رمش عينُه اللى ذبحني رمش عينُه

خاص- ثقافات

*مريم لحلو 

هو

وجهك الحليبي الناعم هو هو لم تغادره الفتنة يوما. وتبدين أجمل وأنت نائمة،مستسلمة، هادئة القسمات على غير عادتك طول النهار.لا يزعجك المصباح أو التلفزة أو خشخشة الصحيفة وأنا أقلبها صفحة صفحة، أتابع فيها أخبار رفاقي القدامى الذين انفصلت عنهم مذ عرفتك، وتركت لهم الفرصة ليسبقوا أحلامي التي ذبحتها قربانا لجسدك الشهي، وصباك الفوار. بدهائك الأنثوي اصطدتني أنت الطفلة وأنا الكبير.أنت الساذجة التي لم يخرب رأسك تعليم أوقراءة أوسهر.وأنا …حقيقة لا أجد كلاماً يصفني..
حاولت الفرار من أسرك إلى المدن الكبرى، حيث تجد روحي روحها، عرفت نساء كثيرات…ولكن، ولا واحدة  من اللواتي أكملن الحديث الشهي معي في المقاهي، أو في أمكنة أخرى مغلقة استطاعت أن تعلو فوق صورتك..فأنت أنت، وأنا أنا بلا حيلة. أتذكر فقط جنبك البض الدافئ وهو يلتصق بجنبي، وقد ارتقيت خلسة الدرجات نحو غرفتي المنعزلة في السطح الكبير. قلتُ “خلسة” كذلك كنت أظن، ولكن الحقيقة أنها كانت مؤامرة مدبرة الأطراف بين أمي وأمك، وقد تلصصتا على صوري الجماعية مع صديقاتي ومعجباتي..والأكيد أن أمي ضربت على صدرها خوفا علي من “الأجنبيات” فألقتك بكامل أنوثتك وبراءتك في طريقي. والعجيب أنني استسلمت راضيا. ثم كبلتني بالطفل وراء الطفل فصرت أسيرا “لسيريلاك” و”بروفان” و”ماكسيلاس” وللطلبات التي لا تنتهي. وتيبست أناملي التي كانت تلف في الحرير..
تتململين في نومتك كأنك تسمعين هذا الهدير بجانبك.. تجرين الغطاء وتأمرين عبدك ،وأوامرك دوما مطاعة ، بأن يطفئ المصباح وينام.وأطفئه ولكن لا أنام …

هي

تطفئ المصباح،تظنني نائمة فتجرؤ على تأمل وجهي .. وجهي الذي نسيت ملامحه  .. أحس بنظراتك الرهيبة لافحة على خدي الأيسر كشمس غشت…جاهدت كي أتناوم حتى لا أرى تلك الخيبة في عينيك.ها هو فمك ينفتح وخيط لعاب رقيق ينساب كوتر كمنجة  توقع  عليه لحن لامبالاتك بي أيها الفنان الكبير.تجد يدي فوق زندك ثقيلة فتسقطها عنك،أما قدمك فتهرب بعيدا عن أصبعي الصغير إن حاول مناجاة أخمص قدميك وكأنما لسعتك كهرباء حقيقية وأتحسر على المس الكهربائي القديم.تفعل ذلك في صمت متواطئ مع دقات الساعة المنبهة العتيقة على طاولتك الليلية. تنأى بجسدك الرخو إلى حافة السرير حتى إنني أتخيل أنني بنفَس من فمي سأسقطك أرضا. . أهكذا صرت مقززة إلى هذه الدرجة؟؟ أولي ظهري عنك إلى حافة السرير الأخرى فتمتد بيننا صحراء تيه تجري فيها ريح باردة …وتبيت تلك المنطقة الوسطى المتقعرة أسيانة متذكرة ودنا الآيل للأفول …
ينشرخ شق في ذاكرتي فيوصلني إلى أولى أيام زواجنا وكيف نمت لك أجنحة تحملني بها إلى المستحيل ،وكيف وضعت شريط فيديو لنشاهد معا ذلك المسلسل المصري المسمى “أديب”.ولإغرائي كنت تضع في فمي المكسرات وتحشو ذهني الساذج بقصة حميدة وإبراهيم.يأخذني التبسم ،وأنا أتذكر تقليدك لنور شريف في حركات استعراضية مضحكة:
– أريد امرأة كلها قلب، وأنتِ أنتِ هذه المرأة.
ولكني، كنت لا أستطيع تقليد نورا أو أراك ،على الأقل مثلما كانت ترى حبيبها أحسن من كل أولئك الكتاب الذين وددت أن تجد لنفسك مكانا بينهم.ويبدو أنك انسجمت في الدور عندما وضعت الجريدة المحلية الصفراء التي نشرت أولى كتاباتك بين مؤلفات كاتبين نصرانيين. وردّدتَ بنفس طريقة إبراهيم أونور الشريف في المسلسل إياه وأنت تراقصني :
– أنا لامرتين وهوجو معا يا حميدتي الملهمة…
أعرف أنك تحمّل حميدتك الملهمة المسؤولية كاملة ولا ترى في ذلك أي انتقاص من رجولتك.  صحيح  أنني لا أحسن تنضيد الكلمات ،ولكن ،أليست لي مشاعر أنا أيضا؟ احترمها قليلا أرجوك .فقد علمتني عشرتي بك المجاز والاستعارة والكناية وشم عبير النساء بين السطور فلا تظنن نفسك الفهمان الوحيد.
ثم ألم يكن من حقي أن أتزوج شاعرا ؟كلنا كان يقاتل من أجل تحقيق أحلامه.وحلمي الصغير البسيط مثلي هو أن أكوّن أسرة، وأعيش تحت ظل رجل لمحت في عينيه تقديرا لشيء ما في.لِمَ يغرق اللوم عينيك وأنت الذي اختار؟؟كنت في كامل نضجك واخترت.والأكيد أنك قلبت الموضوع ودرسته وكانت كفتي هي الراجحة.ماذنبي أنا إن فزت في حرب تبين لي فيما بعد أن الرابح والخاسر فيها  سيان…

هو

يزدرد ريقه من جانب فمه كقطعة سباغيتي لزجة. يعم الهدوء الغرفة. يعود لتأملاته كأنه لم ينم. تقطع تنهيداتها وتترك عينيها مفتوحتان في الظلام. يحاول أن يراوغ نفسه قليلا،فطالما كان لاعب كرة ماهرا،كما أن صدق النفس يزري بالأمل،ولكن نفسه خرجت من قمقمها وتأبى العودة إلى طمأنينتها العجيبة. من ذلك المعتوه الذي قال إن إيقاظ النفس هو الهدف النهائي للفن ؟ أليس من الأجدى،خصوصا في عالمنا الثالث،تركها في نومتها الكهفية. ومن قال أيضا: ما الفائدة أن يجد الإنسان ماظل يبحث عنه بعد فوات الأوان؟ومادام هذا الأوان قد فات، لمَ يظهر؟ فليبق متخفيا ماتبقى من العمر.
وهذا الورم اللغوي الواقف في حلقك الذي تغذيه كل يوم ،ألا تستأصله وترتاح أو تقايضه بحرف أو بلون أو بأغنية رديئة ؟لا أصعب من وجع الكلام والعمر أغلبه أصبح وراءك تحمله ككيس ثقيل تنقله من كتف إلى كتف دون أن تشعر أن قامتك بدأت بالتقلص ،والاحديداب. ..
أف..لماذا أستسلم لهذه المونولوجات الغبية المصْمَتة. فلأعد ،كما كنت دائما ،رجلا بلا ملامح،ملامحه كلها تطل على الداخل تماما مثل مسكن عربي قديم…ولأنم..

هي

تغمز العينان الجميلتان الحائمتان  حول النافذة المعتمة كل واحدة منهما للأخرى… في حركة متواطئة تنزلقان من شق في المصراع..تهويان في حركة بهلوانية نحو الأسفل .يحتضنهما الجفنان عندما تبهرهما الأضواء الساطعة للمتاجر والمقاهي.جنبا إلى جنب تجريان في كل الاتجاهات متنسمات عطر الحرية، تفترقان في الشارعين المتوازيين على وعد بلقاء أعلى الناصية..تباغت أحدهما الأخرى فتفزعان ثم يغشى عليهما من الضحك..تصمتان لعلمهما المسبق أن كل ضحك كثير يتحول إلى نقيضه.لم تنتظرا طويلا إذ لمحتا طائرا كبيرا يود شربهما في رشفتين،تفران .تلاحقهما الكلاب.تجدان في الفرار..تشعران أن العالم كله يلاحقهما بكلابه وعفاريته وأنها كلها مسرحة فقط لابتلاعهما ..آه ما أقسى العالم!! تقولان بأسى لاهث … عندما تشعران ببعض الأمان تسقط منهما دمعتا فرح على خد كهل خرج لتوه من حان…ببطء شديد يرفع رأسه مهيئا سبابا لائقا بخفاش أوبومة. تسحره العينان. يرفع يده ليقطف رمشا طويلا ليحارب به وحوش الليل..ولكن حركته الثقيلة أفلتت العينين الساهيتين. يشيعهما بصوت مبحوح:
– رمش عينو اللى ذبحني رمش عينو…مين ياناس يحكم مابين قلبي وبينه…
ثم يضيف مستغربا :
– عيون تتجول ليلا ؟ ألا يجدر بهما الإغماض لقبلة رجل  يعلق همومه عند مدخل الدار كل مساء ؟؟
يعود للحنه السابق:
–  رمش عينو اللى ذبحني…
لاهثتين تصلان إلى الشق في النافذة .لا أحد رأى…ولا أحد علم….تنزرعان على الظهر النائي  الذي أصبح في رحابة السماوات …يجدان أنملة السبابة تخطط قصيدة حب على الظهر الفسيح .

هو وهي

بلا حيطة أو حذر أو ربما قصدا أراداه أن يبدو كالصدفة تلتقي العيون الأربعة كأنما هي على موعد، تهدأ الخيول التي ظلت تخبّ لياليا  بين العقل والقلب..ترتعش الأعصاب..يركبان موج الفجر دون شراع في هدنة أنجبت كل تلك الأغلال..في شبه حشرجة تسمعه يردد:
– رمش عينُو اللى ذابحني رمش عينُو …مين ياناس يحكم مابين قلبي وبينو…
تقول له فيما بينها وبينها :أتعرف وأنت تحيطني هكذا بذراعيك أحس أنني أتفتت شذرة شذرة  تماما كما يفعل البحر بأطراف الوهاد وهي مصرة على احتضانه كلما عاد.
ثم ينام  وتنام.
___
*أديبة من المغرب

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *