*محمد صبحي
من خلال استخدام اللغة والاتصال بوصفهما مجالين للاستعارات الخصبة والمفتوحة على العديد من التأويلات؛ يحاول المخرج الكيبيكي دوني فيلانوف في فيلمه الجديد “الوافد The Arrival”(*) موضعة أفكار معقدة في تكوينات سردية مُبسَّطة، من خلال دراسة شاعرية لفكرة لطالما أرّقت مخيلة السينمائيين، الأميركيين خصوصًا، وهي إمكانية حدوث اتصال مع مخلوقات من خارج كوكب الأرض وما يستتبع تلك الفكرة من تساؤلات إشكالية حول حدود القدرات الإدراكية للجنس البشري.
في “الوافد”، تتردد بقوة أصداء الرصيد التراثي لسينما الخيال العلمي، بالترافق مع استمرار فيلانوف دفق الروحيو الجديدة في العناصر الأساسية لمعادلة التشويق الهوليوودي. في السنوات الأخيرة، عمّد فيلانوف اسمه في قائمة تمتد تاريخياً بأسماء مخرجين حاولوا طيلة مسيرتهم التوفيق بين تقديم تجربة سينمائية محترمة والوفاء لشروط صناعة السينما ومتطلبات المنتجين. فعل ذلك منذ تحوّله إلى السوق الأميركي وإنجاز أفلام ناطقة باللغة الإنكليزية بحيوية ورؤية مغايرة للتقاليد الهوليوودية، بدءاً من فيلم تشويقي مثل “سجناء” شهد تقديم بازل مأسوي غامض يقارب مشكلات الهوية والتطرف والفناء الإنساني، ثم أتبعه بأوديسا قاتمة لكارتلات المخدرات في “سيكاريو”، مروراً بمحاولة اقتباس بليغة لرواية صعبة للبرتغالي جوزيه ساراماغو في “عدو”، وصولاً إلى إنجاز قصيدة بصرية في مجال سينما الخيال العلمي تستبق التوقعات الكبيرة المعقودة على مشروع المخرج المرتقب في إنجاز جزء ثانٍ للفيلم الشهير “بليد رانر”.
يشهد الفيلم الجديد تعاون المخرج مرة أخرى مع المؤلف الموسيقي الآيسلندي يوهان يوهانسون، الذي يدبّج هذه المرة ملخصاً موسيقياً وافياً للفزع الإنساني الجليل مختلطاً بمزيج سيمفوني تنزّ منه الكآبة. كذلك يشهد الفيلم تعاون فيلانوف مع مدير التصوير المخضرم برادفورد يونج، الذي وضع بصمته على سلسلة من المتتاليات البصرية المدهشة ضمن الإطار السردي للفيلم الذي يسير بشكل حلقي.
في مركز حكاية الفيلم، تبرز الدكتورة لويز بانكس (إيمي آدامز في دور أوسكاري بامتياز) التي فقدت لتوها ابنتها الوحيدة إثر حادث غامض. بانكس أستاذة وخبيرة في علم اللغويات، يتم تجنيدها من طرف الجيش الأميركي للمساعدة في إنشاء خط واضح للتواصل مع مركبة فضائية غامضة هبطت في ريف ولاية مونتانا غرب الولايات المتحدة. أحد عشر مركبة أخرى شبيهة حطّت في أماكن مختلفة من العالم، مما اضطر قادة وعلماء العالم إلى البدء في عملية محمومة من البحث والدراسة لتحديد ماهية الكائنات الفضائية بداخل هذه المركبات الوافدة، وإذا ما كانت تشكّل خطراً على البشر أم أنها جاءت في سلام. تنضم الدكتورة بانكس إلى مجموعة من العلماء والباحثين- أبرزهم عالم الرياضيات إيان دونلي (جيرمي رينير)- في معسكر شامل قرب الموقع الذي نزلت فيه المركبة الفضائية في ريف مونتانا، ويجبرون على كتابة تقارير لعقيد جيش بارد الدم (فورست ويتيكر) وممثل وكالة الاستخبارات الأميركية هالبيرن (مايكل ستولبرغ).
وبينما يقوم العالمان، بانكس ودونلي، بالعمل معاً بشكل يومي ومثابر من أجل التواصل مع هذه الكائنات الفضائية أو على الأقل وضع أرضية مشتركة للتواصل؛ يبدأ سكان الدول المذعورة في اللجوء إلى الأعمال الوحشية تحسباً للأسوأ. وهنا نصبح أمام كليشيه مستعاد من كلاسيكيات هوليوود العتيقة، متمثلاً في رسم صورة مفارقة نرى فيها انشغال العلماء “الأميركيين” بأبحاثهم ومحاولاتهم المضنية من أجل “إنقاذ العالم”، في مقابل انهماك بقية سكان الكوكب، وخاصة الجنوبيين منهم، في أكل بعضهم البعض. الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، بل يبتعد السيناريو إلى تقديم حبكة فرعية ومتقدمة لحكايته يكون منوطاً فيها بالعالمة الأميركية إنقاذ البشرية التي تكون على شفا حرب عالمية، لكنها تكتشف أنها كي تصل للإجابات المطلوبة فقد تخسر حياتها.
ربما يمكن العثور على المرجع السينمائي الأقرب والأوضح لفيلم فيلانوف في فيلم ستيفن سبيلبرغ “لقاءات قريبة من النوع الثالث” (1977)، ولكن الهدف الذي يحاول المخرج الكندي الوصول إليه يبدو رثائياً بشكل يفوق الفيلم السبعيني. منذ اللحظة الأولى التي نلمح فيها سفن الفضاء الغامضة، تلك الكتل الهائلة التي تشبه لطخات دم سوداء بريشة رسّام سوريالي؛ يصير من الواضح أن طريقة التعامل مع سكان هذه السفن سيختلف عما سبق واعتدناه في محاولات هوليوود السابقة. فهذه السفن الفضائية لا تشبه أي شيء يمكن أن تكون شاهدته من قبل على الشاشة، ما من مقعد قيادة ولا محركات ولا أجنحة، فقط كتلة ضخمة وهائلة تحتل مجال النظر لتفرض نفسها على المُشاهد كعلامة استفهام كبيرة، لا يكون مُهماً الإجابة عما تحتويه بداخلها بقدر ما تستأثر رمزيتها بكل الأسئلة: ما الذي تمثّله هذه الأجسام؟ ما الذي تستطيع فعله؟ وما الذي أتى بها إلى كوكبنا؟ هنا تكتسي مقاربة فكرة التواصل مع كائنات فضائية بملمح سوريالي ممتزج بالكآبة وجلال الدهشة الأولى. ربما يمكن فهم طبيعة ما قام به فيلانوف في “الوافد” بتخيّل فيلم مثل “اليوم الذي توقفت فيه الأرض” وقد قدم مخرج مثل هال آشبي إعادة له في 2016.