*محمد إسماعيل زاهر
منذ متى لم نمارس التفكير؟، ونعني بذلك التفكير من منطلق الحس “القومي”، فالمؤكد أن أهم ما يربط بين منطقتنا من الخليج إلى المحيط يتمثل في الثقافة بتجلياتها المتعددة، وبصفة خاصة تجلياتها الفكرية خاصة بعدما نُحي الشعر بفعل تمدد الرواية أو دخول أشكال جديدة تتميز بالإغراق في التجريب والنزعة الذاتية ، فعندما نطالع رواية أو قصة أو نشاهد لوحة أو فيلماً . . الخ نشعر بأن هذا المنتج أو ذاك ، وبرغم اختلاف مكان الإنتاج، ينتمي إلينا بدرجة ما، يتماس مع تلك الزوايا والأركان القابعة بداخلنا ليعبر عن شيء ما ننفعل به ونتجاوب معه، ولكن تظل هناك بصمة خاصة بالبيئة المحلية ودرجة ارتباط المبدع بالمتغيرات العالمية ورؤيته الخاصة، هو في النهاية منتج يتجاوب مع فضاء ثقافتنا “العربية”، ولكنه لا يستغرقنا مثل عمل يضع مسألة فكرية تراثية أو معاصرة تخص “نا” تحت مشرط التحليل .
إذا نظرنا إلى الرواية على سبيل المثال سنلاحظ أن ثيماتها ومساراتها والحكي الذي تستند إليه يفتقد إلى ذلك الحس الذي أدرك أبعاده جيل سابق، بحيث شعر القارئ العراقي مثلاً أن شخصيات نجيب محفوظ لا تبتعد عنه كثيرا، بعكس مئات الروايات المصرية التي صدرت في السنوات الماضية ويشعر أي قارئ عربي بأنها تنتمي إلى بيئة ذات مذاق مختلف، والحال نفسه سنجده في حقول الثقافة الأخرى، الأمر الذي يحيل إلى مسألة “الحس القومي” مرة أخرى، بمعنى أن غياب التفكير من منطلق “قومي” أثر بالسلب في تعاطينا مع الثقافة “العربية” كمظلة جامعة .
لم تشهد الثقافة “العربية” هذا الغياب المفزع للحس “القومي” في أي مرحلة، على الأقل في تاريخها الحديث، مثلما حدث منذ مطلع الألفية الجديدة، ونعني هنا بالحس “القومي” ذلك الأفق الثقافي الجامع لتيارات واتجاهات لم يُعرف أصحابها أنفسهم بوصفهم ” قوميين”، بالمعنى الإيديولوجي للمصطلح، بل إن معظم من قدم إسهامات فكرية تؤكد جذور “نا” المشتركة لم ينتموا يوما إلى التيار القومي، في كل قطر عربي، وطوال القرنين الماضيين كنت ستعثر على اجتهادات شتى تبحث في مسائل عربية ملحة تعود في معظمها إلى ليبراليين وماركسيين . . .الخ، وتحت عناوين “عربية” عريضة، كانوا يختلفون حول المناهج والأدوات وشرعية توظيفها في بيئة مغايرة وربما يتصارعون عندما يتطرقون إلى تفصيلات دقيقة تنتمي إلى مذاهبهم، المستمدة من الآخر، ولكن الجميع اتفق على ضرورة التفكير في كيفية نهوض العرب كلهم، والذي لن يقف على قدمين من دون حل المشكل الثقافي: كيف ننخرط في العصر ولا نفرط في هويتنا وما يجمع بيننا؟، فلم يكن حسين مروة في لبنان أو أحمد صادق سعد وفوزي منصور في مصر يبحثون في أنماط الإنتاج العربية لإضافة ما يقدمونها للماركسية وإنما للخروج من مآزق اقتصادية تمر بها أوطاننا، ولم يكن الجابري في المغرب وحسن حنفي في مصر يتحاوران من أجل العقل في المطلق وإنما ل “تنوير عقولنا . . .إلخ”، وحتى أكثر الكتابات التي يبدو للوهلة الأولى أنها تدور في أفق فانتازي مبتور الصلة بما يحدث على الأرض حلمت بتغيير “قومي” في الثقافة العربية .
ما يمكن رصده أيضاً في سردية الحس “القومي”، يتمثل في أن منتجها الفكري عاش أوج ازدهاره في مراحل سياسية لم ترفع الشعارات القومية، فمعظم من كتبوا في طرائق النهوض وداروا حول معضلة التراث والعصر والاصالة والمعاصرة لم يصدروا نتاجاتهم خلال الفترة الناصرية، ومعظم من فتشوا في الماضي للبحث عن دواء للشفاء من التراجع المزمن خاضوا معاركهم في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، فهل كان الصمت النسبي خلال الخمسينات والستينات فيما يتعلق بهذه المسألة نابعاً من إدراك أن إنجاز التقدم أصبح منوطاً بالدولة؟، أم فرضت تحديات التخلف والتشتت والتفرق في المراحل السابقة واللاحقة للناصرية ضرورة العصف الذهني للخروج من المأزق؟، وهي نفسها التحديات التي نعيشها الآن من دون أي استجابة .
إن الثقافة ذات الحس “القومي” ليست منغلقة على ذاتها أو شوفينية أو ضد التنوع في إطار الوحدة، والشواهد هنا أيضا كثيرة، والأهم من ذلك أنها تمنحنا رؤية متسعة ومتماسكة لكيفية مواجهة المخاطر التي تحدق بنا، عندما تقرأ أي كتاب يحلل التطرف والتشدد الديني الذي انتشر في مصر خلال ثمانينات وتسعينات القرن الماضي ستشعر أنه يضع يده على الجرح ذاته الكامن والمخفي في بلدان عربية عدة آنذاك، حيث لم يكن فرج فودة أو سعيد العشماوي أو نصر أبوزيد أو جابر عصفور يدافعون عن مدنية الدولة في مصر فقط، الآن وصل التشدد إلى مرحلة التغول والتهديد بتفتيت أقطارنا، وتشاهد أحد المحللين في فضائية مصرية يعتذر لجمهوره لأنه سيتناول بالتحليل الحالة المصرية من دون غيرها، وهو الشعور الذي يلاحقك وأنت تقرأ عن “داعش” وأخواتها، فهناك تشدد خاص بمصر وآخر بالعراق وثالث بسوريا وهكذا، ومهما ادعى الكاتب شمولية تحليله وثقفن ما يكتبه ونظّر له، فلن تعثر على تلك الرؤية التي تؤسس ذلك البناء الذي يحمينا “جميعاً” .
إن إضافة كلمة عربية لتكون لاحقة للثقافة لا يعني ما تقوله كتب التربية القومية في المدارس، من استدراكات شارحة تتحدث عن التاريخ المشترك والمستقبل الواحد . . .إلى آخر هذا الكلام الإنشائي الذي يليق بالمقررات الدراسية، وهو على أهميته إذا خرج من حيز الإنشاء والشعارات إلى الواقع يهدر ما يغيب أو يُغيب ويتمثل في أن ما يمنح ثقافة ما هوية حقيقية أو حتى متغنى بها، يتمثل في مؤشر التفكير المشترك في إشكاليات هذه الثقافة، وبخاصة التفكير المرتبط بالعقل و مرادفاته، التفكير في بنية هذه الثقافة ولُحمتها حتى ولو من منطلقات لا قومية، حيث يبدو طه حسين المتمترس خلف نزعة مصرية شبه قطرية اليوم أكثر قومية من كل المطروح على الساحة منذ سنوات طويلة، ويبدو أن هناك حاجة ماسة إلى من يستعيد الحديث عن تراث عربي وعقل عربي وفلسفة عربية وعلم اجتماع عربي . . .الخ، برغم ما ما وجهه تيار “نقد النقد” إلى أصحاب مثل هذه الأحاديث والدعوات، إذ يظل ألقهم وما أثاروه من نقاش وعراك واختلاف، أفضل بما لا يقارن من حالة اليباب الفكري والخرس الإبداعي التي تهيمن على ثقافت “نا” الآن .
_______
*الخليج الثقافي