*شكري المبخوت
ثمّة ترابطاتٌ تتداعى في الذهن وفق منطق الشعر والمجاز على سبيل الإيحاء ولا تفسير عقليّاً لها. من ذلك أنّني شخصيّاً أستحضر، كلّما حلّ موعد الاحتفال باليوم العالمي للغة العربيّة الذي أقرّ منذ سنوات قليلة، صورة المستشرقة الرومانيّة نادية أنجلسكو وعنوان كتاب صدر في بداية هذا القرن بعنوان “جناية سيبويه: الرفض التامّ لما في النحو من أوهام”.
وأصدق القارئ الكريم أنّني لا أعرف لهذا الربط سبباً مقنعاً واضحاً. فلئن كان عنوان الكتاب صادماً متحدّياً مثيراً على عادة كتّاب كثيرين فإنّ أنجلسكو مستشرقة معروفة بكتاباتها العميقة الطريفة عن ظواهر لسانيّة في العربيّة. إنّها تمثّل أحد الباحثين الكثيرين الذين أحبّوا العربيّة ونشروها في بلدانهم وترجموا شيئاً من عيون نصوصها وانكبّوا على دراستها بإخلاص متوسّلين بنظريات علميّة حديثة دون إسقاط أو تكلّف.
وعلينا أن نعترف للمستشرقين بفضائل كثيرة في دراسة العربيّة التي يحتفي بها العالم اليوم اعترافاً بثقافة عربيّة عريقة هي بلا شكّ أحد مظاهر التراث الكوني غير المادّي وعنوانٌ من عناوين التعدّديّة الثقافيّة.
بيد أنّني، بعد أن ساءلت الذاكرة واستعدت جزءاً من أرشيفها الغائم، اكتشفت بعض ما دعاني إلى هذا الربط. فقد التقيت نادية أنجلسكو في بداية القرن الحالي في مدينة ليون الفرنسيّة بمناسبة المشاركة في مؤتمر علميّ. كانت معرفتي بها رقيقة بيد أنّ من فضائل اللقاءات العلميّة أنّها تتيح للمشاركين أن يتعارفوا. وهو خير وأبقى أحياناً من الورقات التي تقدّم خلالها وتناقش.
كنت أسأل جليستي عن الدوافع التي جعلتها تختار اللّغة العربيّة اختصاصاً في دراستها ثمّ في أطروحتها وبعد ذلك في بحوثها. لا أذكر، على وجه الدقّة، السبب المباشر الذي جعلها تتطلّع إلى معرفة لغة العرب وثقافتهم. ما أذكره، وأنا أقرّب في هذا تقريباً، حرص الجامعة الرومانيّة على الاهتمام بلغات الشرق الأوسط وبالخصوص اللّغة العربيّة.
أذكر أنّها صمتت كمن يخفي سرّاً أو يستعدّ لقول أمر خطير. وسرعان ما كشفت لي ما اعتقدت أنّه انطباع لا يليق بعالم محقّق أن يعبّر عنه لأنّها لا تملك الدليل عليه. بيد أنّ الثقة في الصداقة والرغبة في المحاورة تجيز للأصدقاء ما لا تجيزه صرامة العلم.
لقد كانت اللّغة العربيّة في ظنّها، بعد معاشرتها لعقود متتالية قضتها في تعلّمها ودراستها الدرس المعمّق، شيئاً مذهلاً. فهي تراها بناءً متماسكاً متناسقاً قوامه التوازي على نحو هندسيّ لا يمكن مقارنته بما تعرفه من لغتها الأمّ الرومانيّة ومن الفرنسيّة والإنكليزيّة اللّتين تتقنهما. فلا يمكن، في ظنها، للغة بمثل هذا التماسك المبهر أن تكون وليدة لهجة أو لهجات ممّا يستعمله الناس. ولم يكن بوسعي أنا أن أتصوّر باحثة عقلانيّة تعرف أصول العلم اللّغويّ الذي لا يفاضل بين اللغات ومناهجه في التحليل والمقارنة بين اللّغات، وهو من المجالات التي برعت فيها تأليفاً وتدريساً، أن تذهب إلى أنّ العربيّة لغة توقيفيّة منزّلة فتطرح مرّة واحدة بظهر اليد خلفيّتها العلميّة لتؤمن بإعجاز العربيّة.
ولم يخب ظنّي. فقد كانت في الواقع تعتقد بأنّ العربيّة من صنع النُّحاة إذ يعسر أن توجد لغة بتلك الدقّة الهندسيّة لذلك رأتها مصنوعة بمنطق رياضيّ صارم وطفقت تستدلّ على ما زعمت بأمثلة من صرف العرب واشتقاقهم ومعجمهم وإعرابهم وأساليبهم في التعبير!
والحقّ أنّني لم أكن بحكم ألفتي باللّغة العربيّة وانعدام المسافة الكافية بيني وبين هذه اللّغة التي نشأت عليها بقادر على فهم ما قصدت إليه الفهم الكامل. كان عليّ أن أسلّم لها بما رأته في لغتي وأن أعجب لعلاقة الانبهار هذه بلغتنا. ولكنّ النقاش فتح لنا سبلاً لمراجعة بعض ما في تاريخ العربيّة.
فهل كانت ترى العربيّة، وقد تعلمتها عن بعد، من خلال نظامها الصناعيّ أم كانت، وهي الباحثة المتعمّقة، منبهرة بقدرة النحاة على وصف النظام الكامن فيها بما يشفّ عن عبقريّة لغتهم؟ لقد كان هذا البناء الهندسيّ الصارم، في رأيي، فعلاً من صنع النحاة العرب لأنّه وسيلتهم لفهم اللّغة وتقعيدها وهو دليل جهدهم الاستثنائيّ، بعد قرار عبد الملك بن مروان تعريب الدواوين، في إصلاح الخط العربيّ وتيسير قراءته وجمع المادّة المعجميّة والمسح الشامل للهجات العربيّة والمقارنة بينها وصولاً إلى بناء النظام الاشتقاقيّ وإحصاء احتمالاته وتحديد القواعد الإعرابيّة وصياغتها.
إنّ هذه العبقريّة التي “صنعت” نَحْوَ العرب هي التي أبهرت نادية أنجلسكو، وهذه العبقريّة تحديداً هي ما تحتاجه العربيّة اليوم كي تتفاعل مع العصر الرقميّ وتحوّلاته وتحدّياته بدل الحديث الإيديولوجيّ عن “جناية سيبويه” كما توهّم بعض الكتّاب من غير المختصّين باسم تيسير النحو العربيّ.