مونيكا علي.. حكايات المُغترب

*نصر عبد الرحمن

أصبحت الروائية مونيكا علي من الأسماء الكبيرة في المشهد الأدبي البريطاني منذ صدور رواياتها الأولى «بريك لين» عام 2003، التي أثارت معركة فكرية حادة فور صدورها، ونالت عنها عدة جوائز، وتناولها كبار النقاد على الصفحات الأدبية في بريطانيا. من المعروف أن القراء يترقبون صدور رواياتها الجديدة بلهفة، وسرعان ما تتصدر قائمة الأكثر بيعاً في وقت قياسي.
يرجع السبب في هذه الشهرة وهذا الاعتراف الأدبي الكبير إلى قدرة مونيكا على إثارة قضايا على درجة كبيرة من الأهمية في رواياتها، وعلى رأسها أزمة الهوية لدى المُهاجرين المُقيمين في إنجلترا وتبعاتها الاجتماعية والإنسانية الحادة.

ولدت مونيكا في بنغلاديش عام 1967، لأب بنغالي وأم إنجليزية، ثم انتقلت مع عائلتها إلى إنجلترا وهي في الثالثة من عمرها. حصلت على تعليمها الأساسي بمدارس مدينة برمنجهام، ثم التحقت بجامعة أوكسفورد لتدرس الاقتصاد والسياسة والفلسفة. صدرت روايتها الأولى «بريك لين» عام 2003، واسم الرواية هو اسم شارع رئيسي في الحي الذي تقطنه أغلبية بنغالية في العاصمة البريطانية لندن. وبعد ثلاث سنوات، أصدرت روايتها الثانية «ألينتيجو بلو»، واسم الرواية هو اسم المنطقة الريفية التي تدور فيها الأحداث في البرتغال. وفي عام 2009، أصدرت روايتها الثالثة «في المطبخ»، وفي عام 2011، أصدرت روايتها الرابعة «قصة غير مروية».
في روايتها الأولى، ترصد مونيكا حياة «نازنين»، فتاة بنغالية في الثامنة عشرة من عمرها، تتزوج رجلاً في الأربعين من عمره يُدعى «شانو»، وتنتقل معه من بنجلاديش إلى لندن. تعيش «نازنين» في مُجتمع غريب، ولا تعرف من اللغة الإنجليزية سوى بضع عبارات فقط. تحاول الرواية رصد طبيعة حياتها مع زوجها، ومحاولات التكيف مع المُجتمع المُحيط، وتغوص في حياة المُهاجرين البنغاليين في لندن. يتطرق السرد كذلك إلى حياة شقيقتها «حسينة» التي تعيش في بنجلاديش، من خلال الخطابات المُتبادلة بينهما. تمثل الأخت الصورة الإيجابية للفتاة التي تختار وتدافع عن خياراتها، وتتزوج من تُحب. لكن هذا النمط للفتاة مرفوض اجتماعياً، ترفضه الأم وتحذر ابنتها «نازنين» منه، وتنصحها بأن تستسلم للقدر ولا تحاول مُواجهته أو تحديه. ورغم أن «نازنين» هي البطلة، إلا أن شخصية الزوج هي الأكثر حيوية وثراءً؛ فهو شخصية مُتناقضة إلى حد كبير؛ إذ يتسم بالطيبة وبالتفاخر، ومحاولة ادعاء الثقافة أمام زوجته، إلا أنه لا يفهم المقتطفات التي يستشهد بها من شكسبير (لا يفهم ثقافة البلد الذي يعيش فيه)، ولا يفهم نمط الثقافة التي يعيشها أبناء بنغلاديش في لندن. أضف إلى كل هذا أنه كان كثير الخطط ولكن بلا جدوى، وكان على «نازنين» أن تسانده حتى تتمكن من مغالبة حياتها معه. تناولت الرواية كذلك الكثير من العادات والتقاليد البنغالية البالية.

ورغم أن «بريك لين» كانت المحاولة الأولى للمؤلفة، إلا أن النقاد أشادوا بالثقة والقدرات الفنية العالية التي تتمتع بها الكاتبة، كما أشادوا بالرواية لما تتسم به من تماسك في البناء وقدرة على عرض الشخصيات عبر مواقف مُتراكبة وعلى نحو تصاعدي، مما جعلها نابضة بالحياة. هذا إلى جانب الإشادة باللغة الدقيقة المُعبرة، وقدرة المؤلفة على الإمساك ببعض اللحظات الإنسانية والتعبير عما تمر به الشخصيات من مِحن بدقة شديدة. كما استطاعت الرواية أن تُعبر عن وضع الجاليات الشرقية في الغرب، وما يعانون من غُربة واغتراب؛ خاصة المرأة التي لا يطرأ على حياتها تحسن رغم انتقالها إلى الغرب، لأن المُهاجرات يعشن داخل نفس الشرنقة، رغم تغير المكان.
أثارت الرواية ضجة كبيرة فور صدورها، فقد اهتم بها الجمهور والأدباء والنقاد. كما اختارت مجلة «جرانتا»، المجلة الأدبية المرموقة مونيكا كأفضل روائية شابة في بريطانيا بسبب هذه الرواية. وفي نفس العام، فازت الرواية بثلاث جوائز، كما وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة بوكر. وفي عام 2007، تحولت الرواية إلى فيلم سينمائي بنفس الاسم، تم عرضه في المملكة المُتحدة وخارجها.
من ناحية أخرى، أثارت الرواية غضب أغلب المُهاجرين البنغال المُقيمين في لندن على وجه التحديد، واتهموا مونيكا بأنها قدمتهم بصورة سلبية، وأنها ليست على دراية كافية بنمط حياتهم لتكتب عنها، وأنهم يناولون من التحيز والتمييز ضدهم ما يكفي. من الغريب أن توجه مثل هذه الاتهامات إلى مونيكا على أنها إحدى الناشطات ضد التمييز في إنجلترا، وكتبت عدة مقالات واشتركت في حملات دعائية ضد التمييز وكراهية الآخر.
تفاقمت الحملة، وحاولت النيل من الرواية بعد الهجوم على مُؤلفتها، إذ شن نشطاء من البنغال حملة نقدية على الرواية، وسرعان ما أصبحت الرواية محوراً لمعركة أدبية ونقدية، إذ هاجمها الصحفيون والنقاد من أصول بنغالية واتهموها بالافتقار إلى الدقة والجماليات الروائية، في حين تصدى لهم كتّاب ونقاد آخرون.

رغم استقرار أوضاع المهاجرين من جنوب شرق آسيا في بريطانيا مقارنة بغيرهم من الجنسيات والجماعات العرقية، إلا أن الرواية أثارت أزمة هوية حادة لديهم لدرجة وصلت إلى اتهام الكاتبة بالخيانة، واعتبارهم الرواية طعنة في ظهورهم على يد واحدة من بني جلدتهم. في الواقع، لا تحمل الرواية إدانة واضحة إلى أحد، ولكنها اقتربت من الواقع بشفافية، وكشفت ضمنيًا عن مُعادلة مُركبة، حدها الأول هو عدم تقبل المُجتمعات الغربية للمُهاجرين ما يؤدي إلى تهميشهم وصعوبة اندماجهم. أما حد المُعادلة الثاني فهو رد فعل المُهاجرين بالانزواء والتحصن داخل أنماطهم المعرفية والثقافية القديمة. يؤدي هذا الموقف إلى خلق جيتو ثقافي وعرقي في الغرب، وإلى حالة من الاغتراب يصل إلى حد الإحساس بالعدمية، وهو ما قد يؤدي بدوره إلى تفاقم أزمات اجتماعية وإنسانية عنيفة في المستقبل المنظور.
______
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *