*لطفية الدليمي القسم الثاني
ظلت إشكالية افتقاد العراقيين لصورة رومانسية علوية للعراق واحدة من الإشكاليات العظمى التي تداعب مخيلتي وتأبى التراجع أو الانكفاء منذ ستينات القرن الماضي الذي تشكّلت معه بواكير توقي للكتابة الإبداعية ، وكان من تأثير هذه الإشكالية عليّ أنني أفردت مساحة غير قليلة من قراءاتي لدراسة هذه الظاهرة : قرأت معظم كتابات السوسيولوجيين والمؤرخين العراقيين ، وانغمرت في الكتابات التي تختص بدراسة الأدب الرافديني وتراثه العظيم ، ثم قيضّ لي أن أقرأ لاحقاً كتاب ( حنا بطاطو ) عن العراق بأجزائه الثلاثة ، وانتهى بي المطاف آخر الأمر بقراءة كتاب المؤلف البريطاني ( توبي دوج Toby Dodge ) الموسوم ( اختراع العراق : فشل بناء الأمة – الدولة وإنكار التأريخ ) الصادر باللغة الإنكليزية عن جامعة كولومبيا الأمريكية المرموقة عام 2003 فما كانت قراءاتي تلك لتعينني على بلوغ إجابة معقولة لسؤالي الإشكالي .
يبدو لي أن ثمة قطيعة حضارية وثقافية مع الحضارة الرافدينية هي السبب المباشر والجوهري وراء إشكالية التعامل مع العراق باعتباره ( خزانة نقود ) تطعم الحكّام والمحكومين ، وربما سمع الكثير منّا عن الترنيمة السخيفة التي تقول بأن العراق دولة مصطنعة صنعها مقص الكولونيالية البريطانية في طورها الإمبراطوري ، وهنا ينبغي القول أن كل الدول هي صناعة ولامجال للحديث عن دولة خلقت منذ الأزل بحدودها الحاضرة وتركيبتها السكانية الموجودة على أرض الواقع .
إنها القطيعة الحضارية والثقافية إذن ، وينبغي أن نكون شجعاناً ولانداري الأمر بفذلكات لغوية أو حماسية جرياً على العادة العراقية السائدة في فض النزاعات عن طريق ( تبويس اللحى ) : لاأظن أن مصرياً يقف أمام الأهرامات دون أن يتملكه الانتشاء بعظمة هذه الإنشاءات العبقرية والتغني بأسماء الفراعنة ( خوفو ) و ( خفرع ) و ( منقرع ) حتى لو بدت غريبة على الأذن المصرية ، ولكن أغلب العراقيين لايعرفون اسماً من أسلافهم سوى ( حمورابي ) الذي يقترن في العادة مع الحزم والشدة وصرامة القانون ، ولكن هل عرفنا كيف نصنع له تمثالاً شبيهاً بتماثيل الأهرامات المصرية التي يقتنيها السيّاح ويأتون بها هدايا لأصدقائهم وحينها نكون قد خلّدنا ( حمورابي ) من جهة وجعلناه تجارة مشروعة تعيل الكثير من الحرفيين الذين اندثر ذكرهم مع اندثار صناعتهم اليدوية.
قرأت مرة في سبعينات أو ثمانينات القرن الماضي موضوعاً رائعاً نشره البروفسور المرحوم ( جميل الملائكة ) في مجلة ( آفاق عربية ) تحت عنوان ( روائع الإنجازات الهيدروليكية في العراق القديم ) وكان يحكي فيه بالتفصيل عن قناة (سنحاريب) الإروائية التي أنشِئت في عهد المملكة الآشورية ، وقد أفاض الرجل في بيان أوجه العبقرية فيها إلى حدّ توقعت معه أن يصبح اسم (سنحاريب) علماً شامخاً بين الأسماء ، وكرّت الأيام يوماً بعد يوم وتناسى الجميع أمر المشروع الإروائي العبقري ولم يتحدث عنه أحد حتى ولو ببرنامج تلفزيوني يتيم !! .
أقول بوضوح تام وحاسم : ثمة شيزوفرينيا حضارية وثقافية تلبّست (أغلب وليس كلّ) العراقيين نتيجة التثقيف الرسمي والشعبي والمناهج الدراسية المبتورة التي جعلتهم يتناسون الحضارات الرافدينية العظيمة ؛ فتحوّلوا كائنات هشة ريعية تعتاش على الدولة المسكونة بخرافة اللون الحضاري الواحد الأوحد – ذلك اللون الذي يرى العراق محض أهازيج حماسية موسمية تبدأ عند محل شربت ( الحاج زبالة ) وتنتهي عند مخبز ( باب الآغا )!!
_________
*المدى