فيتزجيرالد.. دراما الكتابة والحياة

*نصر عبد الرحمن

هو واحد من أعظم كُتّاب الولايات المتحدة في النصف الأول من القرن العشرين، وأكثر من عبّر عن تلك الفترة في كتاباته. شهدت حياته تقلبات حادة ودرامية بين الفقر والثراء الفاحش ثم الاستدانة، وبين الشهرة العظيمة وخفوت الأضواء.

إنها قصة صبي طموح ووسيم، ولد في أسرة ميسورة الحال، إلا أن تجارة والده في الأثاث تعثرت، وتحوّل إلى مُجرد موظف صغير. كان فيتزجيرالد شديد الطموح والموهبة منذ الصغر. طارد مشروعه الأدبي على حساب الدراسة، وحققت روايته الأولى نجاحاً باهراً، لكن سرعان ما أدمن الخمر وحياة الترف، فحاصرته الديون وتعثر في الكتابة وأصابه إحباط وهو يتوارى في الظل.

ولد فرانسيس سكوت كي فيتزجيرالد عام 1896 في سانت بول، منيسوتا، ونشأ في نيويورك، بدأ اهتمامه بالأدب مُبكرًا؛ إذ نشر أول قصة له وهو في الثالثة عشرة من عمره في مجلة المدرسة؛ وكانت قصة بوليسية. كتب الكثير من القصص في المرحلة الثانوية، ولقي تشجيعًا كبيرًا من الأساتذة والزملاء. وفي فترة الجامعة، سعى بقوة لتحقيق طموحه الأدبي وتعرف إلى عدد كبير من المُبدعين، وعمل مُحررًا في عدة صحف، وتردد على المُنتديات الأدبية والموسيقية، إلا أنه تعثر دراسيًا وترك الجامعة عام 1917 دون أن يتم دراسته، ثم التحق بالجيش.
أدى خوفه من الموت في الحرب إلى التسرع في كتابة رواية «التبجح الرومانسي»، التي رفضتها دار النشر لكن شجعته على التقدم بأعمال أخرى. وفي إحدى إجازات الجيش، قابل جينيرا كينج؛ ووقع في غرامها على الفور، وكان يكتب لها يومياً، وأصبحت ملهمته في كتابة عدد من شخصياته الروائية النسائية. وبعد عام واحد، نسي جينيرا حين قابل زيلدا؛ التي عشقها على الفور وأصبحت زوجته فيما بعد. تم تسريحه من الجيش فور انتهاء الحرب العالمية الأولى، فاتجه إلى نيويورك وقرر إقامة مشروع تجاري حتى يستطيع الزواج من زيلدا. أخفق مشروعه وانتهت خطبته من زيلدا، فقرر التركيز على تنقيح روايته وقام بتغيير اسمها لتصبح «ذلك الجانب من الفردوس»، وتمكن من نشرها عام 1920. حققت الرواية نجاحاً كبيراً، ومنحته شهرة واسعة، كما أنقذته أرباحها من أزمته المالية، فتمكن من الزواج من زيلدا في نفس العام.
كانت علاقته بزوجته مثار اهتمام كبير في الأوساط الأدبية؛ فقد كتب عنها إرنست هيمنجواي في مذكراته واتهمها بدفع زوجها إلى شرب الخمر، وتعطيل مشروعاته الروائية لكي يتفرغ لكتابة القصص القصيرة التي تُحقق عائداً مادياً سريعاً لتغطية نفقاتهما الكبيرة.

كان فيتزجيرالد قد أدمن شرب الخمر، وأصبح شديد الإسراف والاستهتار، إذ كان يُقيم في فنادق فخمة ويسافر كثيرًا في رحلات أغلبها إلى أوروبا. جمعته إقامته لفترة في باريس بإرنست هيمنجواي الذي أصبح صديقه المُقرب. تأثرت كتابته القصصية كذلك، واعترف بأنه كان يُضطر إلى الكتابة بسرعة شديدة من أجل المال، وكان يضع بعض اللمسات التجارية على قصصه كي تناسب ذوق المجلات وتُقبل على شرائها. ومن سوء حظه أن روايته الثانية «جاتسبي العظيم» لم تُصادف نجاحًا يُذكر في حياته، ولم تتحول إلى أيقونة أدبية إلا بعد وفاته بسنوات. أصابه هذا بالإحباط، وانتابته حالة من العجز عن الكتابة؛ بالطبع كان سببها أسلوب حياته المُستهتر، ومرض زوجته، ورفض أصحاب دور النشر إقراضه. وبعد تسع سنوات، تمكن من إصدار رواية جديدة بعنوان «رقيق هو الليل»، لكن النقاد انقسموا حولها ولم تُحقق مبيعات تُذكر، فداخلته قناعة أنه روائي فاشل، وعاد إلى الإسراف في شرب الخمر، وأصابه اكتئاب دخل إثره المستشفى عدة مرات.

بعد خفوت نجمه كروائي، قرر التوجه إلى الكتابة للسينما، وهو أمر كان يراه إهداراً لقيمته الأدبية، فتعاقد مع إحدى الشركات لكتابة مسلسل كوميدي، وانتقل للإقامة في هوليوود مع زيلدا، إلا أنه اضطر لمغادرتها بعد شهرين فقط بسبب تكاليف المعيشة الباهظة. وبعد فترة من المُعاناة المالية والنفسية، تعاقد مع شركة مترو جولدن ماير الشهيرة مقابل مبلغ كبير عام 1937. شجعه هذا على كتابة رواية «حب إمبراطور المال الأخير»، التي نُشرت بعد وفاته. وفي عام 1939، أنهت الشركة عقدها معه، فبدأ يعمل ككاتب سيناريو حُر وأنجز مشروع فيلم «كرنفال الشتاء»، وعاد إلى إدمان الخمر من جديد جراء الضغوط النفسية الهائلة التي تعرض لها، كما أُصيب بعدة أزمات قلبية. وفي آخر شهور حياته، كتب مجموعة قصصية بعنوان «هواية الخفاش»، بطلها كان نجماً سينمائياً كبيراً في الأفلام الصامتة، إلا أن الزمن تغير وخفت نجمه وأصبح لا يجد عملاً، فكان يتسكع حول استوديوهات هوليوود بحثاً عن أي دور.

ورغم أن القصص ذات طابع كوميدي إلى حد ما، إلا أنها تعكس حزن فيتزجيرالد على حاله، وما أصابه من تدهور جعله يكاد يتسول العمل في نهاية حياته، ويتحسر على أيام المجد الغابر. وفي 21 ديسمبر/كانون الأول 1940، توفي إثر أزمة قلبية، وانتهت حياة لا تقل إثارة ودراما عن أعماله الأدبية الخالدة. ومن المُفارقات المُحزنة أنه مات وهو على قناعة بأنه كاتب فاشل، إذ لم يُدرك حجم النجاح المادي والأدبي الذي حققته أعماله بعد وفاته.

لقد كان كاتباً موهوباً من الطراز الأول وقيمة إبداعية كبيرة، إلا أنه أهدر الكثير من الفرص وأصبح ضحية الإسراف والبذخ. لم يُنصت إلى نصيحة أصدقائه المُقربين؛ خاصة إرنست هينمجواي بالابتعاد عن الخمر وحياة الترف من أجل إنجاز مشروعه الأدبي، فكانت النتيجة هي أزمات مالية متواصلة ومشروعات قصصية وروائية مُجهضة. رغم هذا، يظل فيتزجيرالد أحد أهم كتّاب الولايات المتحدة في القرن العشرين، وأكثرهم تأثيراً في جيله والأجيال التالية، وظلت أعماله تتصدر قائمة الأكثر مبيعاً منذ وفاته حتى مطلع القرن الحادي والعشرين، كما تدرّس «جاتسبي العظيم» في جميع المدارس الثانوية الأمريكية. ومن المُفارقات، أن الرواية التي تم استقبالها بفتور في حياته، تُعد الآن واحدة من أهم الروايات في تاريخ الأدب.

______
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *