شبح سيوران يتجوّل في «تاريخ ويوتوبيا»

*علاء الدين محمود

نقاش يقود إلى المزيد، وأسئلة تفتح مزيداً من العصف المجنون الذي يلامس كنه الأشياء، لا غرابة للأشياء التي تدهشنا نحن، فهي ذات أصل في دواخلنا، تصبح معها الدهشة كأنها منزوعة المنطق، أو مصطنعة نوع ما، هذا ما يفعله الفيلسوف الروماني إميل سيوران، الذي يثير الكثير من القضايا، لا يسعى لإيجاد نهاية أو حلول بقدر ما أن الهدف هو هذا العصف نفسه والعرض الذي يشمل كل شيء، ليضعك أمام عوالم من المفارقات، أو ما يسمى بطرح الشيء ونقيضه، هذا ما فعله في مؤلفه «غواية الوجود»، أو في «مثالب الولادة»، بل نلمح ونرى في كل مؤلفاته تفكيراً فلسفياً جهة الوجود لا يسعى إلى نظرية، أو فكرة محددة، لكنه يجعل الإنسان في مواجهة قضايا الوجود، وخلف اللغة الشعرية تكمن عاصفة من الأسئلة، وطرح مختلف لقضايا الفلسفة، لذلك تبدو لغموضها وكأنها نصوص منغلقة، لكن يبدو أن معاشرة هذه الكلمات لسيوران ستقود لا محالة إلى فتح تلك المغاليق نحو الانفتاح على المعاني الراهنة، وفي حالة انفتاح النصوص السيورانية، سنكتشف أننا قد وضعنا يدنا على مفتاح جيد لفهم القضايا المعاصرة.

يرتدي سيوران إميل (1911 – 1995)، في هذا المؤلف «تاريخ ويوتوبيا»، الصادر عن دار الجمل، والذي قام بترجمته آدم فتحي، ثوب الشاعر والفيلسوف والباحث في أعماق التاريخ، ليأتي الكتاب أكثر نضجاً، غير أن الغموض الذي يلف كثيراً من نصوص سيوران له ما يبرره جهة النشأة والظروف المحيطة في زمان الشموليات، ولأن النقاد قد درجوا على أخذ الجملة الأخيرة من كل كتاب، أو على تصيد ما يظنونه نقاط ضعف في النظم الفلسفية، فقد سارعوا إلى وصفه بفيلسوف العدم، دون النظر إلى ذلك المحيط الذي شكل نوعاً معيناً للكتابة، ودون الانتباه إلى السياق الذي جاءت فيه نصوص سيوران عقب البنى والأشكال التقليدية للفكر الغربي، لقد كان انفصاماً كبيراً مع السرديات والمحكيات الكبرى، لينفتح الطريق أمام فلسفة أخذت ذلك الطابع وتعود في تأثيرها في غالبها إلى نصوص الفيلسوف الكبير فريدريك نيتشه، وهذا الأثر يتجذر عميقا في نصوص سيوران وكثير من الفلاسفة المعاصرين، هذا ما سنلمحه في «رسالة إلى صديق بعيد»، وهو عنوان الفصل الأول من الكتاب، غير أن الأساليب التعبيرية تأخذ منحاً آخر عند سيوران عندما يطلق العنان للتكثيف الفلسفي الشاعري، في كتاباته فهو يحدث مزاوجة بين الفلسفة والشعر، لتكون النتيجة نصوصاً مختلفة، ممتعة وغامضة وساخرة وحزينة وربما كذلك متشائمة، فسيوران يمارس قدراً كبيراً من السخرية، من كل شيء، وعلى وجه الخصوص من فكرة الحياة، من أوجاعها وعبثيتها وبالتالي من فكرة الموت، لقد عاش بائساً وللمفارقة مات كبيراً في السن، وكأن الحياة تقول له:«أنا ثمرة كبيرة ومرة، ليس عليك فقط أن تتذوقني، لا بل أن تأكلني بالكامل»!، ولكأنها تمارس انتقاماً ملعوناً من تلك السخرية وذلك الذم الذي مارسه حيالها سيوران، ولئن كشفت لنا هذه النصوص الموجعة والمؤجلة في كتاباته عن شاعر وفيلسوف فالذي لم ننتبه إليه هو ذلك الروائي العظيم الخارق لعادات السرد، أو فلنقل هو مبدع جنس جديد يجمع بين كل ذلك، متحرراً من اثقال التصنيف، لشابه ذلك موقفه في الحياة ومنها، ذلك الرافض لكل سلطة، لينتقل هذا الجنس الإبداعي الأدبي كالعدوى نحو نصوص فلاسفة ومفكرين تأثروا بهذه الأسلوبية البديعة، وذلك ليس غريباً على سيوران الذي طالما صرح بتفضيله أن يكون مؤلف أوبريت على أن يكون صاحب مؤلفات في لغة غير مفهومة، في إشارة لحبه للموسيقى والشعر، وربما أن هذه الأسلوبية التي يكتب بها تعني أن سيوران قد حسم أمره، لتأتي هذه الأسلوبية الموظفة في نصوصه الفلسفية، وهو لا يكتفي بذلك بل يصب جام غضبه على التصنيفات ليحكم بوهن كل النظريات الخاصة بالأجناس الأدبية، لذلك فهو يتحرر منها.

في مقدمة النسخة العربية للكتاب نقف أمام كلمات باذخات اقتفت آثار المفكر الفيلسوف الأديب، الذي عاش فرنسياً وتحدث باللغة الفرنسية وكتب بها، ذلك العابر للهويات والمثير لأسئلتها، والناشد لهوية إنسانية واحدة، لتنبهنا إلى تلك اللحظة الفريدة في نصوص سيوران، باعتبارها حدثاً مختلفاً في تاريخ الأدب الفرنسي، وصولاً إلى اعتبار «تاريخ ويوتوبيا»، حدثا داخل حدث، إذ إنه الكتاب الذي يجنح بعيداً، يحلق ليصبح راهناً اليوم، إذ إنه يحمل فكر ما بعد الوفاة، بحسب تعبير نيتشه، لقد جاء ليملأ الفراغ الناتج عن الموت البيولوجي للمؤلف، وصمته الإبداعي، وهذه هي نفسها القيمة التي جعلت نيتشه راهناً ومعاصراً جداً، فهي نصوص لا تتوفر عند كل فيلسوف ومفكر، تلك التي تفصح عن نفسها على الدوام، لتعلن حياة المؤلف في كل مرة، هو حي لكوننا نتعايش مع نصوصه الحية، تلك التي تثير ذات الإشكالات، لا تدعي أنها تحمل حلولاً، لكنها تحرض على التفكير على نحو حيوي، وكأن روح المؤلف قد انتقلت لتجول كشبح بين نصوص كتاباته، لتشكل معيناً في استكشاف متاهات الحياة.

الكتاب يضعنا بشكل مباشر أمام قضايا عصرنا، يثير ذات الأسئلة التي تحتشد بها بطون المؤلفات المعاصرة، وربما ذلك ما دفع مقدم النسخة العربية إلى ذكر أن «تاريخ ويوتوبيا» أكبر كتب سيوران نظاماً ونسقية في بنيته الفكرية والأسلوبية، يناقش القضايا غير المحسومة، وهي القضايا الراهنة جداً هي قضايا علاقتنا مع التاريخ، تاريخنا، في تبلوره وسيره جنباً إلى جنب مع اليوتوبيا، أي أحلامنا وكوابيسنا معاً، التي ما استطعنا بعد رؤيتها بشيء من التروي والنضج في الفكر والقول والعمل على حد سواء، ويحرض كاتب المقدمة على ضرورة أخذ الكتاب بقوة، وقراءته بالطريقة المنهجية التي يستحق، فالمقدمة هنا تشير إلى مسألة في غاية الأهمية وهي التحرر الذي يحمله سيوران كونه ليس أكاديمياً منغلقاً، بل إن أهميته واختلافه يكمنان في هذا الانفلات الواعي على المستوى الأسلوبي، إذ إن أسلوبه ليس أكاديمياً أو جامعياً، فهو يرفض الخضوع للمصطلحات والأنساق الفلسفية والفكرية والعلمية السائدة، هنا نلمح ذلك التحرر العظيم من تلك الأثقال الأكاديمية، من تلك الحمولة التي قد تقسم ظهر النص، فليس هنالك أثقل من التقاليد.

355

ينقسم الكتاب إلى ستة نصوص هي«في صنفين من المجتمعات رسالة إلى صديق بعيد»، «روسيا أو فايروس الحرية»، «في مدرسة الطغاة»، «أوديسا الضغينة»، «ميكانيزمات اليوتوبيا»، و«العصر الذهبي»، وفي نص «رسالة إلى صديق بعيد»، نتعرف إلى مزيد من المفاهيم والأسئلة المؤرقة للكاتب، في نصوص رسالة وجهها إلى الفيلسوف الروماني كونستنتين نويكا، والذي تعرض للسجن إبان فترة حكم النظام الشيوعي.
في النص المعنون ب«روسيا وفايروس الحرية»، يقدم لنا الكتاب التجربة الروسية، مستوحياً منها مفهوماً للحرية يرى فيها أن الحرية تحتاج إلى فراغ كي تظهر، ويرى أن مطامع روسيا في الانتقال إلى الهيمنة الواضحة ليست مبنية على فراغ، فهي قد ظلت خارج التاريخ طوال قرنين، ولو أتيح لها أن تتطور من دون معوقات لأمكن لها أن تصبح قوى عظمى، فهي سعت أن تثبت ذاتها منذ تبنيها للأرثوذوكسية، وأن الماركسية سعت إلى إبعادها عن وعيها بجذورها، وبينما كانت الشعوب الغربية تنهك نفسها في صراعها من أجل الحرية، كان الشعب الروسي يتألم دون أن يجهد نفسه، ويخلص إلى أن الجذور الروسية ستقود الشعب الروسي نحو الخلاص، فقط عليها في سبيل الحرية أن تفقد حيويتها وتنسلخ من قوميتها في العمق لكي تتأقلم مع الحرية.

يقودنا الكتاب في نص «مدرسة الطغاة»، إلى شرح تلك العلاقة الغريبة بين الشعب وجلاده، فالطاغية يصنع من خلال الرضوخ الذي يمارسه الشعب ودوره في صناعة الإمبراطوريات والديكتاتوريات، فالشعب يمتلك علامة عبودية بداخله، تستجيب للهيمنة ولرغبات الطغاة، وكذلك السيد أو الطاغية من ناحيته فهو مولع بالعفونة والجيف، «السيد الذي نحن في انتظاره مرتاعين لن يكون تحديداً، إلا مولعاً بالعفونة، ولن نظهر جميعا في حضرته إلا بمظهر الجيف، فليأت ليشممنا، وليتمرغ في عطننا»، فالظلم الذي يسود العالم لم ينتج إلا عن قابلية له وسط البشر، فهم يحبون دور الضحية، ولو كفَّ عن لعب دوره كضحية، لتبخر المجتمع البشري، ولتبخر التاريخ، فهذه هي طبيعة الأشياء في ثنائية عبد وسيد، ويتبع سيوران بأسلوبية ساخرة ولاذعة، شرح هذه العلاقة.

يحمل النص الرابع من الكتاب عنوان «أوديسا الضغينة»، يعرض فيه سيوران تلك الأفكار الانتقامية الشريرة التي تسيطر على البشر الذين يقضون الشطر الأكبر من ليلهم سهارى يتخيلون أنهم يقطعون أوصال أعدائهم، ينتزعون أعينهم وأحشاءهم، هو يشير هنا إلى هذه النزعات الشريرة عند البشر، ويرجع ذلك إلى التسامح، فعدم الانتقام يعني أن يكبل البشر أنفسهم في فكرة العفو، بالتالي يصبحون مدنسين بالحقد المكبوت فيهم، ويصبح العدو مصدر وسواسهم واضطرابهم، خاصة في حالة أن قرروا الكف عن كراهيته، إن الحاجة إلى الجريمة مطبوعة في دمنا، وقد نجحنا في جعلها تفصح عن نفسها من خلال أفكارنا، ونرى هنا كيف أن هذا النص يضعنا مباشرة مع أعماق خبايا أنفسنا، هذه هي لعبة سيوران المفضلة، إذ يجعلنا في مواجهة شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.
يتوقف الكتاب عند الحاجة لليوتوبيا في النص الخامس المعنون ب«ميكانيزمات اليوتوبيا»، هذه الحاجة لا شك تستوجبها هذه البغضاء والتشاحن والتباغض بين بني البشر حد الموت، حقيقة المجتمع هذه تقود البعض إلى البحث في تصور مجتمع آخر مختلف مثالي، فكل مجتمع عاجز عن انجاب يوتوبيا وتكريس نفسه لها هو مجتمع يتهدده التيبس والخراب.

يحمل لنا الكتاب فكرة التوق الإنساني للمستحيل في النص السادس والأخير من الكتاب، والذي يحمل عنوان «العصر الذهبي»، هو هذيان بمرحلة العصر الذهبي، يحرك البشر فيه الانبهار بالمستحيل، في ظل تمادي العصر الحديدي في التاريخ، هذا الهذيان الذي لا بد منه وإلا لتجمد البشر تماماً، فصورة العصر الذهبي لا تختلف في شيء عن جنة عدن، هو نقيض المعاناة والعذاب البشري.
متعة كبيرة يحتويها الكتاب، الذي حمل أسلوبية مفارقة تضع بين يديك النصوص الفلسفية الغامضة في قالب شعري نثري روائي، هو عمل أدبي يفكك الأشياء بعرضها ليحتبس الموقف عنها ولا ينفتح إلا من خلال مزيد من الاستكشاف، فسيوران هنا في «تاريخ ويتوبيا»، لا يقدم موقفاً شخصياً يحمل الكثير من الادعاء، بل يعرض الأشياء في غموضها ويكشف عن المفارقات المحيطة بها.
____
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *