ببراعة حكّاءة تسرد “جينيفر مايكل هيكت” في كتابها (تاريخ الشكّ)[1]؛ تاريخ شخصيات مُتوترة، قلقة، فيما يتعلّق بعلاقتها بالإله. فالأسئلة القلقة في عقل الشكّاك، تُعذّب منظومته العقلية، وتجعله نهباً لقلقٍ لاهوتي دائم، وتلك الإجابات الجاهزة والناجزة، التي ينجزها العقل الجمعي، لا تشكّل مُعيناً كبيراً لهؤلاء الشكّاك المطحونين برحى أسئلة فتّاكة. فمن العام 600 قبل الميلاد، وحتى العصور الحديثة، مروراً بالشُكّاك في الحضارات الإغريقية والرومانية والصينية، والديانات الهندوسية والبوذية واليهودية والمسيحية والإسلامية؛ تستخرج المؤلّفة جثث الشُكَّاك–من كان منهم ميتاً- وأجسادهم –من كان منهم حيّاً-، وتجعل منهم عقداً جميلاً، لا يفتأ يتلألأ بخرزاته الملوّنة، وسط صرامة التسليم الجمعي بالمنظومات اللاهوتية.
وفي بداية دالّة عنونت “جينيفر هيكت” مقدمة كتابها بـ (الشكّ ليس ظلاً)، وتحت هذا العنوان كتبت تقول: “مثلما هو الإيمان، يتخذ الشكّ كثيراً من الأشكال المتباينة، من شكوكية الأقدمين إلى التجريبية العلمية الحديثة ومن الشكّ بآلهةٍ متعددةٍ إلى الشكّ بإلهٍ واحد، وإلى شكٍّ يعيد بعث الإيمان ويحييه، وشكّ هو كفرٌ لا ريب فيه. هنالك أيضاً احتفاءاتٌ بحالة الشكّ نفسها، من التشكك السقراطي إلى كوانات Koans الزِن؛ هنالك أيضاً مشهد الضجر من الحياة وهمهمة العالِم الذاهلة وصراخ ضحايا الظلم. ومع كل هذا التباين المفهومي، ثمة ما يقال هنا: استعان شُكّاك كلّ قرنٍ بطروحات من سبقهم”[2]
وفي خاتمة دالّة هي الأخرى وتحت عنوان: “حبور الشكّ” كتبت هيكت: “يتمتّع الشكّ على ما يبدو بقدرة توليد النظريات المفيدة للغاية وإشاعتها، إذ إنّنا نحتفظ اليوم في المذهب الذري والأنثروبولوجيا وعلم الكون والسياسة وعلم الأعصاب بمبادئ الشُكّاك. ليس الأمر مصادفةً: فقد أراد الشكاك معرفة الطريقة التي يعمل فيه العالم وتوقعوا إيجاد أجوبة في العالم المحيط بهم. كان الشك مجرى دؤوباً وديناميّاً على نحو متفاوت للثقافة الإنسانية وعلم الكون، اقترن بأشخاص مبدعين من أمثال توماس أديسون وألبرت أينشتاين، فريدريك دوغلاس وإليزابيث كادي ستانتون، سقراط وسيغموند فرويد…وعلى طول الخط، واكبت الأديان قصة الشكّ، وأرى أنّها ستبقى كذلك على الدوام”[3]
وإذا كان لهذه السلسلة العتيدة من الشُكّاك أن تنتظم حلقاتها، على مدار آلاف من السنين، فقد استطاعت “جينيفر مايكل هيكت” أن تعيد صقلها، وتضعها على الواجهة، تماماً كما هي مصفوفة الإيمان معروضة على الواجهة أيضاً؛ لغاية تقديمها إلى القارئ على هيئة حكاية مُدهشة، شملت حيوات شُكّاك من مختلف الثقافات والعصور.
ففي الفصل الأول[4] وتحت عنوان (ما الذي حدث لزيوس وهيرا؟)، تسرد تاريخ الشكّ في الحضارة اليونانية في مجملها. وبحسب هيكت فإنّ كل من “هوميروس Homerus وهزيود Hesiod يعتبران مرجعي الثقافة العظيميين”[5]، لناحية تأسيسهما إيمانًا جمعيًّا، عبر قصصهما التي تمّ تداولها لقرون طويلة، والتي جرى بموجبها “تنظيم الحياة حول شعائر الآلهة”[6]. ولوقت طويل وبالنسبة إلى غالبية الناس، كان التشكيك بوجود الآلهة أمراً منافياً للعقل. لقد كانوا جزءاً واضحًا من العالم؛ غير مرئيين، لكن قوة إقناع الشعراء وظواهر العالم الطبيعي والسماوات، والخبرة المتأتية من عبادتهم، والرؤى والأحلام العرضية أظهرتهم للعيان”.
لكن الرؤى الإيمانية التي سادت الحضارة الإغريقية، بدأت تنهار، ومن الآن وصاعداً –سواء في الحضارة الإغريقية أو في غيرها من الحضارات- سيكون الشكّ من نصيب الفلاسفة على الأغلب، نظراً للطبيعة القلقة التي يعيشها الفيلسوف تجاه الحالة اللاهوتية في مواضعاتها السائدة. وهنا ستعمل المؤلفة على سرد الأسماء –إضافة إلى آرائها- التي كان لها الدور الأبرز في تحييد الآلهة من مسار الحياة الإنسانية، ومحاولة تهديم الإيمان الجمعي السابق بالآلهة بناءً على الحجج والبراهين، فابتداءً من طاليس –حتى وإن كان قد أشار بعض الإشارات إلى الآلهة في تفسيره للعالَم، إلا أنّ تفسيرات لاحقة لإشاراته اعتبرتها إشارات فيزيائية أكثر منها روحية- وصولاً إلى العلامات البارزة في التاريخ الثقافي الإغريقي: سقراط، أفلاطون وأرسطو. وقد تآكلت النظرة الإيمانية السائدة يومذاك، من ثلاث طرق ابتداءً، فقد “شرع البعض في مناقشة الكيفية التي يعمل بها الكون وفقها فعليّاً، وشرع غيرهم بمساءلة معقولية سيَر حياة الآلهة، ووضع آخرون عالماً متكاملاً آخر من المغزى لا يعتمد على الآلهة بأي طريقة ذات شأن”.[7]
أما في الفصل الأخير ( = الفصل العاشر) والذي عنونته جينيفر هيكت بـ (مبادئ اللايقين) وسردت فيه حكاية الشكّ ابتداءً من العام 1900م، فقد امتاز هذا القرن بحسب المؤلفة بـ “ذروة اللحظات الكوزموبوليانية على مدى التاريخ: العصر الهلّيني وروما وسلالة تانغ وعصر بغداد الذهبي وعصر النهضة. هنالك شكوكية عميقة بصدد قدرتنا على معرفة العالم، على أن نقول أي شيء صحيح، على العثور على قيمة كونية”.[8]
فمع بداية القرن الجديد، حدثت تطورات كبيرة في المسيرة الإيمانية البشرية، إذ برزت الدولة العلمانية بوصفها منتجًا جديدًا، تمّ بموجبه فصل الدين عن الدولة، وأًصبح بالإمكان شرعنة الحركة الإلحادية في كثير من المجتمعات، التي خاضت على مدار قرون طويلة جدالاً واسعاً حول موقف الإنسان من الدين، والحرية التي ينبغي أن تطبع موقفًا كهذا، بما يمنح الإنسان مساحة أوسع في التعامل مع الدين، بعيداً عن الإكراهات والاستلابات التي يمارسها العقل الجمعي على خيارات الإنسان الفردية. وبالتزامن مع ظهور الدولة العلمانية، وتبنّي بعض الدول خيار فصل الدين عن الدولة، ظهرت أسماء فكرية بارزة كانت لها آراء ومواقف من الدين، مثل آلبرت آينشتاين وتوماس أديسون وبرتراند راسل وسيغموند فرويد…إلخ. فـ”نحن في عصر اللايقين الفكري وفي عصر العلم. نحن في عصر العلمانية الكوزموبوليتانية وعصر الإيمان المتحمس الذي يدرك الشك. إنّنا نتأثر بالالتباس الأخلاقي، ونتحرّى فلسفات الحياة الهانئة ومختلف أشكال التأمّل المعتمد على التسامي والعلاج. في أيامنا هذه، أصبحت جميع أشكال الشكّ التقليدية عابثة. هنالك لا يقين في المجتمع الحديث والفن الحديث وعلم الكون الحديث. أما في السياسة، فهنالك شكّ في المطلقات الأخلاقية، وكذلك لا يقين حول النسبوية الأخلاقية. لقد رعت المائة عام الأخيرة كل مظاهر تاريخ الشك العظيم، بحيث أعيد تعريف الشكوكية والعقلانية والنسبوية الثقافية ووجدت الممارسات التشكيكية القديمة جماهير جديدة. في لحظات كهذه اللحظة، وبالنسبة إلى أولئك الذين يحبون الشك، يبدو أنّ الثقافة لا تتماسك فقط بفعل التشارك في المعتقدات، بل كذلك بفعل التشارك في تكريس النفس للاستكشاف والدفاع عن الفضاء العلماني العام”[9]
ما بين القرن السادس قبل الميلاد والقرن العشرين، سيتعاظم الشكّ لدى ثقافات أخرى، بما يجعل منه سلسلة متصلة في كل العصور والحضارات. وإذا كان الشكّ – في عصور قديمة – قد اقترن ببعض الأسماء الفردية ذات الحضور الثقافي البارز في مجتمعاتها، فإنّ الشكّ بدأ يبرز بمثابة قيمةٍ جمعية في المجتمعات الحديثة، ولربما أمكن تفسير هذا الأمر في جانب من جوانبه، بصفته إرهاصاً كامناً في خافية النفس الإنسانية منذ القدم، لكن الخوف من العقوبات، جعلت هاجساً من أخطر الهواجس الإنسانية يتوارى عن الأنظار، ويستقر في أعماق اللاوعي، وقد كان لشُكّاك قتلوا أو مُثِّلَ بهم أو عذبّوا، أن يتحوّلوا إلى أمثلة للردع، فليس كل الناس كسقراط أو الحلاج. لكن مع التحوّلات الكبرى التي شهدتها البشرية مطلع القرن الماضي، والجدالات التي خيضت على مدار قرون طويلة، جعلت دُمّل الشكّ ينفجر على مستوى جمعي، ويطفو على السطح بشكل علني وواضح. فلقد تحوّل الشكّ الفردي القديم –وهذا ليس رأياً قطعيّاً، بقدر ما هو رأي جدلي- إلى شكّ جمعي في العصر الحديث، إلى حدّ أنّ مجتمعات كاملة، انخرطت حديثاً في حالة شكوكية تجاه الإله، ومواضعاته في الزمن والمكان، بما يجعل من موضوعة الشكّ موضوعةً برسم الإنسان طرّاً، وإن كتب عليها التواري والاختفاء لبعض الوقت.
في موضع من كتابها تساءلت “جينفير مايكل هيكت”، لا سيما ساعة تحدثت عن الشكّ في الثقافة اليهودية، عن الإمكان التواصلي بين الثقافتين اليودية والهلينية: “يختلف المؤرخون فيما إذا كان كوهيليث [أحد الشكّاك اليهود] قد عرف أبيقور أم لا، لكنهم متفقون على أنّ عقائدهما تحمل شبهاً عائليّاً يستحقّ التأمّل. سواء من حيث الفكر المشترك أم من حيث تشابه الظروف، دافع كوهيليث والفلاسفة الهلّينيون الذين عاصروه عن أفكار متشابهة في الشكّ في برهة كوزموبوليتانية واحدة في العالم القديم”[10]
قد تكون واحدةً من أبرز صفات المُثقّف العالمي، هي في اطلّاعه – قدر الإمكان – على مواضعات الحالة الثقافية الإنسانية في عموميتها، بما يجعله حاضراً في سياق اتصالي معها. لكن أن يتم رهن الأفكار الأصيلة في الذات الإنسانية لثقافات أعلى، فهذا يجعل من الإنسان محض كائنٍ غير واعٍ بالإمكان العقلي الذي يتموضع بين جنبيه. فأن يتم رهن اللاحق بالسابق، فتلك مشكلة كبيرة، لأنّها تجعل من اللاحق محض تابع للسابق، بما يمنح السابق أصالةً كاملةً واللاحق تابعيةً ناقصةً. وأن يتم التأسيس للشكّ الإنساني بثقافة معينة أو شخص محدّد، واعتبار كل الشكوكيات اللاحقة، محض استنساخ لتلك الثقافة أو لذلك الشخص، هو انتقاص من مقدرة الإنسان – حتى إن كان معزولاً، وهذا ما أنتج نماذج أدبية حاكت قدرة الإنسان على تخليق ظرف وعيه بالعالَم، وانبثاق أسئلته المهمة من ثمّ، مثل قصة حي بن يقظان لابن طفيل وقصة مغامرات روبنسون كروزو لدانيال ديفو – على تمثّل شرطه الجدلي ومنحه بعداً ذاتيًّا، حتى في حال انعزاله عن الذوات الأخرى، فالملَكة العقلية وقدرتها على طرح أسئلة جارحة ومحرجة، ميزة من ميزات الإنسان الكبرى في الزمن والمكان. وأن نرهن – مثلاً – مقدرة شخص مثل أبي العلاء المعرّي على الشكّ بما وصل إليه من الثقافة الإغريقية أو الثقافة الفارسية، فتلك سقطة ثقافية، تحطّ من قدرة الإنسان على الإطلاق، لأنّنا ساعتها سنسأل سؤال “سانشو” [البطل الأحمق/ العبقري، في رواية دون كيخوت لثربانتس]: من هو أول شخص حكَّ رأسه في العالَم؟.
إنّ العقد الذي عملت “جينيفر مايكل هيكت” على رصف حبّاته بعضها إلى جانب بعض، هو عقد مدهش، نظراً لانطوائه على تاريخ مُحرّم ومتوارٍ ومستبعد، لكن ليس معنى التأسيس للشكّ بلحظة إغريقية أنّ الشكّ ابتدأ من هناك حصراً، بل إنّ الشكّ كما أشارت المؤلفة نفسها تجربة موغلة في التاريخ، فلكل ثقافة مواضعاتها لحالتها الإيمانية، ولكلّ شاكّ مواضعته للسؤال اللاهوتي في بُعده الشكّي، لناحية التصاق ثنائية (الإيمان/ الشكّ) بمشيمة واحدة، لا تفتأ تتوالد جدلاً بين يقينيات المرء – أنّى تواجد- وشكوكياته، فعقله مُركّب جدلي – بعيداً عن أي تأثيرات خارجية لاحقة – من انبناءات إيمانية وانهدامات شكّية، فالهندوسي المؤمن لا يطلّع بالضرورة على التجربة الإيمانية بآلهة الإغريق لكي يؤمن، والشكّاك الروماني لا يقتضي بالضرورة أن يكون قد اطّلع على تجربة الشكّاك في الحضارة السومرية، لكي يشكّ هو الآخر. بل الشكّ جزء أصيل من التكوين المعرفي الإنساني، طالما أنّ ثمة إيمانًا ما. ولربما كان لهذه الثنائية الاتصالية لحظة الجدل، الانفصالية لحظة (التطامن/ القلق) دور رئيسي، في حال الاشتغال عليها، وتعزيز حضورها في السياق المعرفي الإنساني، في نزع فتيل الخصام العريق بين المؤمنين والشُكّاك، لناحية فهم ما هم عليه، بصفته جزءاً من حِراك جدلي إنساني واحد.
[1] جينيفر مايكل هيكت، تاريخ الشك، ترجمة عماد شيحة، المركز القومي للترجمة، القاهرة، مصر، ط1، 2014، العدد 2428
[2] المرجع السابق، ص 9
[3] السابق، ص ص 831- 832
[4] اعتبرُ انطلاقة المؤلفة في تأريخها للشك من الشُكاك الإغريق؛ انطلاقة إبيستمولوجية لا انطلاقة أنطولوجية، فهي تريد التأسيس لما هي بصدده من نقطة معرفية ما، والبناء عليها من ثمّ. لكن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال انبثاق حالة الشكّ إلى الذهن الإنساني فجأةً في الثقافة الإغريقية، بل هو تكوين أصيل في الطبيعة العقلية الإنسانية، وهذا ما سأشير إليه في نهاية عرضي للكتاب الذي نحن بصدده.