الجدار

خاص- ثقافات

*د. سلطان الزغول

فوق سقفٍ مُترعٍ بخيباتٍ قديمة وقفتُ أتأمّلُ الجدار..

كانت السماء تَسْوَدُّ

كانت صخور الجبل العالية تتفتّتُ

كان الجدار يتعالى…

كانت روحي تتفلّتُ إلى أرض قديمة

يسكنها عشبٌ

يظلّله شفقٌ أرجوانيّ

تحضِنه امرأة خلابة..

كنتُ أدعكُ الصورة البديعة بابتسامات بليغة تطلقها نساء فريداتٌ فينولد التاريخُ ضاجّاً بأنوثة مشتهاةٍ وَوِلدانٍ دمثين..

كنتُ أحكّك اللغة لينفلقَ القلب:

نصفاً يطير إليكِ

ونصفاً ينزلق في الغابة

كنتُ أندهش من أنّ عينيك صغيرتان

لكنْ مليئتان بكتب وقصائد لم تولد بعدُ

كنتُ أحبُّ سيولة الجلد المتدفّق نوراً

ما إنْ ألمسه حتى يتهادى كقطّ يقوده البردُ إلى ضوء الشمس في أواخر الشتاء

كنتُ أتهجّى معنى المحبّة في عينيك كيف يصيرُ

كيف تصيرُ المحبةُ عواءَ الروح السارحة في مدى زهور الجبل

ذابت الروح.. ذُبْتُ

سرتُ وحيداً نحو السقف المُتْرَع بالخيبات

صرتُ أرجوحة لكائنات غريبة تتهادى فوق جسدي ثم تُعمل مشرطها في قلبي فيسيل الأرجوان الذي ادّخرته لعينيك الصغيرتين منذ ألف ألف عام..

كانت الطريق إلى النبع طريقاً لغزلان روحك كلما عطشتْ للماء

كنتُ أحبُّ أن أشربك بعد أن ترتوي الغزلان من النبعِ..

كنت أهذّبُ عطشي حسبُ

لم أرتوِ يوماً

تلك الطريق إلى النبع انقطعت

وتوارى النبعُ خلف الجدار

لم يعد غيمُ نيسان يمسحُ روحي بالألفة

نسيتِ الأزهارُ روائحَها

صار الجبل أقلّ ارتفاعاً

صار النهرُ أبعد

صارت القهوة بلا طعم

صار الحبّ بلا لون

صار قلبي قطعاً ممزّقة في فضاء يتلبّدُ

صرتُ رِجْسا من عمل الوقت

صارت الشمس صورة معلَّقة على الجدار

وصار الوطن ثلاجة

وصارت الغزلان بلا جسد

صرت عطرا كئيباً تلفظه الأواني بنزق

لا روائح حريفةَ

لا غاباتٍ تغطّي عُريَ الروح

لا أساور تخشخشُ بالمحبة

لا وديان تُسيّل الأقمار على الصخور

لا عصافير يطيّرها ضوء الفجر نحو الأفق الرحب

كانت العتمة مدفونَةً منذ عصور بعيدة في قلب التاريخ

لستُ أملك إلا أن أغرق في عتمة تتغلّف بليلٍ كثيف يعانق ظلمة قديمة تملؤها تنانين وغيلان وبشرٌ يأكلون العشب فتنولدُ أرضٌ قاحلةٌ

يشربون الشجر فتنمو الصحراء

يرنو جملٌ رمليٌّ نحو غول أصفر فيخاف المشهدُ أن ينجليَ عن شيء فيبقى معلّقاً

(جمل رمليٌّ يرنو وغولٌ أصفر بلا عينين)

أتوارى بيأسٍ كأنني لم آمل يوماً أن أرى.. أكره الرؤية..

ليت أني كنت ورقة صفراء على كتف الأرض..

أتصلّب في الشمس.. يدحرجني هواء الخريف.. تبعثرني الطرقُ.. أتفتّتُ.. تحمل الريحُ ما بقي مني نحو عتمة الماء.. أصير هباءً

أتعب من الرؤية..

أهترئ إذ أرى..

أسيرُ في أرض قاحلة كانت حقلاً

أسحب الحلم من أرجوانه ليندلقَ على الأصفر دون جدوى

أتدفّقُ موتاً..

أسألُ عن عناة

قيل كانت تتشمّسُ قبل أن ينقطع رأسها ويسيل موتها على سقوف تنمو فوق سقوف تعلوها سقوف

يتدفّق الجدار

أنغمس في الصديد

تعلوني ديدانٌ مترعة بالخوف

تحمل همومها وتمشي على جسدي..

أنزع الزجاج عن عينيكِ فلا أجدهما..

أين أنا..؟؟

يا أبي..

يا فرساً وزيتوناً وانتظاراً

يا أفقاً يتجدّدُ

يا وعداً.. يا حلماً.. يا (بعلاً)

تتساقطُ نجمات الحقل

يبتعدُ الضوء

أشرب العتمة مع الصديد

يخفق سرب طيور كئيبة دون أن تطير.. تحاولُ أن تخطو في الهواء.. لا يتحرّكُ الفضاء.. تتدفّق العتمة..

أرسمُ ضوءا لا يأتي..

وأرى وطناً يهجر فجراً..

فأكاد أصدق العتمة

لا أحسُّ بنبع الضوء المتساقط من كفّيك ما إن يمرَّ صوتي في جنبات البيت المشرع للحلم

فأكاد أصدق أن العتمة لم تدفن منذ عصور بعيدة في قلب التاريخ

أماماً أماماً أيتها الروحُ

امضي نحو بصيص الضوء

لن يطول الوقت بالجدار حتى يغطي الفضاء

أعرف أنني قد رأيت

لكنني لم أعرف

لن أعرف بعدُ فقد ملأتني الديدان!!!

________
*شاعر وناقد أردني

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *