*إلياس فركوح
ليس جديداً الإشارة إلى أنَّ التابوات التقليديّة في الحياة العربيّة، على صعيد السلوك المجتمعي كما في الكتابة، إنْ كانت هذه ذات سِمَة بحثيّة علميّة أكاديميّة، أو ضمن النصوص الأدبيّة؛ أقول: ليس جديداً الإشارة إلى أنها ثلاثة لم يتخلَ “الضمير الجمعي المُعْلَن” عن أيٍّ منها، أو يُسْقِطُ إحداها من مثلثه المقدَّس: السياسة، والجنس، والدين. غير أنَّ هذا “الضمير” يفقد حضوره السلطوي تماماً حين تبدأ تلك التابوات بالتفكك والانحلال، داخل الدوائر والمساحات الاجتماعيّة المنفصلة عن “كُتلتها الهلاميّة” وفي حياة الأفراد، بعيداً عن التصريح والجَهْر بأفعالها (المحسوسة الماديّة عبر إنشائها لعلاقاتها الفعليّة، وما يُتَداوَل من حوارات يحرّكها العقل القلق غير الممتلئ يقيناً، وما ينشأ عن ذلك كلّه من تناغمات هنا وتباينات هناك). يتفكك المثلث، بعناصره المُحَصَّنَة على مستوى التغييب العَلَني والعام، ويتحلل بسببٍ من الأسئلة التي يتعرض لها والناشئة، في أصلها الأوّل، من فقدانه لـ”تماسُك الإقناع وديمومة الصلاحيّة” في زمنٍ خسرت حُجَجُهُ السالفة منطقها؛ إذ أطاحت بها عاصفةٌ من التبدلات الشاملة للعالَم بأسره (ونحن جزءٌ صارخ ودموي وكارثيّ من هذا العالم)، وجعلتها عاريةً في عَين السؤال.
سأكتفي، في هذا المقام المحدود، بالإشارة إلى ما يتوالد ويتوالى من اندياحات عن عنصر الجنس، كأحد وجوه “الضمير الجمعي المُعْلَن” الثلاثة، ومن خلال الأسئلة التي تُطْرَح على الكتابة وما ينتج عنها من نصوص بحثيّة وسرود روائيّة (لا على التعيين) أثارت احتجاجاً لدى الجهات الحارسة للموروث، أو هي تثير الريبة والتحسُّب من التسبب باحتجاج لكونها تعرضت له بنسبةٍ أو بأخرى: بشكلٍ أو بآخـر: بمساحة واسعة داخل المتن أو بمشهدٍ عابر لكنه ناتئ، حتّى وإنْ كان ذلك عبر استعراضه كما تجلّى في تاريخ الأدب! وكان كتاب الباحث المجتهد هيثم سرحان المعنون بـ”خطاب الجنس: مقاربات في الأدب العربي القديم” أحد الأمثلة على ذاك التَحَسُّب والحَذَر.
فالجنس، خلافاً للدين، يشكِّلُ موضوعاً ينبغي التكتم عليه وعدم الخوض بشؤونه والتعرض لحالاته في تمثلاته الاجتماعيّة (بصرف النظر عن الاتفاق أو الاختلاف في مفهومه الأوّل، بالمقابل من الدين الواجب إعلان الاتفاق الجماعي بشأنه): ينبغي الإبقاء عليه بمنأى حتّى عن الحديث العَلَني العام عنه، وإنْ جاز ذلك ضمن دوائر الاختصاص والمختصين فقط (الأطباء والتربيون والأهل). ولعلّ هذه الدوائر تشكّلُ الزاويةَ الحرجة التي تستوجب المساءلة؛ إذ هل يكفي الاستناد إليها، دون سواها، في تبيان الجنس وأهميته في حياة الأفراد الذين يجوبون كافة أرجاء الحياة الاجتماعيّة، متعرضين لشتّى السياقات والظروف حيث يبرز الجنس عبرها في يومهم العادي ملمحاً ملحاحاً حيوياً دائماً، غائماً غامضاً لدى البعض، أو بَيِّناً مفهوماً لدى البعض الآخر، لكنه حاضرٌ ما دام الجسد في حالة حضور؟ جسد الأنا المُطالِب المطلوب، وجسد الهو المطلوب المُطالِب؟
إنَّ حالات قمع الجنس كموضوع قيد البحث والاستفسار والمساءلة، كونه يشكّلُ عالماً يتخفّى وراء حُجُب وأستار، ويتسم بخصوصيّة ناشئة عن حميميّة محاطة بمنطقة العَتمة، والأسرار الشخصيّة، والدلالات المتاحة (للراشدين والبالغين) دون غيرهم؛ إنما هي حالاتٌ يتأتى عنها ما يعاكسُ الغَرَضَ التربوي المُعْلَن من قِبَل الداعين لها كهدفٍ نبيل. فبالمقابل من “حماية” الأجيال الناشئة قليلة الوعي بعدم عَرْض الموضوع للحوار العَلَني معهم، نجده يتحوّل إلى سِرٍّ غامضٍ ملفوف بحراساتٍ سرعان ما تخترقها حاجات الأفراد لحيازة المعرفة من جهة، ورغبات الجسد المتفتحة للوصول إلى فَضّه وكشف طبقاته الخفيّة بالمسلكيات السِرّيّة (الاطّلاع عبر المواقع الإباحيّة، والفعل المحفوف بالخطر والفضيحة!)
وهكذا نجدُ أنّ الغاية من القمع انقلبَت إلى ضدها، والغامض تحوّلَ ليكون ملتبساً ومُرْبِكاً بسبب من المصادر غير العلميّة المشوِّشة لمستقبليها، حيث أدّت بهم لتّبني رؤىً مضطربة للجنس الآخر، ومَن نريد “حمايتهم” من “المعرفة بالشيء” دُفعوا دفعاً للوقوع في شَرك الجهل والتعرض للمحظور الاجتماعي.
هذا الواقع الحياتي، المتناقض مع نفسه والكاشف لِمْا يمكن وصفه بـ”الزيف والرياء الاجتماعيين”، نراه يتجسّد على نحوٍ مُعْلَن في كيفيّة التعامل مع النصوص الأدبيّة والبحثيّة التي خاضت وتخوض في منطقة الجنس – إنْ كان ذلك في راهننا، أم في مراجعتنا له كأثَرٍ معيش عبر تاريخنا. هذه الكتب، بحسب الرقابات المتصديّة لحراسة القِيَم، تنتهي لتقع ضمن حدود الممنوع. ولكن منع ماذا؟ إنه منع المعرفة، بصرف النظر عن الكيفيّة الآتية من خلالها هذه المعرفة. وبذلك، بوعي أو بدونه، ليس بمقدور الرائي والمدقق إلّا الاستنتاج بأننا حيال عمليات تجهيلٍ بالتعتيم على مناطق في حياتنا تستوجب التفكير، والمضي في طريق كتم الصوت الباحث، واستبعاد، أو إعدام الكلمة المتسائلة. كأننا حيال ما يلي: “فَكِّروا وابحثوا، ولكن إيّاكم أن تُعلنوا عن تفكيركم!”.
حَسَنٌ. ولكن ماذا بخصوص الناتج عن تحريماتٍ كهذه؟ أوليس الإقبال الملهوف على كل ما خضع للمنع، والعمل على كسر حواجز الصد للحصول عليه بكل الوسائل، وبنِسَبٍ أعلى مما نتوقع بكثير، لمؤشرٌ لا يكذب على أنّ الحاجة إلى المعرفة وتلبيتها لا تستقيمُ سوى بِمُرْسِل ومستقبِل لن تحول قرارات عُليا دون تواصلهما؟ وأنها لا تزال تتحقق بالخيوط الواصلة لهما، والتي من المستحيل قطعها؟ وأن بندول الساعة في حركته ذات الاتجاهين لخير تعبير عن استحالة التوقف؛ وإلّا لتوقف الزمن وما عادت الساعة ساعة! وأننا، إذا ما ذهبنا أبعد في الاستنتاج المجازي، نقولُ بأنّ حالات القمع والمنع لا تعدو أن تكون إيقافاً للزمن والتاريخ ـ وهذا، كما يعرف الجميع، هو المستحيل بعَينه؟