أقدام عارية

خاص- ثقافات

*ميساء البشيتي

تأتيني أمي كل ليلة في المنام، تطلب مني طلبًا أغرب من الخيال فأركض في الصباح بكل ما أوتيت من عزم في محاولة مني لتلبية هذه الطلبات، أنجح تارة وأخفق أخرى قبل أن أتوقف فجأة وأسترجعها في ذاكرتي _وهي التي عاشت كل العمر لم تطلب مني أن أسقيها جرعة ماء_  فلماذا تأتي كل ليلة وتطلب مني ما هو عصيٌ على الفهم والإدراك؟!
لم كل هذه الطلبات والظهور المتكرر في المنام؟ أغير مرتاحة البال أمي أم أنها كسابق العهد تطالع نشرات الأخبار؟ هل ترى المدن الفاضلة كيف طُرحت أرضًا واستبدَّ بها الظلام؟ هل ترى الأشلاء وهي تتناثر كريش الطيور عند الذبح فتصعد روحها إلى السماء مثخنة بالسهام الطائشة وهي تهوي على قلب المدينة وأرصفة الحدائق وأسوار الملاعب وداخل حقائب الدرس وفناجين القهوة على شرفات الصباح؟
ماذا ترى أمي حتى تأتيني فزعة في المنام؟  ماذا ترى؟ وكيف ترى وأنا أحاول أن أغلق  عنها كل منافذ الأخبار؛ فلا ترى الصور المفخخة والجثث المتفحمة ولا تسمع صراخ الأطفال وعويل أمهات الشهداء بعد أن طفح بهن الكيل وأدركن أن الموت كان مؤامرة على فلذات الأكباد وأن اللعب على الكلمات كان من مسكنات الأوجاع؟
هل أقول لأمي الحقيقة التي لا تعرفها أو تعرفها بأنه قد سكنت ديارنا الضباع وأننا في زمان امتلأ بالضجيج والضباب، الرؤية محدودة بل معدومة لتكدس الفكر الشاذ، الأجواء مشحونة بالجدل السفسطائي، الكفُّ يسبق الفكرة، القلم يغتال الكلمة، السيف يكتب أبجدية جديدة من لم يركع وينحني لها ينسفه نسفًا، العقل طريح الفراش في غرف الإنعاش؟
كنتُ أظن أنني أستطيع أن أرسم ابتسامة مزيفة تخدع أمي فلا ترى ما في القلب من أوجاع، كنتُ أظن أنني إن قلتُ لها أنني بخير فسترى الخير يرفرف كحمائم السلام على أسوار الديار، كنتُ أظن أنني أستطيع أن أحتال أكثر وأدعوها للعودة إلينا لتنعم ببعض الرخاء، لتقيم بيننا أكثر؛ فلا ملاجئ مكتظة، لا خيام ممزقة، لا أرصفة ضاقت بما رحبت، لا موانئ أعلنت التخمة، لا بحور أغلقت في وجوهنا لأننا نتكاثر في ليالي الشقاء.
احترت فيما أقول وفيما أخفي؛ فالحقيقة الوحيدة التي تتراءى لي الآن أن أمي تطالع نشرات الأخبار! وأنها تأتيني كل ليلة لأنها أدركت أننا أصبحنا أقدامًا معلقة في الهواء، عارية من الأمان، لا مأوى يلم شعثها ويحتضن ضياعها ويعيد ترتيب شتاتها الليلي لتنتطلق عند كل صباح تتسول وطنًا على أرصفة الغرباء.
أمي أدركت وحدها ودون أن أخبرها أنا أننا أصبحنا أقدامًا عارية في الهواء.

في الذكرى الخامسة لرحيل أمي عليها رحمة الله

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *