علم البيئة يفسر التاريخ

*محمد الأسعد

أحدث عالمُ النظم الحية، أو عالم التبيؤ، في الشائع من القول، البريطاني/الأمريكي بول كولنفوا المتوفى في فبراير/شباط من العام الحالي، انزياحاً لافتاً للنظر في مفهوم هذا العلم، وتبعاً لذلك، في طبيعة عمل وتفكير من يمارسه. فهو لا يرى أن موضوع علم التبيؤ هو التلوث ناهيك عن أن يكون علماً موضوعه الانقراض والفناء، بل هو تفكير بالمتضمنات الاجتماعية لهذا العلم. من هنا جعل موضوعه منذ البداية كما قال في كتابه «لماذا الحيوانات المفترسة نادرة؟» (1978)، دراسة مجتمعات الماضي، وتاريخ التغيرات المناخية استناداً إلى إعادة تكوينها من ملاحظة المتحجرات في قيعان البحيرات الطينية العتيقة.
من هذه البداية، دراسة النظم الحية في تعدّدها وتنوّعها، بشراً وحيوانات ونباتاً، انتقل إلى محاولة فهم التاريخ الإنساني، وجعل الأولوية لواجب معرفة كيف يتكاثر البشر، وكيف يغيرون طرائق حياتهم، فأصدر أكثر كتبه إثارة للجدل، ليس في حقل علم التبيؤ فحسب، بل في حقل الفلسفة والتاريخ والحضارة، تحت عنوان «مصاير الأمم» (1980)، وواصل هذا الانزياح في كتبه اللاحقة، وآخرها ما أطلق عليه اسم «الحملات الأمازونية» (2008).

يقول كولنفوا، إن موضوع التاريخ هو أفعالُ ورغباتُ كائنات غير عادية؛ أعضاء النوع العاقل. وفي الألوف القليلة الماضية تكاثر هذا النوع الغريب حتى غطى معظم أرجاء الكرة الأرضية، وغيّر أساليب معيشته، فانتقل من إنسان بسيط يتعيش على الصيد إلى إنسان حضارة. ويعتقد كولنفوا، أن هذه التغيرات في الأعداد والعادات هي سبب الدورات في التاريخ، وهي ما يقرّر مصاير كل أمة من الأمم على وجه الأرض. سجل القضايا الإنسانية الفعلي، كما يقول، هو حكايات معارك وتمردات وغزو وتجارة واستيطان واستبداد وتحرر وإمبراطوريات. تجيء الأمم وتذهب وهي تتقاتل، وينتقل مركز القوة من من أمة إلى أخرى، ويعيد التاريخُ نفسه حين يظهر شعب ويتوسع على حساب جيرانه، ثم يعيش مترفاً وحراً زمناً قبل أن يضمحلّ ويدخل في طور الكسوف.
يذكرنا هذا بالطبع بنظرية الدورة الحضارية عند عبد الرحمن بن خلدون (1332-1406) في كتابه «المقدمة»، إلا أن كولنفوا يقرأ دورة الصعود والانحدار ثم التلاشي، من منظور أكثر تفصيلاً وتنوعاً في الأسباب والعلل التي تصنع الدورة، إضافة إلى تحمسه لما يسميها التفسيرات الدارونية الجميلة، وأخصها بالذكر، تفسير دارون، مؤسس نظرية تطور الأنواع (1809-1882)، للتغير والتغاير بما سماه «الاصطفاء الطبيعي».
ووفق هذا المنظور، صعدت الإمبراطوريات القديمة كلها، المصرية والفارسية واليونانية والرومانية، إلى مركز القوة بمعاركها، وكلها استمرّت لتشهد قوتها تضمحل، والجنود الأجانب يجوسون خلال الأراضي التي حكمتها ذات يوم. أكثر الأمثلة حداثة هو تكوين أوروبا المعاصرة الذي جاء بعد أن تمزقت إمبراطوريات البرتغال وإسبانيا والسويد وفرنسا وهولندا وألمانيا، وأخيراً الإمبراطورية البريطانية التي أفلت شمسها وسط لعلعة الرصاص.
وتبدو تغيرات العادات، وأعداد البشر في المقام الأول، وهي تعلو دورات التاريخ معاً، واضحة وضوحاً ساطعاً. فلو نظرنا إلى كيفية بناء أمة أو إمبراطورية، لأبصرنا، أن ما يتفوق على عدد القلة القليلة التي أنشأتها، هو التغيرات الكبرى في طريق حياة أحفادها المتكاثرين. إلا أن تزايد الأعداد لا يتأتى من النصر في المعركة، بل من النجاح في التناسل والعادات المتغيرة وهي تكيّف الطرائق القديمة التي يمنحنا إياها الاصطفاء الطبيعي.
إذاً لفهم التاريخ، علينا أن نعرف كيف يتكاثر البشر، وكيف يغيّرون طرائق عيشهم. وفي نطاق علم النظم الحية (التبيؤ) تكاد أبحاثه أن تكون معدّة للإجابة عن أسئلة من نوع: «ما الذي يحدّد عدد أفراد كائن حي معين؟» و«لماذا تفعل هذه الكائنات الحية ما تفعله؟». مثل هذه الأسئلة ذهب علماءُ النظم الحية بعيداً في الإجابة عنها بعامة، وأصبحنا نفهم ما الذي يحدّد أعداد وعادات معظم الأنواع الحية باستثناء نوعنا الإنساني. ومع ذلك فإن الناس كائنات شأنها شأن الكائنات الأخرى، ويجب أن تعكس مصاير الأمم بما هي كذلك، صورة أعدادها السكانية وعادات سكانها، ومن هنا يجب أن تُفهم في ضوء تحليل علم التبيؤ.
علماء التبيؤ يأخذون بالنظرة الدارونية تجاه الحياة؛ وحسب هذه النظرة، الحيوانات وحدها هي المتلائمة مع أمرين: الحصول على الطعام والتكاثر. ونتوقع أن يكون كل ما يفعله الحيوان ملائماً للحصول على الطعام والهرب من الموت وتنشئة الصغار. ويعمل الاصطفاء الطبيعي بحيث يحوّل كل الكائنات الحية إلى مصانع لإنتاج كائنات جديدة من المواد الخام المنتزعة من البيئة. ولدى علماء التبيؤ طرفة تقول إنهم طبيعيون أكثر من غيرهم، لأنهم يمضون حياتهم في التفكير؛ إما في الطعام أو الجنس. وهي طرفة صحيحة كما يرى كولنفوا، لأن غالبية اهتمام علم التبيؤ النظري تتجه نحو الكيفية التي تحصل بها الكائنات الحية والنباتات على طعامها، وكيف تتكاثر.
شعوب كل الأمم تحصل على الطعام وتتكاثر في نطاق مشروع تعاوني هائل، ولهذا السبب يصبح تاريخ الأمم موضوعاً مناسباً لعلم التبيؤ. ويُظهر كولنفوا في كتابه أن البشر عاشوا في الأزمنة القديمة وفق القواعد الأساسية التي تعيش بموجبها كل الكائنات الحية. ولكن على رغم أن البشر غيروا بعضاً من هذه القواعد الأساسية، إلا أنهم لم يغيروها كلها، وما زالوا على عادات التكاثر نفسها. ما تغير هو ما كان يحدّد طريقة الحياة، ولم يبدأ التاريخ حقاً إلا حين بدأ البشر التفكير بحياة أفضل. وهنا تم كسر القواعد الحيوانية، وأصبح التاريخ تقدّماً متواصلاً لطرق عيش وتكاثر سكاني متغيرة، بحيث يطارد أحدهما الآخر، وما ينتج عن هذا هو التجارة والحرب والإمبراطورية.
ولأن كولنفوا يرى أن التحليل البيئوي يقدم أسباب الحروب الكبرى، والطرق التي تحدث فيها، يخصص معظم صفحات كتابه للمعارك والأسلحة، ويقول: «من دون فهم ما حدث فعلاً في الحروب، ولماذا انتصر من انتصر، لا نستطيع فهم أسبابها». هو هنا لا يبرر تحويل علم النظم الحية إلى دراسة للحرب، ولا يعتذر عنه، لأنه لا يجد أملاً في وضع حد للعدوان إلا بمعرفة ماذا حدثَ ويحدث. ولئن كانت هذه النهاية ليست قريبة، فيمكن لعلم الحروب البيئوي أن يقول لنا ما ستكون عليه الحروب المقبلة. ويضيف: «إن عدداً من مصائب نوعنا الإنساني يمكن التنبؤ به، مثل الاضطهاد والمجاعات، لأن هذه الأخيرة بخاصة تابع حتمي للعادات المتغيرة ودوافع التكاثر. ويمكن، في ضوء علم التبيؤ فهم العلاقات بين حجم العائلة والثروة والتحرر، بل وحتى الحرية نفسها يمكن تعريفها بمصطلحات بيئوية، حين تحدّد نظرة عالم البيئة إلى تاريخ الأمم التي تمتلك قدرات الحفاظ على حريتها». وبكلمة أوضح، يمكن تلخيص أطروحة كولنفوا بكونها تنص على أن مصاير الأمم والشعوب يمكن فهمها والتنبؤ بخطوطها العريضة، بمعرفة الطبيعة التبيؤية لنوعنا الإنساني. ونجده يمتحن نظرته هذه بدراسة أكثر الأحداث التاريخية شهرة؛ صعود وانحطاط حضارات البحر الأبيض المتوسط، والاندفاعات الوحشية لشعوب قلب آسيا، وبروز القوة الغربية بأسلحتها غير المسبوقة. صحيح أنه لا ينكر دور الأفراد والحركات الفكرية، إلا أمثال هذه العوامل لا يؤدي دوره، كما يرى، إلا على مسرح تشكله الطبيعة البيئوية الأساسية لنوعنا الإنساني.
_________
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *