الإيمان أو الإلحاد لا يمكن قبولهما بالبرهان * *إمانويل كانط من كتابه محاضرات في فلسفة الأخلاق .
———
يستوجب ظُهور حركَات راديكَالية أُصولية البحث في مَفهوم اللاهوت ، فهذه الحَرَكات هي أولاً تَعتمد على نسَق فكري لاهوتي ، وثانيا تُؤسس بتأويلاتها ،وممارساتها العَقدية ، لنسق فكري لاَهُوتي جديد . لكن عن أي لاهوت تَعتمد الحركات الأصولية ؟؟؟ وفي أي حال يُمكن لهذا اللاهوت أن يُؤدي إلى إنتاج السلم بَدل الحروب والمواجهة ؟؟؟.
يُعرف الفيلسوف الألماني إمانويل كانط مَفهوم اللاهوت ، بالنسق الفكري الذي يَبْحث في الموجود الأَول أو الموجود الأسمى ، إنه التفكير الذي يَبحث في المحرك الأول إذا استعرنا لغة الفيلسوف اليوناني أرسطو طاليس ، أي الفكر الذي يبحث في الله ،ويُنَاقش كل ما يمكن أن يتعلق بالخَالق ، ببساطة ، إنه مَا نصفه بالتفكير الديني ، فكل تفكير ينتج تَصَورات حول الإله هو تفكير لاهوتي .
بالمعنى السّابق لمفهوم اللاهوت نستنتج أنّهُ مَفهوم قديم ، بل من الممكن الجزم أن الإنسان أول ما فكر أنْتَج تصورات لاهوتية ، في هذا الإطار يَتحدث إمانويل كانط في كتابه محاضرات في فلسفة الأخلاَق ، عن وجود لاهوتين إثنين لا أكثر :
-1- اللاهوت التاريخي:
اللاهوت التاريخي هو اللاهوت الموحى، المتَّصف بالثبات ، والقَدَاسة ، والذي يَرُوم إنْتاج شرائع ثابتة ، منغَلقَة ، ولها صفة الكونية … هذا اللاهوت لهُ رجالاته الذين يسعون إلى تأكيد قدرته علَى إعطَاء تصور صحيح حول الله ، والذين يسعون إلى محاربة كُل تَغيير عقلي يمكن أن يطال مَنْظُومة أفكاره ،أو يطال جزء منها ، إنَّه لاهوت ،يقول إمانويل كانط، لا يقبل إي إنتاجات عَقلية جديدة ،لأنه في نظر حراس معبده ، وكهنته ، لا يَحْتَاج إطلاقا لأي تجديد .
يمكن مُلاَحظة وجود هذا اللاهوت بشكل كبير في حركات الإسْلاَم السياسي ،فهؤلاء يَرْفُضون بشكل قاطع أي تجديد فيما تمَّ أخذه عن الأولين ، فالأولون منَزهون ،وما بدر عنهم صالح إلى أن يقول الله كلمته .
لهذا اللاهوت قَنَوات تمريره إلى أذهان المُّتعلم ،ولهُ طرق تنشئة خَاصة به، وله شيوخه ، ومدارسُه المحافظة ، والتي لا شك ستتصادَم مع مناهج التَّربية الحديثة التي تخضع كل المَعارف لغربلة العقل ؛ اللاهوت التاريخي هو لاهوت تلقين وليس عبارة عن لاهوت تَحليل .
-2- اللاهوت العقلي :
في مُقابل اللاهوت التاريخي هناك اللاَّهُوت العقلي ، وهو غير مُوحى على الإطلاق ، وغير ثَابت ، بل هو نتاج الممارسة العَقلية المحضة التي تعطينا تَصوراتنا حول الله ،وحول ما يمكن أنْ يَتم إستخدامه من تأملنا في كونه وخلقه وحكمته .
إمانويل كانط يقسم اللاهوت العقلي في كتابه مُحَاضرات في فلسفة الأخلاق، وفي كتابه الدّين في حدود العقل ،وكتب آخرى، الأخلاق إلى ثلاث أنْواع مختلفة .
النوع الأول : لاهوت نظَري تأملي محض :
هو لاهُوت تَأملي محض،ترنسندنتالي (متعالي ومفارق )، يَنظر إلى الله باعتباره ذَات متعالية ، لا يُمكن إنتاج تَصورات حولها إلا بمفارقة الطبيعة التي خلقها ، فالطبيعَة في هَذا اللاهوت ليست هي الله بشكل منْ الأَشكال ، ولا يمكن التأشير على صفاته بها ، بل نَحن نعرف الله من خلال تصوراتنا المتعالية المحضة .
اللاهوت النَّظري هو لاهوت غير عملي على الإطلاق ، ويُؤدي إلى إنتاج مؤمنين ربوبيين غير عَمليين أبدا ، لذا رأى فيه إمَانويل كانط عَائقَا لإنتاج لاهوت عقلي عملي .
النوع الثاني : لاهوت طَبيعي أو فيزيقي :
هذا النوع من اللاهوت العقلي مُرتبط بالطَّبيعة التي نشكل جزء منها ، إنَّنا نَستدل على الله بمنتجاته ومصنوعاته، إن شئنَا استعارة مصطلحات الشارح الأكبر الوليد إبن رشد ، وبالطبيعة التي خلقها … هنا أريد أن أشير إلى وجود آيات قرآنية عديدة تؤشر على وجوُد هذا اللاهوت الطبيعي ،وتَتحدث عن التأمل والتدبر في الكون والطبيعة ، وهذا يفيد في لاتَاريخية بعض الآيات القُرآنية بل يشير إلى عَقلانَيتها ، فلما أصحاب الفكر اللاهوتي التاريخي يُصرون علَى ربطنا دائما بصفة التاريخية اللاعقلية ؟؟؟.
هذا اللاهوت رغْم عَمليته إلا أنَّه في نظر إمانويل كانط لا يؤدي إلى إنتاج مُؤمن ملتزم ، بقدر ما يُؤدي الي إنْتاج مُؤمن يُفَكر في الله عبر الطَّبيعة ، ويَتعلق بشكل غير عقلاني بشرائع اللاهوت التاريخي .
النوع الثَالث : اللاهوت الأخلاقي :
اللاهُوت العَقلي القيم هو اللاهوت الأخلاَقي ، فهو الوحيد الذي بإمكانه إنتْاَج منظومة من الأفكار الإلزامية الداخلية والأخلاقية التي تَجعلنا نَتَصور الله وما يمكن أن يصدر عنه .
إنَّ فكرة إمانويل كَانط الأساسية في اللاهوت الأخلاقي هي التالية :
إن مبدأنا الأخلاقي الداخلي هُو ما يجعلنا نتَصور الله وصفاته وليس العكس .
في اللاَّهُوت التاريخي الله هو من شَرع مجموعة من القيم الأخلاقية التي علينا إتباعها، والتي تَخْتَلف حسب توجهات كل دين ، وهذَا مَا يجعلها مختلفة ، لكن إمانويل كانط يقول أنَّ الأخلاق يجب أن تكون ملزمة كونيا ، وإلزامها الكوني والإنساني يجب أن يجعل العقل الإنساني يَتَصور الله بشكل أكثر عمقا واشتراكا .
أرى أن الفكرة النيرة التي أبدعهَا إمانويل كانط تَتمثل في قيمية الأخلاَق الكوَنية الملزمة ، هذه الكونية هي وحدها الكَفيلة برأب الصدع بين الأديان والتَّوجهَات التي تعتمد وتصر على لاهوتها التاريخي ،والذي لا شَك أنّه صدامي ، فكل الحروب الدينية والطائفية بنيت على أساس اللاهوت التاريخي.
إذن ما مَوقع اللاهوت الذي تتبناه حركات الإسلاَم السياسي ؟؟؟
إنَّ هَذه الحركَات الإسلاموية بنت مشروعية تواجدها ، ومشروعيتها السياسية ، على وجُود اللاهوت التَاريخي، وعلى معطى القَداسة الذي يمثلُه هذَا اللاهوت ، والذي فُهم وسُوق من أجل طَبع الدين بالتمام ،والتَّام هو بالضَّرورة منغلق ، والأكثر من ذلك هو أنَّها قامت بتحويل اللاهوت التاريخي إلى لاهوت تَاريخي – سياسي ، بمعنى أن هذه الحَركَات الإسلاموية شَرَعت في ممارسة السياسة وفق المُّقدس الذي تبنته ، محاولة بذلك جعل نَفسها ناطقةبشرعيتين ، أُولى شرعية دينية تمنح لهذه الحَركات شرعية ثانية سياسية ، وهذا من العبث العقلي ،ومن علامات الإستخفاف بقدرة المواطن العقلية ،وبقدرته على إنتاج لاهوت عقلي جديد مبني على العقل .
هناك تغيرات ظهرت في منطقتنا على مستوى تجديد الخطاب الديني واللاهوتي ، فظهور بعض االمفكرين الذين نادوا بإعادة دراسة اللاهوت التاريخي على ضوء العقل ،هو محاولة جيدة من أجل إنتاج لاهوت عقلي متغير ومتسامح ومنتج لأفكار غير إنغلاقية على الإطلاق.