لطالما عنيت آداب أمريكا اللاتينية باهتمام المترجمين العرب لاسيما بعد أن حصد كتابهم جوائز عالمية كجائزة نوبل وجائزة ثربانتيس التي مثلت أسماء مهمة ، ولعل من أشهرهم غارسيا ماركيز وماريو فارغاس يوسا واكتافيو باث وكارلوس فوينتس وإيزابيل الليندي وجورج أمادو وغيرهم ، حركة الترجمة التي نشطت تباعا في منتصف الثمانيات من القرن الماضي ، شرعت بذلك بابا شاسعا على أدب أمريكا الجنوبية ، حتى أن الناقد « رودريجت مونيجال » قام بتقسيم هذه الواقعية التي ركز عليها كتاب أمريكا اللاتينية إلى أربعة أقسام ، تجسدت أولها في الواقعية الاجتماعية ، وهنا القصص والروايات اتّسمت بقوة اللغة وثوريتها ، عمق الفكر مع العناية بالأسلوب ، أبرز الذين مثلوا هذه الواقعية ماريو بارغاس يوسا وكارلوس فونتيس وخوسيه ماريا أراجيرس .
والواقعية الثانية تمثلت في الواقعية النفسية التي اتكأت على تيار الوعي لسرد الملاحم والأساطير التي يزخر بها تاريخ آداب أمريكا اللاتينية ، والواقعية الثالثة هي الواقعية السحرية التي اشتهرت بعد فوز رواية « مائة عام من العزلة » لماركيز و سار على أسلوبه كثيرون من بعده .
أما الواقعية الرابعة هي الواقعية البنائية التي تسعى إلى رصد الداخل والخارج بلغة جديدة وتتداخل فيها أيضا خصائص القص والزمان والمكان ، ومن أهم ما يميزها أن النص يخاطب القارئ والكاتب في آن ، حتى يصبح القارئ كأنه المؤلف أو البطل ، تتميز بالتصوير البصري المكثف باستخدام تقنية السيناريو أو متكئة على حوار بصري مكثف.
لكن حركة الترجمة لم تكتف بنقل الروايات المطّعمة بدهشة الواقعية السحرية وهي من أهم سمات وخصائص أدب أمريكا اللاتينية ، بل نقل المترجمون أيضا قصصا قصيرة تميزت بنقد واقعها بالسخرية المريرة بالدكتاتوريين حينا وفضح سياساتهم المخلّة بلغة ثورية وجريئة حينا آخر.
لقد ترجم عدد غير قليل من مجموعات قصصية لاتينية وبأسماء مترجمين مختلفين من ضمنها مجموعة « يوم آخر من أيامنا » قصص من أمريكا اللاتينية ، قام بترجمتها أبوبكر العيادي ، الصادر حديثا عن مسعى للنشر عام 2016م ، يحوي الكتاب على أربع عشرة قصة قصيرة ، شديدة التنوع في موضوعاتها وأفكارها مع كتابة تعريف لكل كاتب على حدا وأبرز أعماله .
قصص هذه المجموعة كما يشير المترجم في مقدمة الكتاب الى أنه قام بترجمتها في ثمانينات القرن الماضي غير أنه لم يجد فرصة لنشرها في كتاب في ذلك الحين ، فالناشرون في تونس اكتنفوا عن نشرها بحجة أن قصص المترجمة غير مرغوب بقراءتها !
على الرغم من أن القصص ليست حديثة غير أن القارئ يكاد لا يشعر بذلك أثناء قراءتها ، تكاد تكون حديثة بالقضايا الجريئة التي طرحتها بل كأنها تحمل نبوءة لعصر قادم ، ولعل ما يميز هذه المجموعة في كونها تطرح أسماء جديدة لا يحيط بها القارئ العربي عدا « بورخيس » التي ضمت المجموعة قصته « المرآة والقناع « و ماريو بينيديتي صاحب قصة » الاستماع إلى موزارت « الذي سبق و عرف بروايته « الهدنة » التي قام بترجمتها المترجم الذي نقل إلى القارئ العربي أبرز ما تم نشره في أمريكا اللاتينية « صالح علماني » ، أما بقية الأسماء فهي جديدة ربما لم يسبق أن سمع بها أو قرأها الكاتب العربي ، كغابريال كاساتشا ، ميغال روخاص ميكس ، خوليو رامون بيرو ، جوان غيمارايش روسا ، فرنشيسكو بيغاس سميناريو ، بولي ديلانو ، برخليو بينييرا و غيرها من الأسماء المجهولة ، تلك الأسماء التي تكشف أن خريطة الإبداع آداب أمريكا اللاتينية غنيّة ليس في مجال الروايات فحسب بل القصة القصيرة تشهد أيضا تطورا مذهلا وعناية غاية في الكثافة ، لذا كثير من كتاب الرواية ظلوا ينجبون قصصا تناقش جنبا إلى جنب قضايا سياسية واجتماعية مختلفة .
لعل طبيعة الحياة في أمريكا اللاتينية بثراء لغتها ومساحتها ، شعور شعبها بالفاقة والظلم ، تفشي الفساد السياسي وراء غنى الأفكار وازدحامها بل جاء الأدب كوسيلة لدحر الطغاة ونقدهم ، على سبيل المثال في قصة « اللحم » للقاص « برخليو بينييرا » ، ففي القصة يعاني الشعب من نقص فادح في اللحوم ، مما جعلهم يأخذون هذا الواقع المرير بالسخرية ، فكثير من الناس اكتفوا من باب السخرية بالحشائش إلا أن احدى شخصيات القصة شذّ عن القاعدة ، ففي أحد الأيام استعان بسكين حاد وقطع جزءا من ردفه الأيسر شريحة لحم ، نظفها ، تبّلها بالملح والخل ثم شواها على مقلاة كبيرة و ما كاد يتذوقها حتى قرع أحدهم باب البيت ، كان الطارق جاره ، جاء ليشكو حاله عن أزمة اللحوم ، فأراه صاحب البيت شريحته من اللحم ما أدهش الجار وجعله يطرح عليه أسئلة عديدة ، فاكتفى الآخر بإظهار ردفه الأيسر ، خرج الجار منبهرا سرعان ما أخبر شيخ المدينة كيف أن جاره الذي قطع ردفه الأيسر يعتمد على مدخراته الخاصة ، بمعنى أنه يتغذى على لحمه الخاص ، مما جعله يتوجه إلى الساحة العامة ويقدم عرضا تطبيقيا أمام الجماهير ، طالبا من الحاضرين المحتشدين أن يقطع كل واحد منهم جزءا من عجيزته اليسرى شريحتين من باب المشاركة في احتفالية اللحم هذا .
ومنها تفشت ظاهرة التهام لحوم الأجساد ، والتهمت النساء نهودهن ولم يعدن مضطرات لستر صدورهن وبعضهن ما عدن ينطقن بكلمة ، لأنهن التهمن ألسنتهن ، بل ثمة امرأتان التقيتا في الشارع ولم تتمكنا من تقبيل بعضهما ، لأنهما استعملتا شفاهما في إعداد فطائر لذيذة ، بينما مدير السجن لم يتمكّن من توقيع حكم إعدام على أحد المساجين ، لأنه أكل أنامله قرضا مما ولد عبارة شائعة « يأكل معها أصابعه » .
ومن أطرف ما حصل حين اضطر أول راقص في البلاد خلال تلك الفترة إلى استئصال آخر قطعة من أصابع رجليه الرائعة ، احتراما لفنّه ، أجلّ مسألة قطع هذه الأرجل ، لكنه في النهاية و في غاية الغم جعل أهله وجيرانه ومحبيه يشهدون عملية التي ستقضي عليه كليّا ، و في صمت دموي تمت العملية ودفع بالجزء المقطوع في شيء كان فمه في السابق ، لكن من باب التكريم والخلود وضع خفا الراقص في إحدى قاعات متحف شهير .
السخرية المريرة هي أن أكثر الأشخاص سمنة في البلاد ، حيث كان يزن مائتي كيلو غرام ، استهلك زاده من اللحم في ظرف لا يتجاوز خمسة عشر يوما وحين قضى على مخزونه من اللحم ، اختفى تماما .
مجموعة « يوم آخر من زماننا » كتاب قصصي يحملك إلى عالم تختلط فيه الواقعية بروح الفانتازيا ، شديدة التنوع وتطرح أفكارا تلامس الروح الإنسانية حتى العمق .
_________