استهلال بلا مقدمات

خاص- ثقافات

*أسامة ملحم

(عن مجموعة الشاعر زياد شاهين ” ترجمة مبعثرة للفرح” الصادرة حديثاً )

إذا لم تكن القصيدةُ مرآة فارسِها وحده فلتنتظمْ في سوق نخاسة الشعر خلفه .

ليست القصيدةُ أمَة أحدٍ وليس الشاعر عبدَ من سلف من جهابذة الوقع .

إذا لم تتقد في قلب الشاعر جذوةُ التحدّي فليذهبْ هو وشعره إلى الجحيم .

إذا لم تقرع فوق ناصية الشاعر بوصلةٌ فكريّةٌ فليذهبْ هو ونظمُه إلى الجحيم .

إذا لم تشتعل في أوصال الشاعر قضيّةٌ عُليا فليذهبْ هو وشعرُه الجميل إلى الجحيم .

إذا لم تتوافق تجليّات الشاعر ومواقفه الحياتيّة فليوأد هو وعِظاته في صحراء الّلغة .

ليس على القصيدة أن تُطرِب ، تلك مهمةُ الرَجَز …أو الهَزَج، بل على القصيدة أن تهزّك ..تزلزلك لتفض عنك رماد السّكون ، وعلى القصيدة أن تبترك عن رحم الوصاية وأن تقصيك عن أرض الموعظة .

على القصيدة أن تجعلك أنت أنت دون تعلّقٍ بأي شيء ، أن تجرّدك من قناع الآخرين .

أنت تدخل أرضها متخففاً من كلّ شيء فتكتسب من ثمارها كلَّ شيء . قبل القصيدة عليك أن تكون في أبهى عريك لتكتسي من بتلات غابتها .

الشعرُ هو الغابةُ التي أكلت دستورَها واتخذتْ من حَلّةِ الحُكمِ قانونها .

القصيدةُ لا تورَث كالّلغة ، إنها تُبتَدَع ، القصيدة هي الشذوذ فإذا غرقتْ في العادية فهي اجترارٌ قد يأتي به أيُّ جُدجُد .

في قصيدة زياد شاهين ما يعنّفك كشاعرٍ فتقول ” كيف فاتني هذا البوحُ “، ولولا الحياء لادعيته ولكنت تقول آسفاً غابطاً ” لو كان هذا النصُّ لي ! “

هذه سِمَةُ الشعر الكبير ..

في قصيدته حصان ورصاص تقرأ

أكون المرايا

حصانُ النّشيد تألّق فيها

أكونُ السؤالَ

السؤالُ ، مرايا !

يُطلُ عليّ حصانُ النّشيدِ

كثيفَ الجراحِ

يطلُّ عليّ كئيباً..كئيباً

سأفضحُ سرَّالكآبة ، سرّ الجراح

قبل المرايا

 قبل الرّصاص

 وقبل الصباح !

القصيدةُ قصيرة المدادِ طويلة المدى ، أوجزت وأبلغت وتجاوزت ، في بضع كلماتٍ زيادُ أدّى رسالةً أولى ، مدى ثقته في أنه أوصل ما أراد بأقل حبرٍ ورسالةً أخرى مدى ثقتِه بالآخر في أنه توصل إلى ما أراد بأقل خبر .وهذا بحد ذاته إعجازُ مجازيٌ يتألق في شعر زياد .

وتلك ليست كثافةُ قولٍ بقدر ما هي سمينُ فكرٍ وتجربةٍ وعطفُ قولٍ على عمل ، فزياد لم يأتِ أرضَ القصيدةِ مرغماً أو طامعاً في مجدها أو مُعتَلٍ صهوتَها قصدَ الوصولِ إلى قمّةً .. هو في الأصلِ سلسلُ القمم ، ينزل إلى سفوح القول متفقّداً مواضعَ وشمِ فرسانِ الّلغة ، لا يستعرضها ، يستحضرها من موقعٍ موازٍ ، من على متن جوادِ الحضور .

gel

ولمَ هذا الإستحضارُ ؟ ليؤجّجَ الأسئلة ، لا شعرَ بلا أسئلة ، الشعر هو الأسئلة ، ما أدُّعيَ شعراً وكان بلا أسئلةٍ ما هو إلا حشو نواويس بريش طواويس ، وليس إلّا وأداً للغة .

زياد يأتي أرضَ القصيدة شاكي المجازَ يتأبّط شعراً وفي بادي مِجَنّه نصالٌ تكسّرتْ فوق نصالِ .

المرايا هي الوقوفُ أمام الذات ، مُساءلتها ، الحسابُ الذاتي ،

أين كنتِ معي ؟  أين عليَّ ؟ وإيّانَ؟ في أيّ آنٍ  ؟

المرايا استجلاب التاريخَ ، هذا العجوف ، تغيّثاً لا استغاثةً ، فكيف تستغيث بقاتلٍ لم يمطرك سوى بجراحٍ تتكرّر ؟ تَكَسُّر النصالِ فوق النصالِ ؟ أبو الطيب المتنبي .وفي لبان أدهم عنترة !

لو كان يدري ما المحاورة اشتكى ..

لماذا يطلُ حصانُ النشيدِ كئيباَ؟

هكذا يراهُ الشاعرُ ؟ أم يُهيأ له ؟

ألأنه يكابدُ في ميدانٍ لم يشأ أن يصول فيه جائلاً هذه المعمعة؟ صغيران عليه ، هذا الميدان وهذي المعمعة .

أم لأن الرصاص الذي يتلقاه كأشطان البئر رصاصُ غدرٍ هو.

قوانينُ المعركة تشوّهت ، لا التحام بين فارسين ، وليس الحديثُ عن تحديثِ أسلوب ، أنت تُقتل عن بعد ومطيّتُك الّلغةُ تُنتهكُ برصاصِ قنّاصةٍ لا تراهم ، تخلوا عن شرف المواجهةِ ولاذوا بمتاريسَ لا تليق بمجدِ الشعر ، أجازوا لأنفسِهم وضع معاييرَ النّصرِ ومساهمةَ الغنيمة .

قصيدة زياد تتألّقُ في مواجهة الخنادق المعتمة ، تتوهّج في إثارة الأسئلة ، أرضُ القصيدة خاليةٌ من الغبار ووقع حوافر جيادها تثيرُ الحيرةَ والتساؤلات . هو يقولُ  وما خلا ذلك فهو معمعان ضجيجٍ لا طائل من الخوضِ  فيه .

لو قبلنا بمصطلح التّناص فكل اللغة تناصُ.

كما للإنسان روحٌ فللقصيدة روحٌ أيضا ، الشاعر يستحضر روح قصيدةِ ما ويغرسه في قصيدته وعليك أنت أيها المتلقّي دون تناص الحروفِ أن تخلُص بذكائك وحده إلى ما استحضره .

يدخل الشاعر في الأزمة حين تتوقّف الّلغهُ عن مجاراته ، بمعنى آخر  تخذله لعجزها عن الاتساع لمبلغ طاقته .

الشاعر الخارق ليس من يملأ فراغات الوقع بالحروف ، إنما من لا تستطيعُ الحروف إيفاءه وعد طاقتها، فهو ببعض منها يؤدي فوق ما قد تحمله ويظل على طوى الشعر لأنه سوف يخملها فوق طاقتها .

وعليك أنت كمريد أن تستمدّ طاقتها وتستخلص عصارتها مما لم تقرأه مباشرة في النصّ ، فيجعلك الشاعر شريكاً في الاستحضار ، ومن لم يستطع ذلك فهو ليس بشاعر .

الشعر ان ترى ما لا يُري ظاهرُ القصيد ، أن تستشعر ذلك الوشم الخفيّ في ما دَرَسَ من ملامح أديمها ، عليك أن تكون الريّح الّتي تذرو ما ترسّب فوقها لتبصر ومن لم تكن روح الشعر فيه فلن يكون ريحاً في مفازاتها ولن تنكشف له أو تفتضح أسرار حكمتها .

وتسأل ما سرُّ كآبة الشاعر وهو كلما حاول فكّ رموز الحالة الشعرية تتبعثر أسبابُ الطمأنينة بين يديه كالرّمل الجاف !

أجل ….ما أشدَّ اتساع صحراء الشعر وما أقلّ قطر الشعر فيها .

أخي زياد مبارك غيثُك المميّز فوق بيداء الفرح.
_________

*شاعر وكاتب من فلسطين

 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *