كتاب «ما وراء الكتابة» لإبراهيم عبدالمجيد

*ليلى البلوشية

الروائي المصري «إبراهيم عبدالمجيد» حين تقابله شخصيا ستشعر بأنك أمام كائن روائي مركب وكثيف كغنى شخصياته في رواياته، شخصية حكائية انفلتت من كتاب تداخل واقعه بالخيال، فلا تكاد تميّز هذا الواقع من الخيال، بل هو أقرب ما يتجسد في الواقعية السحرية، إنه ببساطة مطلقة حكّاء عظيم، دائم الابتسام، روحه المرحة وظرافة ما يدلقه من حكايات يجعل منك مُنصِتا دائم الابتسام والضحكة لا تفارق محياك مهما كابدت من أهوال الحياة، لقد تأصّل الأدب في كيانه الإنساني وصار فنّا لصيقا لكل تفاصيل حياته بل يمكن اختصار كيانه بأنه إنسان (يتّمتع برفقة نفسه) كما كنت أحب شخصيا أن ألقبّه حين التقيته لأول مرة في إحدى المناسبات الثقافية في الإمارات، إنه لا يتعاطى مع الآخرين ككاتب بل كإنسان، لا يتعاطى مع الكتاب الشباب بالغرور أو بالتسفيه بل يحتوي روح الشباب بروح شباب مماثلة زاخمة النبل والتواضع، ولقد تجلّت روح الشبابية في كتاباته، فهو كاتب يكتب منذ أكثر من أربعين عاما غير أنه لم يتشبّث بالكلاسيكية في الكتابة بل في كل كتابة كان يطرحها كان يعزّز مفهوم الحداثة والمعاصرة والتجريب ما يتوافق مع روح التجديد وروح العصر الذي يعي تماما تطوّر أدواته.
لم ينحز الروائي «إبراهيم عبدالمجيد» إلى كتابة سيرته الذاتية حتى الآن، بل اختار أن يقدّم للقارئ كتابا آخر ذات صلة وثيقة بالكتابة نفسها وبحكاياتها، من هنا ولد كتابه «ما وراء الكتابة» مع عنوان فرعي «تجربتي في الكتابة»، ولعلها المرة الأولى التي يتصدر كتاب كهذا قوائم الكتب العربية حيث سبقه الغرب بتصدير هذه الأنواع من الكتب التي تعرض تجاربها مع الكتابة الروائية ككتاب «نزهات في غابة السرد» للروائي الإيطالي «أمبرتو إيكو» و«رسائل إلى روائي شاب» للروائي البيروفي «ماريو بارجاس يوسا، والروائي التركي» أورهان باموق «في كتابة» الروائي الساذج والحساس» وغيرها..
أما كتاب «ما وراء الكتابة» للروائي «إبراهيم عبد المجيد» الذي صدر عن الدار المصرية اللبنانية في طبعتين 2014 و2015 م ونال في عام 2016م جائزة الشيخ زايد في دورتها العاشرة عن فرع الآداب، هو الكتاب الأول من نوعه عربيّا عن السيرة الروائية، حديث شائق واعترافي بتجربته في كتابة مجموع رواياته، عادة لا يعترف كثير من الكتاب بهذه التجربة بل يفضّل كثيرون إضفاء نوع من السريّة على طقوسهم وحفظ حدودها عن الآخرين، لكن الأمر اختلف تماما مع الروائي «ابراهيم عبدالمجيد»، فهو يبوح بأسرار مهنته الكتابية بكل شفافية، بصعوباتها وأزماتها، بأفراحها وأتراحها، كل المتضادات مشتملة، وقد اعترف في مقدمة كتابه بأهمية هذه الخطوة في حياته قائلا: «وأنا شخصيّا أحببت أن أكتب في هذا الموضوع…، ربما أردت أن أستعيد حالات الحوار الروحي الخاص جدا بي ككاتب وكيف استطعت أن أتغلب على مشكلات الكتابة والقضايا الجمالية التي شغلتني، كذلك أجواء الحياة ذلك الوقت أو وقت الكتابة».
ومن خلال الاسترسال في قراءة الكتاب الفريد من نوعه والذي اقتسم إلى أربعة أقسام، كل قسم منها يتناول روايات في حيّز زمني ممتد على طول سنوات كتابته للروايات، بينما المكان فإنه يتراوح بين مكانين، الجزء الأكبر منه في الإسكندرية حيث ولد الكاتب وترعرع وجاءت رواياته في ثلاثية الإسكندرية مرآة لها، بينما الجزء الآخر منه فكان في القاهرة التي على الرغم من تناولها في رواياته إلا أنها أبدا تشعره بالغربة على عكس الاسكندرية التي يجري ماؤها الفياض في دمه وقلبه، هنا يتبدى مدى روحانية مهبط الولادة في حياة كل انسان سواء كان كاتبا أو أي شخص آخر، وهذا يذكّرنا بالمفكّر «إدوارد سعيد» الذي تناول بدوره القاهرة والاسكندرية في كتابه «مقالات حول المنفى»، وقد أفاض في رواية ذكرياته في القاهرة التي أثثّت سيرته الطفولية حيث ولد، فهي مدينة كانت تشعره دائما بالألفة والدفء على عكس من الاسكندرية التي كلما زارها شعر بوحشة داكنة في روحه.
يكتب الروائي «إبراهيم عبدالمجيد» رواياته وكأن الشخصيات هي التي تُملي عليه، فهو لا يجلس للكتابة إلا حين تكون روحه قد تشبّعت بتفاصيل الحكاية بزمن كاف قبل كتابتها، لذا في لحظة الكتابة كأن الرواية تكتب نفسها بنفسها بتعبير «رولان بارت» حين قال: «الرواية تكتب نفسها بنفسها».
هذا الامتلاء لم يأتِ من القراءة وحدها ولا من سنوات الخبرة فحسب بقدر ما هي امتداد لطفولة ثريّة عاشها الكاتب في فترة طفولته في الإسكندرية، في ظل والده الذي كان موظّفا في سكة الحديد، هناك حيث كان مسكنه في «سكن» عمال السكة الحديد القائم على ترعة المحمودية بين حي كرموز وكفر عشري، هذا المكان ظهر في روايته الأولى «المسافات»، فأبطال الرواية عمال في السكة الحديد وعاشوا في سكنها.
لقد ظهرت تجليات المكان في كل رواياته كما ظهرت تجليات الطفولة بكل عنفوانها وشغفها، فلا يمكن لقارئ الكتاب أن ينسى الطفل إبراهيم الذي كتب رسالة بخط يده إلى الزعيم «جمال عبد الناصر» يطلب منه صورة شخصية للذكرى، لقد نظرت إليه يومها والدته بفخر وفرح بينما والده نقده ثمن طابع البريد بعد أن أملى عليه عنوان الرئاسة ليصل المظروف للرئيس، بعد أسبوع استلم صورة الزعيم بالبدلة العسكرية وبالألوان.
وتتماهى تجليات الطفولة المرحة أيضا حين تحدّث عن تأثير السينما على حياته ورواياته بعد ذلك، حين كان يخرج من روضة الأطفال إلى زحام أمام أحد الأبواب الذي تعلوه إعلانات براقة لرجال ونساء، لقد كان سينما مصر ولأنه كان طفلا وجد نفسه يمشي بين أرجل الكبار ولم يلتفت إليه أحد ولم يكن يعلم شيئا عن تذكرة الدخول، بل جلس حيث جلس الناس مأخوذا بالصور التي تتحرك أمامه، وكان يضحك حين يضحك الكبار ويصفق حين يصفق الكبار، وحين أضيء المكان خرج مع الناس وكأنه خارج من كهف مهجور كما وصف في صفحات الكتاب.
أيضا تتجلى في الكتاب لمسة من نبوءات الكاتب، نتلمّس ذلك في معظم الروايات التي خطها، بدءا بحكاية الهدهد الذي وصفه في إحدى رواياته الأولى عن الصبي الذي يقف بين قضبان الحديد في الخلاء، فيرى هدهدا على الأرض، بعد هذا المشهد مع أولى ساعات الصباح هو الوقت الذي ينتهي منه عادة من رواياته، فيطل منها على شرفة المنزل ليستنشق هواء نقيّا قبل زحمة العالم من حوله، فإذا به يصادف هدهدا يقف على الدرفة كأنه كان ينتظره ..!
تتوالى بعد ذلك المصادفات الغرائبية بل تكاد تكون أقرب لنبوءة عندما ينتهي من كتابة مشهد قبض على بطل مقاوم يحاصره رجال مخابرات مع رائد مسؤول يحملون بنادق صغيرة، المشهد نفسه وفي عتمة الليلة نفسها يقع فيه الكاتب «إبراهيم عبدالمجيد» الذي أصابه الذهول من الموقف حتى أن الرائد المسؤول اندهش عن عدم مقاومته لهم على الرغم من قوّته الجسدية، فعبّر له عن المشهد الملتبس بنبوءة الكمين ما بين الرواية والواقع، وكأنه قد استدعاهم للقبض عليه..!
طوال قراءتي للكتاب انبثقت ببالي عبارة واحدة وهي أن الكاتب لا يخسر أبدا!
فلم تتوالد تلك أفكار وظروف تلكم الروايات عن حياة مريحة أو خالية من أزمات نفسية شديدة القسوة أحيانا فوق تحمّل الروح، لعل من أوجعها حين تعرضت زوجته للسرطان وظل مرافقا لروحها حتى الرمق الأخير، هذه التجارب العنيفة التي تتراكم عبر الزمن، وهي نفسها تغدو مادة عميقة للكتابة وللأدب وللإنسانية أيضا على الرغم من أثقال الذاكرة وهي تجتّر الألم في كل لحظة كتابة.
كتاب «ما وراء الكتابة» هي ليست شهادة في الكتابة عن تجربة روائية تزيد عن أربعين عاما فحسب بل هي أقرب لورشة في أساليب الكتابة وعوالمها الأكثر غرابة ومتعة، كما أنها إضافة مهمة لتاريخ الأدب العربي، لكل روائي، لكل كاتب، لكل قارئ، لصيّادي القصص ومحبّيها أيضا.
_______
*جريدة عُمان

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *