الموتى يعودون

خاص- ثقافات

* رامي طويل

“الموتى يعودون للظهور…”، ثلاث كلمات تلفّظ بها محدّثي عبر الهاتف، بعد تقديمه لي بأنّ ما يودّ إبلاغي به يعدّ ظاهرة مذهلة وغير مسبوقة، كانت كافية لتحملني، مدفوعاً بفضولي الصحافي، لأن أقطع ما يفوق الستمئة كيلومتراً، قاصداً تلك البلدة النائية شمالي البلاد، والتي كانت زيارتي الأخيرة لها قبل ست سنوات، حين كانت الحرب على أشدّها، حيث رأيت الجحيم مجسّداً، وعلمت المعنى الحقيقي لعبارة “الأرض تحترق”، قبل أن أتمكن من مغادرتها مع خمسة أشخاص، لقي ثلاثة منهم حتفهم في الطريق، ونجوت، مع امرأة وشاب يافع، بأعجوبة.

حين ترجّلت من الحافلة أدركت أنني أمام مشهد مختلف عمّا عرفته في تلك الأيّام. الصّمت يلفّ البلدة الصغيرة، التي رأيتها صدىً باهتاً لما كانت عليه قبل الحرب. البيوت الصغيرة المتباعدة أعيد بناؤها وسط حطام يبدو راسخاً في المكان. الريح الجافّة تصفر بشكل متواصل بما يشبه عواء ذئب مذبوح. لم أتوقّف كثيراً أمام تفاصيل المشهد، مؤجلاً ذلك إلى ما بعد الوقوف على تلك الظاهرة الفريدة، ومدى إمكانية وقوعها حقيقة.

خلافاً لما فكّرت به طيلة الطريق، الذي استغرق قرابة الست عشرة ساعة، من أنني سأجد أناساً تواقين للحديث عن الظاهرة الغريبة، راغبين أن يشاركهم أحد هواجسهم حيالها، فوجئت بالصمت الذي يلوذ به كلّ من أسأله عمّا يحدث. صمت يزيد وطأته بياضٌ يحتلّ العيون الفاغرة التي بدت لي قاسماً مشتركاً بين كلّ أهل البلدة، باختلاف جنسهم وأعمارهم. ومع انتصاف النهار كنت أوشك على اليأس من العثور على من يودّ الكلام، قبل أن تفاجئني عجوز سبعينية بالقول: “أجل إنهم يعودون. لكن أحداً لم يعد يتجرأ على المضيّ خلف الجرف الصخري الكبير للقائهم منذ أكثر من عام”. وحين سألتها إن كانت ممّن قابلوا أحد الموتى، نفثت دخان لفافة التبغ العربي التي تقبض عليها بإصبعين نحيلتين معروقتين، وغابت حدقتا عينيها خلف البياض المصفرّ الشفيف، ولاذت بالصمت كمن يستعيد شريط حياته، قبل أن تبدأ سعالاً حاداً، وكأنها توشك على الاختناق، رافضة كأس الماء الذي دفعت به إليها. ومن ثمّ، وفيما هي تشعل لفافة جديدة من عقب لفافتها المنتهية، قالت بصوت بعيد، جاهدت لأسمعه جيداً: “الجميع التقوا موتاهم. كانوا يمضون خلف الجرف عند الفجر، ومع شروق الشمس يبدأ الموتى بالتوافد. جثث متفسخة تسير على قدمين، هياكل عظمية تتعرّف إلى أهلها. مسوخ يدّعون أنهم أبناؤنا الذين قتلتهم الحرب”. صمتت بعد ذلك، واكتفت بنظراتها الفارغة جواباً على كلّ الأسئلة التي رحت أمطرها بها. أدركت عندئذ أنّ حقيقة الأمر تكمن خلف الجرف الصخري، فلم أتردد بالمضيّ إلى هناك يعصف في أذني عواء الذئب المذبوح، وتصفعني من الخلف عيون بيضاء تلاحقني بخوائها.

لم يكن خلف الجرف ما هو مختلف عمّا كانت عليه البلدة، أرض قاحلة تمتدّ حتى الأفق. غبار يلف المكان، وصفير الريح أوشك أن يصمّ أذني قبل أن أنتبه فيه إلى نغمات ناي شجيّة، رحت أتبعها حتى عثرت على شجرة متوسطة الحجم يجلس مستنداً إلى جذعها شاب يافع مشغول بالعزف، بينما تتجوّل حوله بوداعة نعجة بيضاء صغيرة.

دنوت من الشاب بهدوء، وعلى بعد خطوة منه وقفت أصغي إلى عزفه الشجيّ، نظر إليّ بعنين برّاقتين توشكان على الابتسام دون أن يتوقف عن العزف. عبرت نعجته الصغيرة بجواري فمسّدت صوفها الناصع الناعم بيدي مداعباً، ثغتْ بدلال وتابعت تجوالها حول الشجرة متوقفة بين لحظة وأخرى لتلتقط عن الأرض شيئاً تأكله. جلست إلى جوار الشاب، وأثنيت على عزفه حين انتهت مقطوعته، فارتسمت على شفتيه ابتسامة امتنان زاد من جمالها سمرة بشرته التي لفحتها الريح  بحمرة وردية.

-هل أنت من أبناء البلدة؟

سألته، فأومأ بالإيجاب وهو ينظر ناحية البلدة بفرح كمن يفاخر بانتمائه.

-منذ متى أنت هنا؟

-من الفجر.

-يقولون إنّ الموتى يجيئون إلى هنا؟

رفع كتفيه مع ابتسامة تنطوي على شيء من الخبث الطفولي، وكأنه لا يصدّق ذلك.

-كم مرّة جئت إلى هنا مؤخراً؟

-أجيء كلّ يوم منذ سنة

-ألم يحدث أن التقيت أحداً من الموتى؟

نظر إليّ كمن ينظر إلى مجنون يهذي، مكتفياً بابتسامة ساخرة.

-لكن الجميع يؤكدون أنهم التقوا موتاهم هنا، وأنهم رأوا جثثهم تمشي، وتتحدث  إليهم.

ثغت النعجة في هذه اللحظة ثغاءً عالياً، فنهض مسرعاً إليها، وراح يركض معها حول الشجرة مراقصاً إياها وهو يضحك بفرح طفولي لم أتمالك أن أمنع نفسي مشاركته إيّاه، فدنا مني عندئذ، وقد استلّ نايه من جديد. سحبني من يدي بكفه الخشنة، مباغتاً إياي بقوتها التي تسببت بألم طفيف في ذراعي، ودفعني لأراقص نعجته بينما هو يدور حولنا يعزف ألحاناً فرحة تطغى على صفير الريح.

لم أخذل رغباته الطفولية، ورقصت مع النعجة حتى لم أعد أقوى على الوقوف، فارتميت مستنداً إلى جذع الشجرة وأنا أضحك كطفل صغير. جلس إلى جواري متربّعاً، واضعاً نايه في حضنه وهو يرنو إليّ بسعادة، وقد ازداد بريق عينيه اتقاداً، وقبل أن أستردّ أنفاسي لمواصلة أسئلتي فاجأني بالقول:

-زمن طويل مضى منذ شاركني أحد لحظات فرح كهذه. أجيء كلّ يوم وأمضي نهاري مع النعجة وحيدين. وجودك اليوم جعل للأمر نكهة مختلفة.

كان يتحدّث وقد بدا أكبر سناً مما كان عليه قبل لحظات.

-ربّما ما عاد غيرك يجرؤ على المجيء. إنهم يخافون لقاء الموتى. ولكن قل لي صراحة، ألم تلتق أحداً منهم على الإطلاق؟

وقف فجأة مشيراً ناحية الشمس التي احمرّت موشكة على الغروب، منبهاً إياي إلى ضرورة العودة قبل حلول الليل، فالطريق لن تكون واضحة في العتمة.

-حسناً لنعد سوياً إلى البلدة، وفي الطريق تخبرني بكلّ ما رأيته وتعرفه عن الموتى الذين يعودون.

نظر إليّ نظرة فزعة، ثمّ جلس مستنداً إلى جذع الشجرة، كما رأيته لحظة وصولي، ونعجته تواصل  دورانها حول الشجرة بالوتيرة ذاتها، وبصوت ملؤه الحزن قال:

-عليك أن تمضي من هنا قبل حلول الظلام. أنا لا أستطيع الابتعاد عن مكاني تحت الشجرة.

انتبهت عندئذ لصوته البارد الجاف، فحدّقت به بذهول متسائلاً:

-هل تكون…؟

رفع رأسه محدقاً فيّ بعينين مطفأتين يحكمهما خواء لا تملكه غير عيون الموتى، ثمّ أخذ نايه وراح يعزف لحناً شبيهاً بعواء ذئب مذبوح، فيما نعجته تتكوّر عند قدميه وتوشك على التلاشي.
________
* كاتب من سوريا مقيم في بيروت صدر له في القصة القصيرة مجموعتان “الخاتم” و”قبل أن تبرد القهوة” وفي الرواية “رقصة الظل الأخيرة”.

 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *