ثقافات
*جواد غلوم
تكاثرت في الآونة الاخيرة بزمننا الأحمق هذا ممارسات تخريبية غاية في الخساسة والحطة والمهانة تتمثل في عمليات تخريب وهدم معالم فنية من النصب والتماثيل الخاصة بالنخبة الراقية من مفكري أمتنا النجباء الأحرار وكأنّ مايجري من قتل ونزوح وإجرام بحق الإنسان لم يعد كافيا ؛ إذ عمل الغوغاء الرعاع الغارقون في الجهل والتزمّت والانغلاق وتمادى التخريبيون وأراذل المنحطين على تخريب وتحطيم وتهشيم شخوص تماثيل فنانينا ومبدعينا من المفكرين والشعراء في بقاع مختلفة في وطننا العربي المهان من أهله قبل أن يهان من الأغراب والأجناب.
ففي محافظة نينوى وحدها التي كانت تسمى ام الربيعين وأضحت خريفية في كل مواسمها أطيح بتمثال الشاعر المجدد حبيب بن أوس الطائي المكنّى بأبي تمام وقد حورب هذا الشاعر المجدد العسير الفهم لدى مسطّحي الأذهان بعصره قبلا في عهد العصر العباسي ولم يسلم تمثاله وسط الموصل من معاول هدم نصبه في عصرنا ، ثم لحقهُ في الهدم تمثال الملاّ عثمان الموصلي الشاعر ومبدع الموشحات وباعث الألحان الشهية السمع وملهم الاغاني الخالدة والتي أتذكر منها لحن “زوروني بالسنة مرّة ” وأغنية ” فوق النخل ” الذائعة الصيت في كل أرجاء وطننا العربي وأغنية ” طلعت يا محلا نورها شمس الشموسة ” التي نسبت إلى سيد درويش جزافا والتي غناها درويش في مسرح الاسكندرية مع أنها من لحن الموصلي وقد أعطاها له ليغنيها خلال زيارته لمصر أوائل القرن العشرين .
فيلسوف الشعراء أبو العلاء المعرّي هو الآخر قد سقط أرضا وصار رأسه ركاما وأنقاضا تحت مداس الدهماء المخربين في معرّة النعمان السورية ولم يقفوا عند هذا الحدّ فأومأ دعاة الهدم الهمجيون لأقرانهم في مصر للإطاحة برأس ابنه ورفيقه الحميم طه حسين في مدينة ” المنيا ” صعيد مصر مسقط رأس عميد الأدب العربي فوقع أرضا معفّرا بالتراب تحت أقدام الأسافل.
مثالان صامتان لأعميين يرعبان هذه الحشود المتخلفة الغريبة الطباع لا لشيء إلاّ لأنهما متنوران أوقدا بصيرتهما لنا لنرى ممرا إلى الخلاص والنجاة ولكنْ سعَـى الجناة لأطفائه مثلما فعل الأجداد ؛ وها هم الأحفاد ينفذون وصايا الأولين .
وكما لايخفى بين الاثنين طه حسين والمعرّي من وشائج وعُرى لا يمكن فصمها أو فكّ وثاقها فكلاهما انصهرا في أتون التنوير وكانا مثالَين ساطعين في الكشف عن كل ماهو شائن في فكرنا وإظهار وتزويق اللامع في تراثنا وغربلة ماعلق من فكر ضارٍ في عقولنا وزعزعة الكثير من الثوابت التي كنا نتعكّـز عليها ، كانا يحملان عقلا قلقا وروحا متمردة على الغثّ وخطل الرأي وكانت بصيرتهما توقظ بصرَنا المائل الأحول وتدلّنا على مأوى الجمال ومثوى الإبداع والصدق بأسلوب غايته الإقناع بطرائق عقلية ناضجة بعيدا عن التزمّت والكراهية وهوى النفس النازعة للإعوجاج والميل عن السداد والتعقّل والاستقامة.
في هذا الزمن الوغد ، ودون أيّ استحياء أو خجلٍ يعتلي مجموعة من الهمج الرعاع القاعدةَ الهرمية لتمثال يمثّل عميد الادب العربي الدكتور طه حسين ويسرقون رأسه ؛ بعد ذلك حطموا القاعدة التي كان يستند عليها .
يومها نهضت مدينة ( المنيا ) كعادتها كل يوم ولم تجد تمثال ابنها البار النابه طه حسين في الميدان ؛ كان شارع الكورنيش كئيبا غاصّاً بالبكاء الى حدّ الجهشة ، والسابلة في حيرة من أمرهم مذهولين متسائلين ما الذي جرى ؟؟ والنسوة يبكين في نواح وأنين واضحين على اختفاء رأس التمثال البرونزي الذي بيع حتما إلى تجار المعادن للحصول على ثمنه ، فما نفع ثمن العقل في بلاد تبخس الناس الفكرَ النيّر والتحضّر ؟! .
وكأني ألمح نفس المشهد المؤثر حينما صحتْ بغداد صباح يوم كئيب ولم تجد رأس تمثال أبي جعفر المنصور في ساحته الرئيسية في الحيّ الشهير المسمّى باسمه فقد تم سرقته في ليلة ظلماء في عملية مخزية رعناء ليندسّ في كيس خيش رخيص ويذوب لاحقا في مصاهر الخردة ليقبضوا ثمن النحاس المصنوع منه.
وقبل بضع سنوات خلال الحرب المستعرة في سوريا والتي لم تهدأ إلى الآن رغم دخول سنتها السادسة ارتقى رعاع آخرون تمثالا آخر ولكن في مدينة أخرى اسمها معرّة النعمان في سوريا منبت ومحتد الأعمى نافذ البصيرة ورهين المحبسين وهدموا تمثال شاعر الفلاسفة أبي العلاء المعري. فهل يعلم أن هؤلاء السرّاق ودعاة الهدم أنهم بفعلتهم هذه قد أفسدوا كل مباهج الحياة وهشّموا الرقي والجمال وحفروا قاعا لكل ماهو بهيٍّ وممتع؟
لقد صدق أبو العلاء حين سمّى نفسه أبا النزول حتى كأنه يتنبأ إنه سيطاح به أثراً في بيته الشعري التالي :
دُعيتُ أبا العلاءِ وذاك مـيْـنٌ —– ولكنّ الصحيح أبو النزولِ
هذان الخالدان أورثانا لمعان التنوير وأبرزا شعاع الرقيّ والنماء في عقول جيلهم والأجيال اللاحقة ولا يمكن أن تمحى إبداعاتهم بضربة فأس أو معول هدم .
لماذا تريدون أن تفسدوا كل ماهو جميل ، لماذا تكدّرون معين مائنا بأطيانكم القذرة ؟!
لاعجب أن يتمّ قطع رأسَ المعرّي وسرقة رأس طه حسين فهم يخافون رؤوس التماثيل مثلما خافوا قبلا من عقولٍ حوَتْها تلك الرؤوس المشعّة بالتجديد والعقلانية.
هل هؤلاء المجرمون بفعلتهم الشنيعة — بكل بساطة — جهلة وفاقدو البصيرة ؟؟