الأدب المُعتَمَد والثقافة المضادة.. من النَّص إلى الفِعل

*سعيدة تاقي

على سبيل التقديم:

أثار انتباهي منذ سنوات حين تتبعت الشريط السينمائي الأمريكي Dangerous Minds (إخراج جون ن سميث سنة 1995 و كتابة رونالد باس) لأول مرة، اعتماد المدرِّسة لوان جونسون (تؤدي دورها بإبداع ميشيل فايفر) على الشِّعْر في محاولاتها مواجهة رفض تـلاميذ المرحلة الثانوية الذين ينحـدرون من أصول أفروأمريكية و لاتينية لأي أنماط التدريس، و محاولاتها الدفاع عن حقهم في الاختيار الصائب و إن كانوا يقفون من منطلقات إثنية و ثقافية و اجتماعية بالنظر إلى انتماء أغلب المراهقين إلى أوساط شعبية فقـيرة تغرق في قـضـايـا الـمخـدرات و الـعـصابـات، ضد المـدْرســة/المؤسسة و المجـتمع و النظام و السلطة، و ضد التعليم.

لم تكن القصائد التي اعتمدتها المدرِّسة لوان ـ و هي الشابة المقبلة على مجال الـتـدريس بشغف و حيوية ـ في شدها لاهتمام المراهقين الرافضين لكل “تعليم/تدجـين” ـ غير قـصائد “روبرت ألن زيمرمان” المعـروف باسـم بوب ديلان الشهير و مصنفات أشعاره.

على هامش الأدب:

لوان جونسون الأمريكية (Louanne Johnson) التي يصور الشريط بعضا من سيرتها الذاتية في مسارها التعليمي هي كـاتـبة أمـريـكية متـقـاعدة من البـحرية الأمريكية،  و مدرِّسة بعد حصولها على شهادة الماجستير في تدريس اللغة الإنجليزية. أكثر كتبها شهرة هو « My Posse Don’t Do Homework »، و هو  العمل الذي اقتبسه الشريط و أعاد رونالد باس كتابته للسينما سنة 1995، و أعيدت كتابته للتلفزيون سنة 1996.

الشريط السينمائي “Dangerous Minds” الذي تقع أحداثه سنة 1989 بثانوية كارلمونت في بيلمونت بكاليفورنيا شأنه شأن الشريط المبهر “Dead Poets Society” (إخراج بيتر وير سنة 1989 و كتابة توم شولمان و بطولة المدهش روبن ويليامز) الذي تقع أحداثه سنة 1959 في أكاديـمـية ويلـتـون شمال شرق الولايات المتحدة الأمريكية، ينطلق من تدريس اللغة الإنجليزية عبر أدبـها، و يغـدو الشِّـعر حلقة الـوصل التي تجـدِّد التأمل و التفكير في العقول الفتية و تدفعها إلى الاختيار و الفعل و الإبداع و الحياة. و يصبح التعـليم و برامجه و مناهجه في موضع  نقاش و تحليل بين وجهة الفكر الثوري المقاوم الذي يلاحق المجتمع في تطوراتـه و احتـيـاجاتـه و إكـراهاته بـرعايـة الـمـدرِّسين/القادة، و بين نـسقي الـفـلسـفة و السـياسـة التعـليميتين المحافـظتين على مـنظومة المؤسَّسة و تقاليدها و على منظومة الـسلطة و الـقوة الـرمزيـة المـتـحكمة و السائدة.

و مثلما يغدو ملِّـحاً التفكيرُ في اللغة أمام الفكر الذي تحمله طاقة الاستعارة الرامزة في السينما بدءً من عنواني الشريطين المتمنِّعين على الترجمة، بحيث تمت مقابلة العنوانـين في الترجمة المعتمدة باللغة الفرنسية بـ “أرواح متمردة” و “حلقة الشعراء الضائعين”.  وتمت مقابلتهما  في الترجمة الشائعة (و المبتذلة) باللغة العربية بــ “عقول خطرة” و “مجتمع الشعراء الأموات”، يغدو ملِّحاً  التفكير في الأدب و الشعر من داخل الأدب و من خارجه كذلك.

فقد عاد إلى الواجهة في الأسابيع القليلة الماضية جدل “ماهية الأدب” و “ما الذي يستحق أو يملك أو يعترف له بأن يكون أدبا”، إثر إعلان الأكاديمية السويدية عن اسم بوب ديلان متوجا بجائزة الآداب لسنة 2016. و على الرغم من كون الجدل أخذ أبعاده العالمية إلا أن سياقي التشكيك و الاستنكار يأخذان الوجهة ذاتها رغم اختلاف البـنـيات الأدبـية و الثـقـافـية و الفكرية و اللغوية.

و لعل ما صرحت به الصحفية “آنا نورث” و هي المحررة بصحيفة النيويورك تايمز بتاريخ 14 أكتوبر، أي بعد يوم واحد من إعلان الأكاديمية عن فوز ديلان هو لسان حال كل المشكـكين في “صواب الاخـتيار” و “حق التـتويج”. تقول “آنـا نـورث”:  “بوب ديلان لا يحتاج الفوز بجائزة نـوبل للآداب، لأنه  يـؤلف الموسيقى لمصاحبة كلماته، فهو كاتب أغاني و موسيقي و ليس كاتبا. و كلماته ليست أدبا.”

إن بوب ديلان الذي أقرت الأكاديـمـية  بـأن أعـمـالـه “تـتـمـحـور حـول قـضايـا مثـل الـظـروف الاجـتـماعـية للإنـسان و الـديـن و السـياسـة و الحب” و بأنه فيها “ابتكر تعابير شعرية جديدة داخل التقليد الشعري الغنائي الأميركي”، لا ينتمي ـ وفق منظور المستنكرين ـ إلى مجتمـع الأدبـاء بل إلى مـشاهير الغناء و الموسيقى، و لأجل ذلك فتتويج مغـني “شعـبي/ جماهيري” و شاعر/كاتـب أغـاني بأعلى و أرفع جائزة تقديرية للأدب في عرفهم خطأ فظيع لا يغتفر للأكاديمية.

مقولة “الأدب”:

يميز جيرار جـنيت في كتابه “المتخيل و الواقعي” بين نظامين من الأدبية. يتعلق الأول و هو الذي يدعوه “النظام التأسيسي” بالنصوص المكتوبة أو الشفهية التي يتم مبدئيا تصنيفها بالنصوص الأدبية لانتمائها الجنسي أو الشكلي؛ مثل الشعر و النصوص التخييلية من روايات أو قصص، و الملاحم و التراجيديا. أما النظام الثاني لأدبية الأدب الذي يدعوه جنيت “النظام الشرطي” فيرتبط بالأعمال التي يعتمد معيارها الأدبي بصورة كبيرة على التلقي الجمالي. فالعمل التاريخي أو الفلسفي لا يستقبلان بوصفهما عملين أدبيين إلا إن منحهما القارئ ذلك التلقي الجمالي. و من ثم فإن المعيار الأدبي لهذه الأعمال وفق النظام الشرطي الذي يحدِّده جنيت قابل للتغير و التغيير بحسب ظروف التلقي الفردية أو الجماعية. فما قد يعدُّه أحدهم صفحة من التاريخ أو الفلسفة وفق معاييره الخاصة بهاذين الحقلين المعرفيين، قد يعدُّه الآخر نصا أدبيا و موضوعا جماليا.

و لقد عاد جنيت إلى هذه الثنائية التي تسم وفقه أدبية الأدب في فصل (ترجمه بريادة مبدعة غسان السيد ضمن “من البنيوية إلى الشعرية” منه مقتطفات المقال) من الجزء الرابع من مؤلفه “ملامح” (أو أشكال) (1999) ببعض التنقيح و التوضيح لما يظنه ظل غير واضح عند التلقي لكتابه السابق. يقول جنيت: “بعض الأدبيات تستند غالبا على ما هو…، و تقوم أخرى على متى… دون تغليب مبدأ الأولى على الثانية.” و دون عد النظام الشرطي أقل أهمية من النظام التأسيسي. و لبيان ذلك يستحضر جنس السيرة الذاتية الذي يراه مرتكزا من حيث المبدأ على النظام الشرطي من الأدبية عبر الواقعي أكثر من المتخيل، لأن كتابة حكاية الحياة لا تعد إنتاجا لعمل أدبي مثلما هو الحال في كتابة رواية أو مأساة.

و جيرار جنيت في المؤلف ذاته و هو يستعير عن أمبرطو إيكو قوله في مؤلفه “العمل المفتوح” بأن “العمل الفني ليس عملا إلا بمقدار ما يكون مفتوحا على أعمال أخرى”، يضيف و هو يقر بخروجه عن “سور النص” الأثير عند أنصار البنيوية الأولى بأن: انفتاح العمل الفني يجب أن يكون كذلك انفتاحا على صيرورته و على العالم الذي يمارس فيه تأثيره، لأن الفعل الجمالي لا يمكنه أن يكون ـ في جوهره ـ إلا علائقيا.

و المثير للانتباه أن جنيت و هو يغادر بنية النص المغلقة بصفة نهائية، يقول في بيان يستحق أن يدرج كاملا بمنطقه الاستطرادي رغم طوله: “إنني لا أدعو إلى حياد قيمي للعلاقة الجمالية، حتى و إن وجدت أحيانا أو غالبا، تقويمات محايدة مثل القول: “إن هذا العمل أو هذا الأسلوب لا يقدم و لا يؤخر”. إن ما أرفضه هو إدخال التقويم في تعريف الأسلوب و العمل و الأدب و الفن. و ما أتمناه هو تحرير التقويم من الخوف الخفي الموجود دوما في توصيف تفضيلي أو غير تفضيلي، و أكثر من ذلك في فكرة أن المعرفة العامة تستطيع عبر التكاثر فرض تقويمها علينا.  أريد القول: “إن هذا النص، مثل كل نص يمتلك أسلوبه الخاص، و هذا الأسلوب لا يروق لي” أو “إن هذا الموضوع هو بوضوح عمل، لأنني أعرف أنه منتج إنساني يبحث عن تقويم جمالي إجابي، و لكن حصل أن تقويمي له سلبي”. في المقابل إن معرفة هذا “الترشيح للتقويم” و الغاية الفنية التي تحدده، تفرض نتائج هامة تعود إلى الخصوصية التاريخية لفعل الإبداع (و الترشيح)، و تعود بالتالي إلى تاريخية فعل التلقي نفسه: لا يمكن أن تكون علاقتنا بعمل فني (بريئة) أو بدائية مثلما تكون علاقتنا الجمالية بمادة طبيعية مثل المنظر الطبيعي. إنني أكرر أن هذه العلاقة تاريخية. لا حدود إذن للنسبية الطبيعية لعلاقتنا الجمالية و لكنها على العكس مركزة من خلال النسبية الثقافية لعلاقتنا الفنية التي تشكل في الوقت نفسه، حريتها و مسؤوليتها.”

الأدب في العالَم:

يمكن القول ختاما: لئن كان الشعر يغير الحياة، و التربية على الاختيار تقوي إرادة المقاومة في النشء، و المعرفة تتطور في خدمة المجتمع، و السينما تطوع الفكر بجمال، و النقد الأدبي قابل للمراجعة النقدية و للتجدد، فإن الأدب في عالم الألفية الثالثة بعيدا عن أي مركزية و بمنأى عن أي تصنيف ينطلق من “المُعتَمد” وفق أعراف المؤسـسة الكـلاسيـكية التي أهـملت لـقـرون آدابـا لصالـح أخرى بمنـظور تفضيلي و إقصائي، لم يعد أدب الصالونات “الرفيع”. و ما كان يدخل في الآداب الشعبية/الجماهيرية التي كان يُنظر إليها باستعـلاء يكتسح راهناً العـالَم على مستويات التداول و التلقي و القراءة في الأمم القارئة، و ينال التتويج و هو يفعِّـلُ المقاومة الثقافية بكل أشكالها الجمالية و أبعادها الفكرية.

_______

*نشر بمجلة “الإمارات الثقافية”.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *