دونما أية محاولات عبثية للتنبؤ والتكهن بشأن المشهد المجتمعي الراهن الذي يلامس كثيرا من الدهم الديني ، على وجه الاختصاص الاجتهاد غير المحمود الذي يعتريه مساجلات عبثية ولغط مستدام بغير حجة سوى تقعير في اللفظ وتشدق بالمبنى بعيدا عن المعنى ، وهذا ليس من باب استباق الأحداث بقدر ما هو استشراف لإجراء شعبي منتظر صوب إحداثيات استحالت أكثر خطورة على استقرار المجتمع وبنيته السياسية القائمة. على سبيل المثال الفتنة البليدة التي طرحها المعمم المعروف بالميزو الذي ادعى ولا يزال أنه المهدي المنتظر لهذا العصر .أو ما يردده إسلام بحيري من خلال طرحه السردي الذي لا يضيف لثقافة الأمة تنويرا أو تجديدا بل بلبلة في المستقر وانتزاع الأمن الديني من النفس خصوصا لدى الناشئة الذين لا يزالوا يتلمسون أطراف الدين وضوابطه الشرعية .
وحينما فاجأنا الإعلام البطيئ من ناحية التقنية والعرض والسارد أيضا بقضايا واهنة دون وضع شرائط وضوابط ينبغي توافرها في أعضاء اللجنة ، كنت أستشرف أن مدنية الدولة الضاربة في الأزل ستنتصر في معركتها ضد مطامح فصائل معينة في النسيج المصري ، وستنتصر ضد راديكالية متطرفة وطروحات تنظيرية تجئ إلينا على استحياء وخطى وئيدة من الكيانات الشيعية المتناثرة ، لكن الأمر آنذاك والذي لا يزال مستمراً أن مجموعة من الصحف التابعة لهذه الفصائل والتي تسعى في مهمتها الخبيثة للترويج لأفكار شيعية وأخرى مذهبية متطرفة تؤكد أن إلغاء الآخر هو المنتج النهائي لتلك الطروحات العقيمة والتي تستغل فيها أقلاما وأصواتا وأبواقا جوفاء .
وهذا التوجه الوئيد للأفكار المشبوهة والمغلوطة دينيا الممزوجة بعنف وسلطوية واستلاب أيديولوجي للآخر هو عصيان لإرادة الأمة وهم يقصدون بالأمة مصر العظيمة التي تظل إلى حين حضن السنة والكافل الرئيس لرعاية أنصارها عن طريق المؤسسة الدينية الرسمية ووزارة الأوقاف وفوقهما ملايين المصريين الذي عقدوا وثيقة حاكمة بينهم وبين سنة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) . وحينما فشلت تلك الصحافة الموجهة من أحزابها وتياراتها الدينية في تحشيد عدد غير قليل من الشباب المهووس بالتغيير والتجديد الفارغ من المعنى والمهموم بالمبنى أي التوجه الظاهري فقط ، وتلك الصحف قررت أن تلقي بثقلها الصحافي لتعبئة رأي جمعي نحو الاكتراث بقضايا دينية مستهدفة إلهاء المواطن والوطن عن معاركه الحقيقية ورغبة في استقطاب آخرين ناحية الظاهرة الإيرانية التي بدأت في التوغل وأصبح خطرها وشيكا للدخول إلى أرض المحروسة مصر ، ولكن هذه المرة بوجوه وأقنعة جديدة أهمها قناع الكاهن ، وقناع السادن . وكاد المواطن المصري الذي يوفر من راتبه بعض النقود للهرولة وراء الصحف الموجهة أن يتمزق بين رأي الكاهن الذي يصور له أننها بحاجة ماسة إلى غزوة دينية لإعلاء الإسلام ، وبين رأي سادن يسيس له فكرة الفوضى الخلاقة والمنظمة والمخططة باعتبارها خطوة مهمة للعودة إلى المرجعية الحاكمية ومن ثم تقويض المجتمع الإسلامي السني .
ولكن دولة كبيرة بحجم مصر التي لا يعرف عنها أحد قدرها ومقدارها لاسيما هؤلاء كهنة وسدنة الصحافة الراهنة والإعلام الضال، إلا من قرأ وفطن كتابات المفكر الجغرافي الماتع الدكتور جمال حمدان لاسيما في كتابه شخصية مصر ، بأن مصر سيدة الحلول الوسطى دون منازع وأنه دولة تشبه صحافتها منذ اختراعها ، متعددة المشارب والمذاهب ، فهي فرعونية الجد ، وعربية الأب ، وهي قوة بر بصحرائها الواسعة ، وقوة بحر بسواحلها الممتدة ، لكن ما تشهده الساحة الصحفية الآن لا يؤكد هذا التوصيف ، بين انتزاع مطلق لبعض التيارات الدينية لاقتناص الرأي والحل والعقد دون الاعتراف بأن مصر هي التي دشنت للعالم العربية وكرست لصحافة المتناقضات والأضداد .
وكان من الأحرى على وطن مثل مصر له رسالة تاريخية تنويرية ضاربة في القدم قدم التاريخ الإنساني نفسه أن تهتم صحافة الأحزاب الدينية أو السياسية ذات المرجعية الدينية بتنوير الشعب أولاً ثم بتنوير وتنويه الناشئة من أبنائنا الطلاب بضرورة السير على خطى علمية وأسس منهجية قبل الشروع في اختيار قرار الخوض في قضايا تعد في ظاهرها دينية إلا أنها تعمد كلية إلى تقويضه ونزع فتيل استقراره.
وكما قال المفكر الرائع جمال حمدان مصر ليست نصفاً بل هي وسط في الموقع والدور الحضاري والتاريخي ، ووسط في الموارد والطاقة ، وفي السياسة والحرب ، كان ينبغي الالتزام بقواعد وضوابط شديدة المصرية من أبرزها أن ولع المصريين بالدين هو السياج الحامي لهم من كل فكر مغلوط وافد ومن أية مستجدات فكرية من شأنها تقويض الاستقرار الديني لديهم ، وهذا ما ينبغي أن يكون ، بغير ممارسات صحفية موجهة من أولئك الكهنة والسدنة التي أشرت إليهم .
الأخطر في أمر صحافة الكهنة والسدنة أنهم في الوقت الذي لم ينتبهوا فيه إلى حالة الولع الديني لدى المصريين بصفة عامة وأهل السنة بمنطقة الشرق الأوسط ، راحت تكرس جاهدة لصكوك الغفران من جديد ، ولكن هذه المرة بخصوص غزوة وهمية تستهدف العقول من أجل طاعة دينية عمياء لمرجعيات إما شيعية تارة أو راديكالية تارة أخرى ، وإلى هذا الحد من الخوف أصبحت فصائل صحفية كثيرة في مصر تخشى نفرة الملتزمين بسنة نبيهم وسيرته العطرة
ولأن بعض الصحف السياسية ذات التوجه الديني فقدت بريقها كما فقدته من قبل أحزابها وتياراتها من قبل هرولت من جديد إلى تحذير المواطنين من خلال أقلام مألوفة ووجوه معروفة من عودة طغاة نظام مبارك وأغلبهم من المنتمين لجماعة الإخوان ، وراحت صحف وقنوات ومنابر إعلامية أخرى غير معلومة المنشأ تروج للفكر الشيعي القادم من إيران ظنا منها إقامة أركان راسخة وسط نسيج سني قوي ومتين ، وهذا ما سيؤدي بتلك الدعاوى الباطلة إلى النسيان والتفتيت السريع .
وإذا اجتهدنا في رصد وتحليل موقف صحافة كهتة وسدنة التيارات الدينية المشبوهة في مصر لوقفنا على بعض المؤشرات والحقائق ، منها زعزعة الثقة في النظام السياسي القائم وفي العلاقة المباشرة بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والشعب ، فضلا عن تأجيج ثقافة كراهية الآخر والنفور منه وإبطال أية احتفاءات أو فعاليات مجتمعية قوامها تقريب وجهات النظر بين عنصري الأمة .
ولكن الشئ الذي يجعلني دائم الارتياب في صحافة السدنة والكهنة وإعلامها أنها تخلت تدريجياً عن مشروعها التجديدي في الإسلام والذي كان بحق حبراً على ورق ، واجتهدت بكل عزم وثقل في التصدي لأية محاولة تقوض وجودها وحضورها في المشهدين السياسي والاجتماعي ، فمثلاً جماعة بحجم جماعة الإخوان بدأت تفقد اتزانها التاريخي وقيمتها الثقافية في المجتمع بصورة مطلقة سواء في الداخل أو الخارج، ذلك حينما بدأت تحارب بقوة وعنف عن طريق مواقعها الإليكترونية وصحافتها كل ما هو ذي صلة برجال الدولة ورموزها ومفكريها .
والوطن العربي اليوم وليس مصر وحدها يزخر بقنوات دينية تتاجر أحياناً في الأدوية والمفروشات وصناعة الأثاث وأحيانا في عرض بعض العقاقير المنشطة جنسيا ، إلا أنها في المقام الأول دينية والتحرش هو علمها وشعارها وملمحها اليومي المستمر. هل فعلاً يعاني الوطن بفضل هذه الظاهرة من الفصام ؟ وهل هناك علاقة عكسية بين تفشي الإعلام الديني وبزوغ نجم الشيوخ غير الأزهريين وبين التحرش الفكري؟ .
والتحرش في طبيعة الأمر سلوك عدواني وإجرامي لا يقل عن القتل والاغتصاب والسرقة واختلاس الأموال وغيرها من مظاهر الانفلات الأخلاقي ، وكل علماء النفس الذين يعشقون النظريات والطروحات والرؤى يشيرون إلى أن التحرش مفاده دوافع شخصية وعقد دفينةوتربية فاسدة وعوامل تنشئة اجتماعية سيئة ، وكل هذا يظهر للمجتمع في ظل شيوع وذيوع ثقافة سياسية مصاحبة لهذا الانحلال الأخلاقي، وكثيراً ما أجد ثمة علاقة طبيعية بين ما نحياه الآن من تحرش سياسي وتحرش ثقافي وتحرش انتخابي وبين التحرش الجنسي الذي بات ملمحاً حصرياً لفترة أخونة الوطن.
والمصيبة التي نعيشها في ظل القنوات الدينية التي يمكن وصف وتوصيف بعضها بالسخيفة أنها تتحدث عن قضايا تخص فصائلها فقط ، وتهم مريديها فقط ، وتناقش صغائر أمورها فقط ، وتصر على جعل المرأة هي الشيطان الأعظم ويتجاهلون الكشف عن أسرار حل مشكلة التحرش ، ويؤكدون أن بقاء المرأة في البيت هو القضاء على التحرش رغم أن الرجال هم الذين يقومون بهذا الصنيع.
والوطن العربي الآن بحق أشبه بساحة تحرش كبيرة ، وهذا يدفعنا إلى الأخذ بالرأي القائل بإن التحرش الجنسي السافر الذي نراه ليل نهار مرتبط بالفوضى المجتمعية والعبث الذي يريد مروجو التشيع والتطرف إحداثها مما ينعكس بالضرورة على اقتصادها وأمنها واستقرارها السياسي .
هذا التحرش الذي سيساهم بالضرورة في تقويض استقرار المجتمع وانهياره عما قريب لا يحتاج إلى فيلم وثائقي يوضح خطورته وآثاره على حياة الوطن ، بل يحتاج إلى رقابة دينية مخلصة وتربية مدرسية متميزة ودعوة دينية هادفة ، وإذا ناقشنا ذلك بالتفصيل فالرقابة الدينية مرتبطة بأناس يحبون الله ويعبدونه مخلصين له حنفاء .
__________
ـ مدرس المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية والتربية الإسلامية