*هيثم حسين
يسجّل للمفكّر صادق جلال العظم تحقيقه السبق في عدد من المواضيع والقضايا التي تناولها وعالجها في كتبه، وكان رائداً في العالم العربيّ في مقارباته الفكريّة الفلسفيّة، وكشفه عن بعض مكامن الخلل والعلل التي استوطنت الوعي الجمعيّ بطريقة النقل من دون مساءلة للتاريخ ولا إعمال للعقل في مواجهة تلك الأمور والأفكار والقضايا التي كانت تعدّ من المسلّمات التي يجب الإيمان بها والبناء عليها.
تصدّى العظم لتفكيك “ذهنية التحريم” في وقت كانت حمّى الشعارات تعمي كثيرين، نقد الفكر الدينيّ المتحجّر الذي يحاول فرض قيود على الفكر الحرّ، أثار العديد من الأسئلة التي حرّضت النزوع للبحث لدى القارئ والمتلقّي وحفّزته للخروج من القوقعة التي يسعى أولئك الذين نصّبوا أنفسهم سدَنة للتراث أو الدين أو الفكر لفرضها على الناس بذرائع شتّى.
يعدّ الحبّ من أهمّ القضايا الإنسانيّة الحاضرة في اهتمامات الأدباء والمفكّرين وأعمالهم، كما يعدّ من أكثر المواضيع الشعريّة في التراث الشعريّ العربيّ، ونظراً لما يحيط به من التباس لا يني يتجدّد مع التفسير والتأويل والاستعارة والكناية والتورية التي يكفلها الشعر للشاعر، ويعفيه من أيّ مساءلة أو استجواب، ونظراً للانسياق وراء مقولة “يجوز للشعراء ما لا يجوز لغيرهم”، وكيف أنّ هذا الجواز أصبح بالتراكم حقّاً مؤصّلاً ينبغي عدم السؤال عنه ولا مناقشة صاحبه في ما يقول، ولربّما في ما يفعل أيضاً قياساً على الإجازة الممنوحة له من جهة مجهولة باسم الشعر، مع السماح أو التغاضي للتأثير في الحياة والشغب فيها كما يحلو له، أدلى صادق جلال العظم في كتابه “في الحبّ والحبّ العذريّ” الذي نشره سنة 1968 بدوله الصادم في مسألة كانت تعدّ من البديهيّات في ذهن كثيرين.
سعى العظم في عمله إلى نوع من التحليل للخطاب الشعريّ والسلوك المرافق، وكيف أنّ الشعراء الذين استماتوا في قصائدهم بمعشوقاتهم كانوا يخوضون في ملعب الجنس والشهوة ويروون نداء الجسد وضغطه في سياق مختلف، ويبقون الحبّ في سياق القصيدة والاستشعار، وكيف أنّ ذلك كان يشكّل نقطة افتراق بين القول والفعل، بين الحقيقة والواقع، بين الصدق والكذب، ولربّما كان في القول بأنّ “أعذب الشعر أكذبه” إجازة من زاوية أخرى للشعراء كي يستعيروا صور الحبّ ويسبغوا عليها التعفّف والعذريّة بحثاً عن طهارة منشودة، أو تطهّر من واقع الممارسة بعينه.
نوّه العظم في مقدّمة كتابه إلى الإشكالية التي تظلّ مصاحبة لأيّة مقاربة لمفهوم الحبّ نظراً لاتّساعه وغناه وانفتاحه على الحياة، وحدّد مجال تحرّكه ومقاربته، وأشار إلى نقطة مهمّة تتمثّل في أنّ كلّ امرئ يعتقد في نفسه الكفاءة والجدارة والخبرة للإدلاء بدلوه في الحبّ انطلاقاً من خبرته وتجربته التي قد يسعى لتعميمها. كتب العظم معبّراً عن توقّعه وقراءته لتلقّي بعضهم لعمله: “.. أعلم أنّه لابدّ لمن يكتب عن ظاهرة الحب من أن يلقى حساباً عسيراً من القرّاء، والمستمعين كافّة، لأنّ ما من إنسان إلّا ويعدّ نفسه خبيراً في موضوع الحبّ، مطّلعاً على تفاصيله ومخوّلاً لأن يبدي الرأي حوله ويطلق الأحكام (النقدية والمؤيدة والمجحفة..) على آراء الآخرين فيه..”. وتراه ينوّه في موضه آخر من كتابه قائلاً: “إنّ عدّ الحبّ العذريّ ظاهرة مرضيّة في أساسها لا يعني بأنّنا نريد الحطّ من شأنه التاريخيّ أو الإنزال من أهمّيّة الأدب الذي نتج حوله وبسببه”.
درس العظم جوانب مما يوصف باشتداد الحب واستعار المشاعر واحتدام العواطف والأحاسيس، كأنّه كان يصوّر حرباً دائرة داخل المرء نفسه، وبينه وبينه محبوبه بطريقة ما، على طريقة نيران صديقة أو مجابهة في ميدان التجييش العاطفيّ، ذاك المتجسّد في جانب منه في تسعير الرغبة الجنسيّة، أو بحثاً عن الوصال الجسديّ، ثم مزاعم التسامي ونُشدان العذريّة في القصيدة.
الشاعر نزار قبّاني الذي كان قد نشر مجموعته “الرسم بالكلمات” سنة 1966 وفيها قصيدته “ماذا أقول له” التي غنّتها المطربة نجاة الصغيرة، والتي ينشد في أحد أبياتها: “الحبّ في الأرض بعض من تخيّلنا.. لو لم نجده عليها لاخترعناه” وجد في كتاب العظم تقاطعاً فلسفياً مع فكرته عن وهم الحبّ أو ضرورة اختراعه لضمان استمرار وهم العيش أو خدعته بمعنى ما، وأشاد بالكتاب في نصّ تمهيديّ قائلاً: “قبل هذا الكتاب، كان العشّاق العذريّون في تصوّرنا أنقياء كالملائكة، معصومين كالقدّيسين. ويأتي صادق جلال العظم في هذا الكتاب ليمزّق القناع عن وجوه العشّاق العذريّين، وليكشف بالمنطق والفكر الفلسفيّ العميق أنّهم كانوا في حقيقتهم نرجسيّين وشهوانيّين..”.
لم يفكّك العظم وهم الحبّ بقدر تشريحه لبنية الإيهام المصاحبة لذاك الموصوف بالحبّ والمقنّع بأقنعة العذريّة التي أصبحت في سياق التداول صفة ممدوحة لذاتها أكثر من النسبة لقبيلة، واتّسعت لتشمل قبائل العشّاق من كلّ زمان ومكان، واستمرّت بنوع من التجديد والمعاصرة لترمز إلى الغائب المأمول في الحبّ، أو ذاك الذي يظلّ بمنأى عن القبض والإحاطة.
كان كتاب العظم صدمة في زمنه، ويظلّ صادماً لأولئك الواهمين الذين لا يفصلون بين المشاعر والغرائز، وينساقون وراء تغليف الشهوة من خلال تقنيعها بأقنعة سرابيّة أو خلّبيّة في محاولة للتضليل؛ تضليل أنفسهم قبل غيرهم، والتحايل على الواقع والقوى الدافعة لسلك درب بعينه دون سواه..
أربك العظم في عمله وبحثه العشّاق الدونكيشوتيين، وضع الشعر في سياقه التاريخيّ وربط بين الشاعر وشعره ليظهر الهوّة بين الحيلة والوسيلة، تبحّر في التراث ليستخرج العبر والحكم والأسئلة الدافعة على التفكير خارج أطر التقديس والتوثين، درس التاريخ والتراث في ضوء الدراسات والنظريات الفلسفية الغربية التي كان مطّلعاً عليها، وكان في صدمته الواعية للقارئ محرّضاً له على التفكير ومحفّزاً على البحث والتنقيب.
______
*المدن