذوق الفني ما يمكّنهم من مقاربة الروايــــة من هذا المدخل، إلا أن الملاحظ في هذا الصدد هو انحياز القارئ إلى الموضوع عوضاً عن المتعة والتشويق، وهذا هو بالتحديد ما يبقي رواية ما من الروايات في محل التداول الإعلامي لفترة، أي بسبب الموضوع الذي اقترحته وليس بسبب جماليتها.
هناك سباق بين الروائيين على اقتحام الأراضي التي لم يطأها قلم، وما أكثرها في الحياة العربية، وكأن الرواية لا تكتسب قوتها إلا من خلال حساسية الموضوع المراد سرد تداعياته، ولذلك تسقط معظم الروايات في خطيئة خيانة الإبداع، لأن ارتفاع منسوب الأفكار في العمل الإبداعي يحوله إلى مجرد خطاب، بتعبير هيغل. وهذا هو واقع معظم المنجز الروائي، حيث اللهاث وراء القضايا الحساسة وإهمال الحساسية الفنية، والأسوأ أن ينقاد النقد وراء هذه الأعمال الملغومة بالموضوعات القابلة للانفجار، الخالية من اللمحات الفنية، وذلك الأداء الاستلحاقي يخالف أبجديات القراءة المنهجية الواعية المسؤولة، لأن الفن (كيفيات) وليس (موضوعات)، أي الطريقة التي يؤدى بها سرد الموضوع، وليس الموضوع ذاته.
في الإمارات – على سبيل المثال لا الحصر أو الاستثناء – هناك حالة انفجار روائي، يتدفق بالإيقاع ذاته الذي يحدث اليوم في كل أقطار العالم العربي، تصاحب هذا الانفجار مطالعات نقدية منكفئة على الجوانب الموضوعية ومنصرفة تماماً عن الأبعاد الفنية، حيث تنتعش القراءات المنذورة لفهم تداعيات الظاهرة، فيما تغيب المعالجات الفنية، وهذا يعني: إما أن المنجز الروائي الإماراتي ليس فيه ما يحرض على المقاربة الجمالية، لأن الروايات تراهن على الموضوعات لا على حرفية الأداء، أو لأن القراءات المحايثة عاجزة عن اكتشاف مواطن الإبداع، حيث يمكن القول بأن اللجوء إلى مساءلة الموضوع، سواء بالنسبة للروائي أو القارئ أو الناقد، يمثل حالة هروب من لحظة الاستحقاق الإبداعي، وهي موجة تبدو على درجة من الوضوح والاستشراء في المشهد الروائي العربي.
حتى عندما تُعلن نتائج جوائز الاستحقاق الروائي يُلاحظ التركيز على أهمية الموضوع الذي أهّل الرواية للفوز، حيث لا تشكل مجمل الروايات الحاصدة للجوائز العربيــــة، من وجهة نظر المحكمين، أي إضافة على مستوى الحرفية الكتابية، أو ربما لا يتم التطرق إلى هذا البعد المهم لأسباب مختلفة، فيما يتم تصعيد الأبعاد الموضوعية، وهو الأمر الذي يجعل الرواية العربية بمعزل عن ابتكار أساليب كتابية تراهن على فنية الكتابة، كما يفسر هذا التمحور على الموضوعات غياب الرواية العربية عن أي إسهام فني يمكن الاعـــــتداد به في سياق الكتابة الروائية العالمية، فهي رواية زاهدة في (الكيفيات) ومستنقعة في (الموضوعات)، وذلك يرفع منسوب كتابة الرواية بهذا الكم الهائل، ليس من قبل الطارئين على الفن الروائي وحسب، بل من قبل فصيل من الروائيين ذوي السمعة والمكانة الأدبية، إذ لا تتطلب الرواية من هذا المنظور سوى التقاط أحد الموضوعات المتفجرة وإعادة إنتاجه في قالب سردي منبسط.
في مقدور أي ناقد أن يتحدث عن الأبعاد الحداثية والتجريبية وما بعد الكولونيالية في رواية ما أو ظاهرة روائية ساطية، كما يمكن للباحثين والدارسين الأكاديميين الاستغراق في عرض الصور النمطية للرجل في روايات المرأة والعكس، وكذلك يحق للنقاد فحص صورة الآخر وتمثيلاته المختلفة في أي منجز روائي وهكذا، وهذه موضوعات خصبة وعلى درجة من الأهمية، هي وغيرها من الموضوعات التي يختزنها الخطاب الروائي العربي، ولكن لا ينبغي أن يكون الإسراف في مجادلة تلك البؤر الموضوعاتية على حساب الصنعة الفنية، فالرواية العربية أحوج ما تكون إلى مقاربات فنية، لئلا تلتبس بالمقالة والدراسة والخطابة، وذلك بتخفُّفها المخل من جرعات التشويق والمتعة واللمسة الفنية.
الرواية العربية اليوم وهي تتخلى عن جانب كبير من ضروراتها الفنية، تكاد تكون مجرد امتداد لخطاب منبر الجامع، حيث الوعظية الساذجة القائمة على تقسيم الوجود إلى برازخ صريحة للخير والشر، وفي بعض الأداءات تبدو وكأنها حالة امتدادية للوعظية الاجتماعية بكل ملامحها الانبساطية وخزين قيّمها اللامختبرة، كما تتمظهر في مفاصل أخرى كمماثلة سردية تسطيحية لما يحدث في المشهد السياسي، وكأنها نشرة أخبار فارغة من التحليل وبناء المشاهد والفضاءات والشخصيات، لأنها تبالغ في الرهان على الموضوع، وتتعمد طرد الذات، أجل، الذات التي تعطي للرواية نكهتها الخاصة ومزاجها الاستثنائي وتمنحها كيفيتها الأدائية المعاندة للحسّ الموضوعاتي المتسلط على عناصر السرد.
لكل مروية موضوعها الجوهري الذي تراهن عليه، مهما كانت المروية صغيرة أو كبيرة، وإذا كان الموضوع يشكل عقل المروية وضميرها، فإن الكيفية التي يُسرد بها الموضوع هي بمثابة الرداء الشفاف الذي يغلف معاني الموضوع، إذ لا بد للأفكار المراد معالجتها من سياق أدبي أشبه ما يكون بالنهر الذي يتدفق في استرسالاته وانعطافاته وتعرجاته، حيث يمكن ملاحظة هذا البعد في مروية العبودية في أمريكا مثلاً، من حيث التنويع على الموضوع ذاته، واختلاف مقارباته المتعددة على المستوى الفني، وهو الأمر الذي كفل لهذه المروية البقاء والاستمرار والتأثير في الوجدان الإنساني، وبالمقابل يمكن تأمُّل الواقعية السحرية، التي يختزن مسماها جرعة فائضة من الموضوع، إلا أن الفن، أو الكيفية التي تؤدى بها تلك الموضوعات المحمولة على الخيال الفارط هي التي أحدثت الفارق في تلك السرودات وجعلتها علامة مغايرة في المنجز الروائي العربي.
الحياة العربية مزدحمة بالموضوعات والقضايا الوعرة، ولأن الرواية تتحرك في فضائي الزمان والمكان صارت هي الخطاب الأكثر قدرة على التعبير عن هاجس الذات واللحظة، إلا أن هذا الوعاء الأدبي المتمثل في الرواية، الآخذ في التوسع والتمدّد والتعمق، يبدو بحاجة إلى لمسة فنية من الخارج، وإلى مصهر إبداعي يمكن بموجبه إذابة كل الموضوعات في قالب روائي ماتع ومشوق، وهي مهمة الروائي في المقام الأول، وبالمقابل ينبغي على القارئ والناقد والمحرر الأدبي أن يتجادل مع الروائي حول هذا المدار، لا أن يتراكم الحديث حول الموضوعات لنكون أمام جبل من القضايا التي يمكن أن تُجادل في محطات لا أدبية، لأن كثرة الطرق على الموضوعات لا يؤدي إلى بروز ظاهرة أدبية، بقدر ما يُنتج مشتبهات أدبية، والعكس صحيح، أي التركيز على كيفيات الكتابة، سواء من خلال الروائيين أو النقاد، فهذا هو الكفيل بنشأة الأساليب الكتابية المغايرة ونموها.

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *