الأقدار التعليمية هي التي قادت المترجمة المصرية يارا المصري عقب المرحلة الثانوية نحو كلية الألسن في جامعة عين شمس، لتكون على مقاعد قسم اللغة الصينية بين دارسيها من العرب، ولتنتقل بعد ذلك إلى جامعة شاندونغ للمعلمين في مدينة جينان الصينية بإقليم شاندونغ، لتتحول اللغة الصينية رغم صعوبتها واختلافها الجذري عن العربية إلى حالة شغف بالنسبة إلى ضيفتنا.
المشترك الإنساني
الترجمة من الصينية إلى العربية هي الهدف الذي تشتغل عليه يارا المصري اليوم، فتصف الصعوبات التي تواجهها في سبيل ذلك، بأنها ذات الصعوبات التي تواجه أي مترجم من لغة إلى أخرى، لتضيف عليها اتساع أفق اللغات بشكل كبير، وتغير دلالات الكثير من الكلمات، علاوة على ارتباط النص بثقافة مجتمع الكاتب الذي أبدعه، والقدرة كذلك على ما يمكن تسميته –بحسب ضيفتنا-“حياة جديدة للنص في لغة ثانية” كتعبير عن ترجمة إبداعية لا تخِل بالنص، لكنها في الوقت ذاته لا تترجمه حرفيا كما لو كان مادة علمية، ولذلك فإن العمل الإبداعي عند يارا المصري، هو مخزن استعارات ودلالات ومهمة المترجم هي البحث والتقصي عن قصد الكاتب الأصلي للنص في قصيدة أو سرد.
تتابع ضيفتنا أنَّه على المترجم قبل تناول أي عمل إبداعي، استيعاب اللغة التي يترجم منها واللغة التي يترجم إليها، وقراءة النص قراءة جيدة تتيح فهمه واستيعاب دلالاته، والإحاطة كذلك بثقافة النص التاريخية والاجتماعية، وبشكل عام مواكبة تطور قاموس اللغتين المترجم منها والمترجم إليها، وذلك في سبيل تحقيق الهدف الأسمى للترجمة بوصفها عملية إبداعية لا تقتصر على النقل من لغة إلى أخرى.
حديثها يقودنا نحو السؤال عن ميزات الأدب التي يقع عليها اختيار الترجمة، لتقول إن المعيار واحد في جميع اللغات، وهو جودة العمل الأدبي و تفرُّده، فضلا عن ضرورة وجود مشترك إنساني يمكن أن يرى كل قارئ فيه ذاته إلى حد كبير أو صغير، مهما كانت مرجعيته الثقافية، تذكر ضيفتنا هنا عالمية شخصية زوربا في رواية اليوناني نيكوس كزنتزاكيس كمثال واضح، وفي حالة التخصيص بين الثقافتين العربية والصينية، فتعتقد يارا أن الأدب الذي يقع عليه اختيار الترجمة، هو ذلك الذي يعكس التحولات والمعاناة عند الصينيين والعرب خلال القرن العشرين.
الاتجاه نحو هذا العمق المحلي سواء كان جغرافيا أو تاريخيا في الأدب المراد ترجمته، يفرض بالضرورة مواجهة عقبات تتعلق بوجود إشارات مكثَّفة تتعلق بارتكازات للتاريخ الشفاهي أو المكتوب الموجود ضمنا في عقل المتلقي الأصلي، في مثل هذه الحالات تلجأ ضيفتنا إلى وضع حاشيات تعريفية تضم إشارات تفصيلية حول الاختزالات المعرفية التي تم تمريرها في النص.
الشعر والرواية
الحديث هنا يقودنا نحو الشعر، فنقل النص الشعري من لغة إلى أخرى لا يقتصر على الترجمة، بل على تضمين الترجمة الشعرية التي يحملها النص الأصلي، نسأل ضيفتنا عن تجربتها في هذا الإطار، لتقول إنه ما من مترجم في العالم لا يدرك مدى صعوبة ترجمة الشعر بالذات، خاصة إذا انطوى على إيقاعات يصعب نقلها من لغة إلى أخرى، والإيقاع كمـا هـو معـروف يـؤثر في النص الشعري كغيره من العناصر، في الحالة العربية الصينية تؤكد يارا أن هناك ضرورة حتمية لمعرفة قواعد وآليات صياغة الشعر بين الثقافتين قبل الإقدام على خطوة ترجمة نص شعري، وهذا هو صلب ما تخطط له في إطار البحث الأدبي في إنجاز دراسة مقارنة بين آليات صناعة الشعر في الثقافة الصينية والعربية وصورته ومكانته في كلا الثقافتين، بعد الانتهاء من ترجمة الأعمال الكاملة للشاعر الصيني الشاب الذي مات منتحرا خاي زي.
تكشف يارا المصري في حوارنا عن الخطوات التي تقوم بها قبل البدء بترجمة أي عمل أدبي من الصينية إلى العربية؛ ففي البداية تطالع حياة الكاتب والظروف التي أحاطت بكتابة النص، ثم تجمع كل المقالات النقدية التي كتبت عن النص بما في ذلك آراء القراء وتقرؤها، ثم تراجع العمل مرتين أو ثلاث مرات، وتبحث عن لقاء تلفزيوني أو ندوة شارك بها الكاتب وتشاهدها، وتقوم بالاطلاع على الأعمال الإبداعية المترجمة لذات المبدع عن لغات مختلفة، بعد كل هذا تبدأ بالترجمة إلى العربية، عن هذه الخطوات تضرب أمثلة من اشتغالها الأدبي، فعندما قامت بترجمة إحدى القصص في المجموعة القصصية الأولى “العظام الراكضة”، اضطرَّت لقراءة ملف كامل عن اللؤلؤ حتى تستطيع استيعاب النص وتخيُّله، أيضا مع رحلتها في ترجمة رواية “الذواقة”، قامت بقراءة مواد عديدة ومتنوعة عن مهنة الذواقة، وعن المدينة التي تدور فيها أحداث العمل، وعلى صعيد الشعر، فقد أوقفت ترجمة إحدى قصائد خاي زين عن الرسام الهولندي فان غوخ لتقرأ كتابا عن حياة الأخير.
تعمل يارا المصري اليوم على ترجمة ثلاث روايات قصيرة للكاتب الصيني سوتونغ، الذي قامت قبل ذلك بترجمة روايته “الفرار في عام 1934”، من بين هذه الروايات التي تشتغل على ترجمتها، رواية “حياة امرأة أخرى” وهي رواية تقع أحداثها في جنوب الصين، في محل لبيع صلصة الصويا والمخللات، تعمل فيه ثلاث عاملات، وتعيش في الطابق العلوي للمبنى امرأتان لم تتزوجا، تعيشان حياة منعزلة بعيدة عن الناس، وتعتمدان على التطريز لكسب المال.
تبدو الرواية في حبكتها رواية اجتماعية تحكي عن تفاصيل الحياة اليومية، إلا أننا يمكننا أن نلاحظ كيف برع الكاتب في وصف المرأة ونفسيتها وفي وصف جغرافية جنوب الصين، كذلك أبدع الكاتب في وصف الرعب والخوف اللذين تعاني منهما الأخت الصغرى ورغبتها في الزواج والتحرر من سيطرة أختها الكبرى، وفي المكائد التي تدبرها العاملات لبعضهن وغيرها من الأحداث التي تنتهي في النهاية نهاية درامية حزينة وهي الموت.
مؤخرا، حضرت ضيفتنا مؤتمرا عن ترجمة الأدب الصيني إلى اللغات الأجنبية، حيث شاركت خلال رحلتها الأخيرة إلى الصين بمقال سردت فيه تجربتها الخاصة مع الترجمة عن اللغة الصينية والصعوبات التي واجهتها، وعن أهمية الترجمة عن اللغة الصينية بالنسبة إلينا في العالم العربي، بحضور رئيس اتحاد الكتاب الصينيين الكاتبة تييه نينغ، وحضور الكاتب الصيني الحاصل على جائزة نوبل مو يان، وكتاب مختلفين مثل آلاي، جيا بينغ وا، تشياو يي، يوهوا والعديد من الكتاب الشباب، حيث عرضت يارا تجربتها مع الترجمة من خلال ترجماتها عن رواية “العظام الراكضة” للكاتبة الصينية آشة، ومجموعة “رياح الشمال” للقاصة الصينية بينغ يوان، ورواية “الذواقة” للكاتب لو وين فو، و رواية “الفرار في عام 1934” للروائي سوتونغ.
______
*العرب