أصبح الحديث عن ضرورة تجديد الخطاب الديني وتطوير ملامح المشهد الفقهي المعاصر ضربا من التغريد خارج السرب رغم تعالي وتوالي الدعوات المتجددة بهذه الآلية المقترحة لكن تظل كافة الدعوات قيد التفكير داخل صندوق التفكير الاعتيادي ما لم تؤخذ بعين الاعتبار والجدية في التطبيق والتنفيذ . وغاية العجب أن كثيرا من العقول المفخخة التي لم تعي حتى اللحظات الآنية أن فقيه الخلفاء الفاروق عمر بن الخطاب من أوائل الذين جددوا في الفقه الديني الذي كان وثيق الصلة بالرسول الكريم ( صلى الله عليه وسلم ) ، وكان مفاد التجديد لديه مراعاة المتغيرات الاجتماعية والرفد الثقافي المتجدد آنذاك .
ولا شك أن تعثر الخطاب الديني المزمع تجديده وتطويره يأتي من قبيل عنصرية النخبة من ناحية ، والحق المطلق الذي اقتنصه بعض علماء الأزهر الشريف وهم غلبة في التنازع مع التنويريين بالمؤسسة الدينية الرسمية من ناحية أخرى . النخبة لا تزال تعيش في إحداثيات ستينيات القرن المنصرم بثقافته وطروحاته التنظيرية المملة ، أما الأكثرية الأزهرية المعارضة فهي تلك الفئة التي ظلت بمواجهة المشروع النهضوي التنويري الذي دشنه المجدد الأستاذ الإمام محمد عبده ، وسار على نهجه كل من طه حسين وعبد المتعال الصعيدي . والمشكلة الحقيقية لهؤلاء هي الأخذ بمنهج التفكير العلمي والاستقراء والتأويل وإعمال العقل في بعض القضايا الفقهية وليس الأخذ بالعلمانية أو الدعوة إلى التحرر من شرائط الدين وضوابطه .
ووسط غفلة متعمدة تنبغي الإشارة إلى أن عائق التجديد في الماضي يركن إلى سياسات الخلافة العثمانية ومنطقها في التعامل مع دعوات الإصلاح ، فالقاصي والداني المستقرئ لكتاب التاريخ الإسلامي لاسيما الحديث يعلم علم اليقين بأن الدولة العثمانية منذ بداية سقوطها التاريخي وتحولها إلى رجل مريض سياسيا عملت على تقويض كل نزعات الاجتهاد ، واجتهدت هي في إفقار البيئات العربية التابعة لها من أي نزعة تجديد ، والتاريخ يذكر أن الدولة العثمانية منذ نهايات القرن الثامن عشر لجأت إلى إكراه المجتمع بفتاوى من شأنها نزع الصلات بين المواطن العربي النسب والبيئات الحضارية الأخرى ، حتى يمكننا الأخذ بتأويل رجال التاريخ بان الحقبة العثمانية وقت سقوطها كانت أنموذجا للانحطاط الفكري واللغوي على السواء .
هذه الإطلالة السريعة على عثرات تجديد الخطاب الديني الذي يؤسس في مجمل الظن لمواجهة الفكر المتطرف من ناحية ، وتنوير المجتمع من ناحية ثانية، من أجل مجتمع خالٍ من رائحة التطرف وكراهية ونبذ الآخر ، ورغبة صادقة في انمحاء الإقصاء بشتى صوره ، يجلس على الشاطئ الآخر المواجه لشاطئ تجديد الخطاب الديني خطاب يحتاج إلى عزيمة صادقة ونوايا وطنية واستثنائية لتجديده أيضاً ، هذا الخطاب هو الخطاب الثقافي الذي بات مهددا بفعل الفقر المعرفي من ناحية ، وبشهوة وهوس الانفجار المعلوماتي المحموم والذي تتيحه شبكات التواصل الاجتماعي الإليكترونية كالفيسبوك وتويتر .
ونعيش الآن في عصر تتسارع فيه المعلومات، بل وتتصارع في ظل ما وصلنا إليه من تقدم تكنولوجي وثورة معرفية، آخذة في الازدياد بحكم المستجدات التي طرأت على ما عندنا من علم ومعرفة والتغيرات المستمرة في حياتنا ، وما يتبعها من تجديد وتطوير في أسلوب حياتنا ، وغاياتنا منها في مختلف المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية وغيرها من ميادين الحياة الأخرى .
والدول المتقدمة فكرياً وعلميا لم تصل ـ في عصرنا الحاضر ـ إلى ما وصلت إليه من تقدم علمي وتكنولوجي إلا بواسطة القيام بعمليات التطوير والتجديد والإبداع والابتكار وتحديث خطابها الثقافي، وسيكون المجال أكثر انفتاحا على مصراعيه للتجديد والإبداع طالما أطلقوا لعقولنا مجال التفكير .هذا لأننا متفرغون لقضايا أهم وأبرز ، لاسيما الرياضية التي مازلنا مصرين على عدم تحقيق الفوز في أنشطتها ومبارياتها.
فلقد أسفر الخطاب النهضوى العربى الصنع عن العديد من الاتجاهات والتيارات التى لا تزال تقف حائرة أمام جدلية التعانق بين الدينى والسياسى، وهذه الجدلية هى التى أفرزت لنا خطابات لغوية متباينة ومتنافرة يسير كل منها فى اتجاه مغاير، تتلخص أغلبها فى مواضعات محددة مثل التبعية، والابتداع، والغفوة، والتأخر، والتقليد، ومفاهيم الحرية والديمقراطية والشورى والعدالة الاجتماعية، وغيرها من المواضعات التى تزيد من الهوة السحيقة فى اللقاء الحتمى الدين والسياسة. وكل هذه المفردات بالقطع تدخل تحت مظلة الخطاب الثقافي الذي بات حائرا بفضل النخبة التي أغرقت القارئ والمواطن العادي على السواء بمتاهات المصطلح ودلالاته المتباينة .
ورغم أن فكرة التنوير ليست بجديدة على الخطاب العربى، بل لها مهاد تاريخى ضارب فى القدم، إلا أن معظم المنظرين العرب لا يزالون يسعون لاقتناص لحظة مقاربة بين الدينى والسياسى، والحق أن هذه اللحظة قد تحققت منذ ما يزيد على ألف سنة تقريباً، حينما مكث النبى محمد (صلى الله عليه وسلم) فى المدينة المنورة، واستطاع أن يؤسس دولة فى صورتها الأولية، هذه الدولة البسيطة فى أنظمتها ومؤسساتها هى التى سمحت ولأول مرة فى تاريخنا العربى للتعايش بين الدينى والسياسى.
وبينما يصطدم المعاصرون بفكرة عدم التعايش بين الدينى والسياسى هذه الأيام لكثرة المصطلحات المتنافرة بين الاتجاهين، نرى أن التأسيس الأول للدولة فى الإسلام على يد الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) كان منوطاً بالنجاح؛ فالبيئة العربية حينئذ كانت مهيأة تماماً لقبول كيان سياسى ذى طبيعة مغايرة غير تلك التى ألفوها وقت عبادة الأصنام، حيث القوانين عرفية تتغير وتتبدل وسط قلق مستمر من اللصوص وقطاع الطرق، وارتباط السيادة السياسية بالنفوذ الاقتصادى والتجارى مع عدم إغفال المكانة الدينية.
وأكاد أجزم بأن فكرة التنوير التى راح المتشدقون بها فى القرن التاسع عشر الميلادى لم تكن وليدة هذا العصر، بل استطاع الإسلام، وهو يؤسس كياناً سياسياً فى المدينة، أن يقدم مهاداً صالحاً لفكرة التعانق بين الدينى والسياسى، هذا التعانق حققه القرآن الكريم بتعاليمه السامية التى تناولت حقوق العدل مثل قوله تعالى: “إن الله يأمر بالعدل” (النحل : 90)، وقوله تعالى: ]وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل [” (النساء :58)، وأيضاً تعاليم الإسلام التى جاءت تحض على إعلاء مبدأ الشورى، يقول تعالى فى محكم التنزيل: ] وأمرهم شورى بينهم [” (الشورى: 28). وهنا لابد من التنويه على حيوية الخطاب الديني الذي كان بعيدا تماما عن كل محاولات التكفير والتفسيق للآخر ومن ثم اتسمت الثقافة آنذاك بقبول الآخر وحتمية التعايش معه في سلام وطمأنينة.
وإذا كان الخطاب الديني أثر في المشهد الثقافي العام في دولة المدينة التي أسسها الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فاليوم الخطاب الديني نفسه بحاجة ملحة لتطويره وتجديده الشأن الذي ينعكش بالضرورة على خطاب ثقافي بدا مترنحا لاسيما والنخبة لهثت وراء المساجلات الفكرية التي يثيرها تجار الكلام في لحظتنا الفارقة.
وملف الثقافة المصرية هو أخطر الملفات التي يجب الالتفات إليها وخصوصا وأن المشهد الثقافي والذي تغلب على سماته الطابع الديني عقب المد الاستثنائي لفصائل الإسلام السياسي أبان ثورة الخامس والعشرين من يناير في مصر ، وخطورة ملف الثقافة أنها ـ أي الثقافة ـ لم تلتفت حتى الآن لما اجتاح العالم من مدن خاصة للمعرفة ، نعم هناك مدائن أنشئت خصيصا للمعرفة.
فالمعرفة من أبرز ملامح القرن الحادي والعشرين ، وتكاد تشكل مركزاً محورياً في أجندات الدول المتقدمة وهي تسعى لبناء نهضتها ، حيث إن الاستثمار البشري والتنمية القائمة على المعرفة حلت محل الاستثمار المادي والتنمية القائمة على الاقتصاد . هذا المعنى نفسه ما أشار إليه فرانشيسكو خافيير كاريللو في كتابه ” مدن المعرفة ” Knowledge Cities ، من جهة أن العالم المتقدم الآن يتسارع بصورة محمودة في استثمار الطاقات المعرفية للمواطن .
وأن فكرة حث المواطن على الابتكار والاكتشاف لم تعد من أفكار الترف والرفاهية ، بل هي ضرورة حتمية لمواجهة تحديات وتطورات هذا العصر . وأنه ثمة مصطلحات أصبحت أساسية في قاموس تقدم الأمم وتميزها الحضاري مثل مرافئ المعرفة ، والطبقة المبدعة ، وشركات المعرفة ، ومحركات الابتكار ، ومواطن المعرفة ، واكتساب المهارة .
وفكرة التنمية القائمة على المعرفة تخطت الحيز التصميمي والتنظيمي والتخطيطي لتكون واقعاً مرئياً ملموساً ، بدليل تشييد مدن تم إنشاؤها لتضم المئات من الخبراء والمتخصصين في العلوم التكنولوجية هدفها جعل الإنسان هو رأس المال المستقبلي ، وتصب مجمل اهتمامها في جعل القرن الحادي والعشرين هو قرن المعرفة ، في الوقت الذي تبذل فيه دول أخرى لاسيما في أفريقيا جهوداً مضنية للحد من تفشي ظاهرة أمية القراءة والكتابة ، بالإضافة إلى محاربة مظاهر التلوث البيئي والانتشار المحموم للأوبئة والأمراض.
وبدأت دول بالفعل منذ بداية العقد التاسع من القرن العشرين في إقامة مدن للمعرفة تحتضن الكوادر المبدعة من أجل استثمار المعرفة بمشاركة رجال الأعمال ومنظمات المجتمع المدني ، مثل مدينة راجوزا ، ومدينة معمل العقل بالدنمارك ، ومعمل أفكار مومينتم في شمال زيلاند ، ومدينة المعرفة في برشلونة ، ومدينة المعرفة في بلباو ، وبالتأكيد كان لدولة إسرائيل نصيب من تشييد هذه المدن المعرفية فحولت مدينة حولون من مدينة راكدة مهمشة إلى مدينة مبتكرة ومبدعة وصانعة للمعرفة.
والعجيب في هذه المدن ليس فقط فكرة إنشائها فحسب ، بل حرص الدول التي قامت بإنشائها على اصطفاء وانتقاء المواطنين الذين يعيشون فيها ، فلقد حددوا مجموعة من المواصفات والشروط التي ينبغي أن تتوافر فيهم من أجل التمنية المستدامة لهذه المدن وإزالة أية عقبات تقف في طريق تشغيل المعرفة وإعادة ابتكارها.
فمواطن هذه المدن لابد وأن يكتسب عدة صفات حتى يستطيع العيش بها ، مثل صنع المعنى وليس استقباله كما يحدث في الدول المستهلكة للمعرفة من خلال المكوث طويلا أمام البرامج الفضائية ، وأيضاً الحفاظ على هويته الحالية لا الهرولة وراء التقليد الأعمى وراء التيارات والفلسفات التي انتهى بريقها منذ عشرات السنين ، وكذلك رغبته الحقيقية في التأليف المشترك والعمل المشترك والإنتاج المشترك ، مع حفاظه على تقاليده الموروثة .
كل هذا ، وينبغي على مواطن مدن وأقاليم المعرفة أن يشارك في وضع استراتيجية للعمل من أجل تطوير المعرفة . وتشير المواضعات الاصطلاحية لمدينة المعرفة على أنها بيئة تشجع وتسمح بحدوث تدفق كثيف ومستمر وغني ومتنوع ومعقد للحظات معرفية ، واللحظة المعرفية هي خبرة إنسانية تلقائية أو مخطط لها ، وفيها يتم اكتشاف وخلق ودعم وتبادل المعرفة إلى شكل جديد. بالإضافة إلى تعدد لغات الكتابة لديه. ولك أن تتصور دولة مثل سنغافورة مثلاً أعلنت استقلالها عام 1956 م، ومن وقتها بدأت في إعادة هيكلة الاقتصاد ، وقامت كما قام غيرها من الدول في تحريك عجلة التنمية.
فانتقلت من مرحلة التصنيع التقليدي إلى التصنيع المتطور ، ثم بدأت عصر البرمجيات وحزمها المتعددة، ثم استقرت مؤخراً على إقامة شركات للمعرفة ، حقاً المعرفة أصبحت لها شركات متخصصة ، بدليل وجود 3600 شركة عالمية بها اتخذت من سنغافورة مقراً إقليمياً لها لإدارة المعرفة.
والأمر جد خطير ، في أن تسعى دول لإقامة وتشييد مدن للمعرفة ، فليت وزارات التربية والتعليم العالي بوطننا العربي تسعى إلى أن ترسخ بعقول أبنائنا أهمية اكتساب مهارات المعرفة ومن ثم استخدامها واستثمارها ، وتشجيع ممارسة حقوق حرية الاختلاف الفكري ، وأن توضح حقيقة وجود مسافات اجتماعية وثقافية بين الجماعات والحضارات، وهذه المساحة من شأنها أن يقابلها تقبل للآخر والمختلف والمتباين والمتمايز في الرأي والفكر والاتجاه.
واكتشفنا مؤخرا بأننا حالة غرق في فتنة الحكي وشهوة السرد السلبي ، وحالنا أشبه ببطل مسرحية صمويل بيكيت المعنونة في انتظار جودو ، الذي لم يجئ بالفعل لأن المؤلف توفاه الحي الذي لا يموت والأبطال غابوا وسط صفحات المسرحية ، إنها فتنة الحداثة التي تسللت خفية في طروحاتنا الفكرية والتي استدعت بالضرورة المطالبة بتجديد الخطاب الديني ومن قبله وبعده تطوير وتحديث خطابنا الثقافي النهضوي الذي لم يطرأ على إحداثياته أية تحديثات أو تجديدات منذ وفاة النهضوي الأكبر الإمام محمد عبده رائد التنوير في العصر الحديث وأن من جاء من بعده اجتر أفكاره وأعاد الصياغة بمصطلحات معاصرة لكن الحقيقة أن الواقع الثقافي المشهود لا يفي بمعطيات عصر يتسارع ومن ثم يتصارع .
وأوضحت التجربة الثقافية شديدة التمصير أن الحداثة وقفت طوعا عند حدود المصطلح دون أن تتعدى المد الزمني والمكاني لها وبالتالي دخلت المجتمعات المصرية المتعاقبة لاسيما النخبة في مساجلات تنظيرية حول المصطلح كالدولة المدنية والعلمانية والنهضة وشروط التقدم وإعمال العقل والتكفير وغير ذلك من الطروحات الفلسفية التي طغت على أرفف المكتبات الثقافية والجامعية دون أي تجديد مرتقب حتى وإن افترضنا أن ثمة محاولات فكرية تم رصدها مثل أفكار قاسم أمين وطه حسين وتوفيق الحكيم ويوسف إدريس ومراد وهبة وشكري غالي وزكي نجيب محمود وفرج فودة ونصر حامد أبو زيد وعابد الجابري وجابر عصفور هي محاولات لتجديد الخطاب العربي بصورة قصدية ، فإن جملة المحاولات التجديدية لم تخرج عن حدود بوابة النقد الواقعي لحالات راهنة آنذاك بغير اجتهاد لتقديم رؤية استشرافية ، وكانت النتيجة آلاف الأطباء والمهندسين والمدرسين بحجة أن المدافعة الثقافية هي حصول المرء على شهادة جامعية تحميه من ويلات المستقبل الغيبي دون سعي حقيقي للاكتشاف أو التجديد.
ولأن خطابنا العربي والمصري على وجه الخصوص أكثر ميلا لجلد الذات فإننا رأينا أنفسنا في حالة استغراق كاملة لطروحات النقد أو الجلد الذاتي لفترة ما قبل ثورة يوليو 1952 وتحليل ورصد يبدو مملا بعض الشئ لحكم الملك فاروق ومن قبله فؤاد والحالة الثقافية في هذا الوقت ، وبدلا من أن نستفيق على عهد ثقافي يتبعه خطاب فكري يميل إلى التثوير أكثر من استلابه صوب النقد وجدنا خطابا بعد نكسة يونيو 1967 يحلل ما سبق فكانت النتيجة حتى وقتنا الراهن مئات الكتب والرسائل الأكاديمية تحلل الخطاب الثقافي وتنقد وتنقد النقد ذاته في الوقت الذي استيقظت أنا فيه على وصول مركبة فضائية محملة بالعلماء والمستكشفين على سطح الكوكب بلوتو .
وبات مضحكا اجترار المفكرين لكتب بعينها مثل كتاب السؤال لشكيب أرسلان لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم ؟ مسردا كل عوامل التأخر دون أية إشارة ممكنة وليست مستحيلة للنهضة . ومن بعدها ظن المفكرون أن النهضة لا تقوم إلا على فكرة المصالحة والتوفيق بين الشرق والغرب وكان أحمد لطفي السيد وطه حسين يمثلان هذه الوجهة ، ثم تسارع الوقت لنصل إلى مرحلة الكتابات الغارقة في التنظير والنقد الطويل والتي مثلتها كتابات وجيه كوثراني وعبد الله العروي وفهمي جدعان وعابد الجابري وسمير أمين وغيرهم وهم يبحثون عن صياغة لخطاب عربي ينهض بالأقطار العربية وكانت النتيجة ليست لكتاباتهم إنما لفقر التوظيف الثقافي المهيمن مزيدا من الشهادات الجامعية وآلاف العاطلين والمعطلين عن الحراك الثقافي والعلمي بل والإبداع الفني الذي أودى بنا اليوم إلى جعل شخصية الأبله أو العبيط إن صح التعبير بطلا للعمل الفني أو جعل صوت الصفائح المعدنية بديلا للموسيقى.
وإذا أردنا بحق تثوير خطابنا الثقافي والفكري فالأولى اللتفاف بقوة وجدية وصبر بجانب المشروعات والبرامج التي يتم تدشينها وتأسيسها في مصر والوطن العربي ، وبدلا من التعبيرات السلبية صوب الكيان الصهيوني ومؤامراته التي لا ولن تنقضي بشأن تقويض الأمة العربية والوطن المصري فالأحرى هو اليقظة والوعي تجاه مشروعات الدولة والاهتمام بتحقيق نجاحها بلا من الاقتصار على الصمت أحيانا والسخرية أحيانا أخرى .
وهذا الخطاب العربي الراهن الذي لطالما يقع فريسة لفتنة الحداثة ومصطلحاتها غير المحددة لن يفلح بغير اهتمام واضح ومباشر بتنمية الهوية والأصالة الحضارية للشباب الذي بات مهددا بالإفلاس الفكري نتيجة هوسه بالتكنولوجيا كمستهلكين غير منتجين لها ، والأشد غرابة في واقعنا الثقافي الداخلي ظهور عشرات الكتب التي تحمل عبارة ” من الأدب الساخر ” في الوقت الذي نسخر فيه من الكاتب والقارئ والناشر على السواء ، حتى تجاربنا الثقافية المتضمنة بهذه الكتب لا تخرج عن عباءة الأحاديث التافهة بين شاب وشابة في كافتيريا أو مقهى راقٍ نسبيا وهنا نفصل بين هؤلاء وسياقهم الحضاري الذي بالفعل يغيب من بين أيديهم بغير رجعة .
والتوجيه المثالي هو الاكتفاء المرحلي بإعادة قراءة الماضي لاسيما وأن قراءاته النقدية ومناهجه أصبحت متعددة ولا حصر لآليات تناولها ، وهذه التعددية للقراءة بالرغم من أهميتها لذوي الألباب المستنيرة إلا أنها ستفتح أبوابا للجدل ومزيدا من التوتر المعرفي ، والاهتمام الأولى هو المشاركة في اللحظة الراهنة في نشاطات الوطن القومية بالكتابة أو الإبداع الفني والتشكيلي والموسيقي والإفادة من معطيات مشروعات الدولة في تحقيق مشاركة ناجحة لهؤلاء الشباب .