القسم الأول
تصادفنا كثيراً في الفضاء الإلكتروني تعليقات حانقة لأشخاص يصبون حمم غضبهم صباً على العراق ويتفاخرون بإعلان قطيعتهم الوجدانية والمعرفية معه ، وقد يندفع البعض أحياناً في مظاهر متطرفة فيمزقون جوازاتهم العراقية أمام شاشات التلفاز ويجاهرون برغبتهم في الانضواء تحت خيمة أي بلد (الصومال وجيبوتي في رأس القائمة دوماً !! ) ، ولايتردد بعضهم في صب اللعنات مثل سيلٍ من الصهير البركانيّ على رأس العراق واعتباره بلداً مسكوناً بشبه لعنة أزلية متوارثة لن تنفع معها كل حذلقات المطبّبين وألاعيب الساسة. في الجهة المقابلة لمسار التطرف هذا نجد من يتغزل بالعراق غزلاً فلكلورياً مقترناً بأطايب الطعام (الدولمة والسمك المسكوف مثالان حتميان دوماً) وبشربت الحاج زبالة وكعك السيد والجبن المثوّم والكاهي والقيمر والصمون الحار وشاي العصرونيات .
الحق أننا أمام معضلة أنثروبولوجية – سوسيولوجية – تأريخية – سايكولوجية مركّبة لطالما لامست وجداني وتفكيري طوال سنوات كثيرة منذ بدء نشاطي الكتابي وحتى يومنا الحاضر ، ولطالما حاولت إيجاد نظائر للحالة العراقية شديدة التطرف لكني عجزت في مسعاي .
يحضرني في هذا المقام مثال كنت سمعته من صديق لي في العراق أخبرني أن صديقاً مصرياً دعاه يوماً لزيارته في غرفته الصغيرة بمنطقة البتاويين البغدادية المعروفة حيث كانت تقيم أعداد هائلة من العمالة المصرية في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي ، وقد لفتت نظره عبارة (مصر أم الدنيا) منقوشة في غير مكان على الجدران العتيقة للغرفة . يمضي صديقي فيقول سألت المصري عن السر وراء هذه العبارات الكثيرة التي تعلي شأن مصر وتجعلها أم الدنيا فقال : مصر ليست أم الدنيا فحسب ، بل هي أمها وأبوها أيضاً !! الغريب أن العامل المصري كان أقرب إلى الفقر المدقع عندما كان في مصر ، لكن فقره هذا لم يدفعه ليمطر مصر باللعنات ويعتبرها مسؤولة عن فقره وسوء طالعه في الحياة بل ظل يعتبرها (أم الدنيا) في فقره مثلما ظلت هي (أم الدنيا) عندما لاحته بوادر بحبوحة اقتصادية بعد عمله في العراق .
بالنسبة لي، انتهيتُ إلى النتيجة التالية : لم يشكل (العراق) يوماً في المخيال الشعبي العراقي فكرة ميتافيزيقية متعالية متسمة بالرومانسية والعلوية والقدرة على شد المشاعر وجذبها وتصويبها نحو أهداف راقية محددة السمات ، بل على العكس ظل (العراق) مفردة تتنازعها التوجهات الفلكلورية الفردية المتطرفة التي تمضي أقصى اليمين او أقصى اليسار تبعاً لمزاج الفرد العراقي المعروف بآنيّته وتطرفه اللحظوي حسب ظروف لحظته الراهنة . وهنا قد يجادل البعض حتماً أن ظروف عدم الاستقرار السياسي والإرباكات الاقتصادية المزمنة ساهمت في تعطيل النظر إلى (العراق) كفكرة علوية في المخيال الشعبي غير قابلة لجرّها إلى جحيم الحالة الراهنة ، وهذا أمر صائب بالطبع غير أن العراقيين لم يكونوا وحيدين في معاناتهم هذه (وإن كانوا الأكثر معاناة ) ؛ فكم عانى المصريون مثلاً من شظف العيش وكم خرجوا متظاهرين ضد حكوماتهم وكم عانى الفلسطينيون من احتلال وطن وفساد أنظمة لكن أحداً منهم لم يصبّ جام غضبه على وطنه ويعلن تخليه عن هويته .
هل ثمة جواب لهذه التساؤلات يمكن العثور عليه بالدراسة المدققة لطبيعة صناعة العراق على يد الكولونيالية البريطانية ؟ هل يمكن أن نعثر لإجابة مقبولة مطمورة بين الوثائق في خزائن بريطانيا العظمى ، أم الأفضل دراسة الموروثات الرافدينية بعين تنقيبية جديدة على ضوء المستجدات في الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا الثقافية ؟
يتبع
_______
*المدى
مرتبط
إقرأ أيضاً
لطفية الدليمي*عبد الزهرة زكي(السعادة بميلاد رواية جديدة، هي السعادة باكتشاف كوكب آخر.. دمت صانعة الكواكب الأجمل).كان…
-
لطفية الدليمي*د. حسن مدن في منتصف التسعينات الماضية، كان العراق مخنوقاً بالحصار الجائر الذي فرض على…
البحث عن المغامرةجان ماري لوكليزيو* / ترجمة عن الفرنسية : د. محمد قصيباتخاص ( ثقافات ) يسقط…