هل سمعت بالنقد البيئي؟

*سعيد يقطين

لقد بدأ الإنسان، منذ أواخر القرن الماضي، يستشعر فداحة ما أقدم عليه تجاه العالم الطبيعي الذي يعيش فيه. لقد دمر الغابات وطارد الوحوش، وعاث في الأرض فسادا. ومنذ أن بدأ يزعم قتل الإله، لم يكن له من قصد وراء ذلك غير ادعاء ألوهيته على الأرض، وملكيته لها، ليمارس فيها ملكيته غير المشروطة، وغير المسؤولة على البلاد وما فيها من بيئة وطبيعة، وعلى العباد، فكان أن أفنى قبائل وشعوبا، واستعبد أمما، وأذل طبقات اجتماعية. وها هو يجني ما زرعت يداه، وتكنولوجيته العتيدة التي لم يسخر سوى جزء بسيط منها لمصلحة الإنسان.
وها هو من جهة أخرى، يحاول البحث عن مواطن قابلة لـ«العيش»، أي للتدمير خارج كوكب الأرض؟ وها هو ثالثا يحاول تدارك ما فات، بالاجتماع والتفاوض في مراكش، من أجل مواجهة آثار التغيير المناخي الذي أحدثه على وجه البسيطة، وهو يتصورها «خضراء» و«زرقاء»، بعد أن أحالها «سوداء» بمداخنه، وأرصفته التي تزحف على التراب.
يجتمعون الآن في مراكش في الكوب 22 للتفاوض والتفكير في إعادة التوازن الطبيعي؟ يشارك في هذه الاجتماعات رجال السياسة والاقتصاد والمال والتجار والإعلاميون، لكن غياب الضمير الثقافي الذي يمكن أن يسهم في نشر «ثقافة البيئة و«الثقافة الطبيعية» لا يمكن إلا أن يسهم في تأخير الوعي الثقافي بأهمية المحيط البيئي الذي نعيش فيه. ويتحمل المثقفون دورا كبيرا في تغييب الاهتمام بهذه الثقافة. صحيح بدأ بعض اليساريين القدامى في الغرب يهتمون بـ«الأخضر»، بعد أن ضجروا بما كان يجره «الأحمر» البروليتاري و«الأسود» الديني والبورجوازي على البشرية. وصحيح أيضا أنه ومنذ التسعينيات من القرن الماضي بدأ الحديث عن جماليات البيئة، أو النقد البيئي في الكتابات الأنكلوساكسونية.، وامتد بعد ذلك إلى الكتابات الفرنسية، لإعادة النظر في الأدب والدراسات النقدية والثقافية من زاوية علاقتها بالحياة البيئية التي بدأت تستقطب الاهتمام. لكننا في آدابنا العربية وثقافتنا ما زلنا منعزلين عما يجري في العالم من حولنا، وما برحنا غارقين في مشاكلنا الخاصة التي لا نريد وضع حد لها لننخرط في العصر؟
من الأقوال الأولى التي استقرت في أذهاننا ونحن في بداية التعاطي مع الأدب: «الأديب ابن بيئته». ونستشهد لذلك بالشاعر علي بن الجهم الذي شبه الخليفة المتوكل بالكلب والتيس والدلو. ولما أراد حجابه الفتك به، أعلمهم بأن الشاعر ابن بيئته، وأتاح له فرصة العيش بين الرياض والقصور بضعة أشهر ليعود بقصيدة مدح مختلفة يتغنى فيها بـ»عيون المها بين الرصافة والجسر».
وفي الشعر العربي نلحظ الأثر الواضح للبيئة من خلال الوصف. ولقد أدرك المسلمون أهمية البيئة في الحياة، وفي الحديث النبوي نجد حضورا قويا لتفاعل الإنسان مع محيطه البيئي، وضرورة الحفاظ عليه، مثل العناية بالماء ولو في الغسل والوضوء، وفي أجر النفقة الذي يمتد إلى كل ذي كبد رطبة، وفي نصوص إخوان الصفا، تمثُل قصة «تداعي الحيوان على الإنسان» التي تبين ما كان يقوم به الإنسان من تسلط على الحيوان ومطاردته لها لإشباع نزواته، إلى أن فزعت خوف الانقراض إلى ملك الجن مقاضية جرائم الإنسان. وفي الأدب الأندلسي نلمس الحضور الجمالي للطبيعة والاهتمام بها في مختلف جوانب الحياة مما مانزال نجد له آثارا ملموسة في إسبانيا الحالية. وفي الآداب الألمانية يكفي أن نشير إلى الحركة الرومانسية وامتداداتها الغربية والعربية مع الرومانسيين العرب، وأدباء المهجر الشمالي خاصة، ما يبين لنا بجلاء الحس الجمالي بالعالم الطبيعي الذي نعيش فيه.
لكن التطور الذي عرفته البشرية منذ القرن التاسع عشر، مع الثورة الصناعية، وامتداداتها إلى الثورة التكنولوجية الجديدة، تبرز لنا بجلاء أن التكنولوجيا لم تؤد إلا إلى تقزيم الثقافة والقضاء على الطبيعة؟ لم تبق التكنولوجيا والثقافة في خدمة الطبيعة بل إنها لا تعمل إلا على تدميرها. ولو تأملنا جيدا علاقة الإنسان بالطبيعة على مر العصور لألفينا أنفسنا منذ القرن التاسع عشر إلى الآن نستنزف كل ما حافظت عليه البشرية خلال مئات القرون. ولو تخيلنا ما يتحقق في العصر الحديث من استهلاك للثروات الطبيعية كان منذ عشـــرة قرون لما بقي أحد على وجه البسيطة؟ ولذلك نجد الآن، خاصة في سينما الخيال العلمي نوعا من الإبداع الذي يمكن أن ندخله في خانة الإبداع البيئي أو الطبيعي، كما أفضل تسميته، يدق ناقوس الخطر، ويستشعر الآثار التي خلفتها يد الإنسان، وهي تعمل على تخريب المحيط البيئي باصطناع الأسلحة النووية، وتدمير الغابات، والمساهمة في انقراض الكثير من الكائنات الحية في البر والبحر.
تحت طائلة هذا التطــور الذي لحق بالبيئة والطبيعة، بدأ الاهتمام في الدراسات الأدبية بهذا الأثر المدمر، وبدأ يلتفت الدرس الأدبي إلى جماليات البيئة، وإلى علاقة الإنسان بها في الإبداع، بهدف استعادة الوعي بأهمية الثقافة البيئية. أفضل تسمية النقد البيئي بـ»النقد الطبيعي» لجعله يهتم بكل ما يتصل بالطبيعة وعوالمها المختلفة بهدف تنمية جماليات الطبيعة.
___
*القدس العربي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *