*سامي عبدالله
” – نصر حامد أبوزيد: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله.
– محمد عمارة: أنا سمعت تلفظك للشهادة، ولكني لا زلت أشك بمصداقيتها؛ بسبب أعمالك، فهناك تناقض بين ما تكتبه وبين إعلانك للشهادة!!”.
كان هذا الحوار جزءًا من حلقة “الاتجاه المعاكس” سنة 1996م التي كانت على إثر المحاكمة التي حدثت لنصر أبو زيد بمصر، وتم التفريق بينه وبين زوجته، ليرحل بعدها نصر إلى هولندا.
كان إنتاج “أبوزيد” يدور حول دراسة النص المؤسس للمنظومة المعرفية داخل العقل الإسلامي، من خلال دراسة العقل التفسيري عند المعتزلة، ودراسة المجاز عند ابن عربي، ودراسة مفهوم النص الذي ناقش فيها الصيغة العقدية عند المعتزلة بمقولة خلق القرآن، وأنه ليس كلام الله، وما يترتب على ذلك لاحقًا في معالجتها للنص، وأيضًا عند الأشعرية في تمسكهم بالمقولة اللاهوتية بأن القرآن هو كلام الله المحفوظ في اللوح المحفوظ، والمتنزل على النبي محمد من الملك جبرائيل، إلى ما يترتب على ذلك لاحقًا في كيفية تعاملهم مع النص.
إلى أن يقوده ذلك ليكتب كتابه في (نقد الخطاب الديني) على خلفية الهجوم من قبل الخطاب الرسمي والأيدلوجي الديني على حدٍّ سواء، الذي لا يتسامح مع التعددية، ويسعى لفرض خطاب الإسلام بصيغة جامدة، وبذلك ينتهي أي أفق للإصلاح يستوعب المتغيرات الحضارية للبشرية، حسب وصف أبوزيد.
النص والتأويل
النص في الفكر الإسلامي ساهم في تشكيل الحضارة، ولعب دورًا مهمًا في تحديد طبيعة علومها، فارتكازها للنص يجعل من التأويل -وهو الوجه الآخر من النص- يمثل آلية مهمة في تكوين المعرفة.
يرى نصر حامد أبو زيد أن النص في حقيقته وجوهره (منتج ثقافي)، والمقصود بذلك أنه تشكل في الواقع والثقافة خلال عشرين سنة، وإذا كانت هذه الحقيقة تبدو بديهية ومتفقًا عليها، فإن الإيمان بوجود ميتافزيقي سابق للنص يعود لينكر هذه الحقيقة البديهية، ويعكر من ثم إمكانية الفهم العلمي لظاهرة النص.
إن الإيمان بالمصدر الإلهي للنص أمر لا يتعارض مع تحليل النص من خلال فهم الثقافة التي ينتمي إليها، ولنقل بعبارة أخرى: إن اختيار الله ليوحي إلى نبيه محمد بلغة المستقبل ليس اختيارًا لوعاء فارغ، وإن كان هذا ما يؤكده الخطاب الديني المعاصر, ذلك أن اللغة أهم أدوات الجماعة في إدراك العالم وتنظيمه، على ذلك لا يمكن أن نتحدث عن لغة مفارقة للثقافة والواقع، ولا يمكن أن نتحدث عن نص مفارق للثقافة وللواقع، فهو نص داخل إطار النظام اللغوي للثقافة. إن ألوهية مصدر النص لا تنفي واقعية محتواه، ولا تنفي من ثم انتماءه إلى ثقافة البشر، وعلاقته الجدلية مع الواقع.
وللتأويل متغيرات تساهم في تعدده واختلافه، هناك طبيعة العلم الذي يتناول النص، أي المجال الخاص الذي يحدد أهداف التأويل وطرائقه، ثاني هذه المتغيرات هو الأفق المعرفي الذي يتناول فيه العالم المتخصص من خلاله النص؛ فيحاول أن يفهم النص من خلاله، أو يحاول أن يجعل النص يفصح عنه، بمعنى آخر أن أي عملية تأويلية مرتبطة بمبادئ مسبقة ليست من النص هي المسئولة عن عملية التأويل.
ذلك تكمن أهمية وعي علمي يوجِّه عملية التأويل، وإذا كان هذا الوعي لم يوجد في التراث؛ لوجود القوى التي أحكمت النظرة الأيدلوجية للنص، والتي تريد المحافظة على شكل الأوضاع الاجتماعية المتردية، ولم تجدِ محاولة الإصلاحيين الذين استندوا على التراث نفسه بطريقة أيدلوجية بمحاولة قراءته قراءة تنويرية (التجديد على أساس أيدلوجي دون استناد إلى وعي علمي بالتراث -ظروفه الثقافية التاريخية- لا يقل في خطورته عن التقليد).
فالفكر الرجعي التثبيتي يستند إلى تاريخ طويل من سيطرته على التراث ذاته، لذلك التأويل للنص الديني لا يؤمن بقراءة أحادية؛ لأن النص ساهمت في كتابته عوامل غير نصية لا تتمظهر بطريقة نصية.
الخطاب الديني المعاصر
في استقراء لحالة الوعي الإسلامي واللبنات الأولى التي أرست سلطة التراث الشمولية، يقرر أبو زيد أن التدشين الأول لها كان في زمن الفقيه الشافعي حينما أدخل السنة في دوائر التشريع، وهو ما تلقفها الأشعري ليصنع منها نظرية عقدية تنكر علاقات السببية في الطبيعة والواقع الإنساني سار بها أبو حامد الغزالي ليحارب فيها العقل والفلسفة، وتصبح فيها المعرفة غنوصية تأتي وهبًا إلى الفئة المصطفاة من الله.
لا خلاف أن الإسلام عليه أن يكون جزءًا من مشروع النهضة، ولكن عن أي إسلام نتحدث؟ أهو الإسلام النفعي الأيدلوجي كما يقرؤه النفعيون والمتطرفون وأصحاب المصالح، أم هو الإسلام الخالي من الأسطورة، والباعث على خطاب العدل والحرية والنهوض.
من التناقض داخل الفكر الديني اعتباره كلام المسيح بشريًّا، ولا يرتقي أن يكون مقدسًا أزليًّا كنصوص القرآن، مع أنه كان بالمثل كلمة (ألقاها إلى مريم وروح منه)، والوسيط في الحالتين هو الملك جبريل الذي تمثَّل لمريم (بشرًا سويا)، وكان يتمثَّل للنبي محمد في صورة أعرابي، وفي الحالتين يمكن أن يقال: إن كلام الله تجسَّد في شكل ملموس في كلتا الحالتين، في المسيحية بمخلوق بشري هو المسيح، وفي الإسلام نصًّا لغويًّا في لغة بشرية هي اللغة العربية، وفي كلتا الحالتين تأنسن الإلهي. وإذا كان التوهم قد أدى إلى عبادة ابن الإنسان في المسيحية، فإنه قد أدى في العقائد الإسلامية إلى القول بقدم القرآن وأزليته بوصفه صفة قديمة من صفات الذات الإلهية كما سبقت الإشارة، وفي الحالتين يتم نفي الإنسان وتغريبه عن واقعه لا لحساب الإلهي والمطلق كما يبدو على السطح، بل لحساب الطبقة التي يتم إحلالها محل المطلق والإلهي.
إن سمات الخطاب الديني وبينيته الجدلية ترتكز على:
1 -التوحيد بين الفكر والدين، وإلغاء المسافة بين الذات والموضوع.
يعيب الخطاب الديني المعاصر على الكنيسة في العصور الوسطى دخولها منطقة الحديث باسم الله، ويتجاهل أنه بقطعيته برؤيته الدينية هو يقف معهم نفس الموقف.
إن استخدام هذه الآلية من قبل الخطاب الديني المعاصر، وحديثهم عن الإسلام بـ(ألف ولام) يؤدي بهم إلى تجاهل حركة التاريخ، وتغير المجتمعات التي تؤثر على بنية الأفكار، وأن هذا المعنى هو واحد وثابت لا يفهمه إلا رجال العلم الصالحون المبرأون من الأهواء والتحيزات الإنسانية الطبيعية.
وهكذا ينتهي الخطاب إلى الوصول إلى كهنوت يحتفظ بأحقية التحدث باسم الدين، ويندفع إلى حد الإصرار إلى الاستقبال الشفاهي من قبل العلماء مباشرة.
2 – تفسير الظواهر كلها وردها إلى مبدأ أو علة أولى، تستوي في ذلك الظواهر الاجتماعية والطبيعية. حيث يرى أبو زيد أن الخطاب الديني المعاصر يقوم بتفسير كل الظواهر، الطبيعية والاجتماعية، بردها جميعًا إلى المبدأ الأول والعلة الأولى، إنه يقوم بإحلال (الله) في الواقع العيني المباشر، ويرد إليه كل ما يقع فيه، وفي هذا الإحلال يتم -تلقائيًّا- نفي الإنسان، كما يتم إلغاء القوانين الطبيعية والاجتماعية، ومصادرة أية معرفة لا سند لها من الخطاب الديني، أو من سلطة العلماء، وهذا التصور هو امتداد للأشعرية القديمة، التي تنكر القوانين السببية في الطبيعة والعالم لحساب جبرية شاملة، تمثل غطاءً أيدلوجيًّا للجبرية الاجتماعية والسياسية في الواقع.
3 -الاعتماد على سلطة السلف والتراث، وذلك بعد تحويل النصوص التراثية وهي ثانوية إلى نصوص أولية تتمتع بقداسة تساوي النصوص الأولى، إضافة إلى إهمال البعد التاريخي، واليقين الذهني، والحسم القطعي، ورفض أي خلاف فكري.
من أهم الجوانب التي يتم تجاهلها في إشكالية النص الديني، البعد التاريخي لهذه النصوص، وليس المقصود هنا أسباب النزول، أو علم الناسخ والمنسوخ وغيرها من علوم القرآن، بل هو البعد المتعلق بتاريخية المفاهيم التي تطرحها النصوص من خلال منطوقها، وذلك نتيجة طبيعية لتاريخية اللغة التي صيغت بها النصوص.
ولا خلاف في أن تاريخية اللغة تتضمن اجتماعيتها علاقتها بحال المجتمع، الأمر الذي يؤكد أن للمفاهيم بعدها الاجتماعي الذي يؤدي إهداره إلى إهدار النصوص ذاتها.
إن تجاهل البعد التاريخي لدى الخطاب الديني المعاصر، واختزال كل مشكلة بأن سببها هو البعد عن منهج الله، وإلقاءها في دائرة المطلق والغيبي، والعجز عن حلها والتعامل معها زمنيًّا- يؤدي إلى تأبيد الواقع، وتعميق اغتراب الإنسان فيه.
تأويل النصوص التاريخية
تقرر لنا أن النصوص دينية كانت أم بشرية محكومة بقوانين ثابتة، والمصدر الإلهي للنصوص الدينية لا يخرجها عن هذه القوانين؛ لأنها (تأنسنت) منذ أن تجسدت في اللغة والتاريخ، وتوجهت في منطوقها ومدلولها إلى البشر في واقع تاريخي محدد. إنها محكومة بجدلية الثابت والمتغير، فالنصوص ثابتة في المنطوق متحركة متغيرة في المفهوم، وفي مقابل النصوص تقف القراءة محكومة أيضًا بجدلية الإخفاء والكشف.
ولتحقيق وعي علمي بالتراث، يجب أن تكون هناك جرأة على طرح الأسئلة، ولا يغيب عن البال وجود أطنان من الإجابات الجاهزة في التراث، مراجعة هذه الإجابات يجب أن يرافقها وعي بالنسبية، النسبية الثقافية للمجتمع لا النسبية الذاتية للحقيقة.
إن التعامل مع النصوص وتأويلها -وخصوصًا هنا نصوص التراث- يجب أن ينطلق من زاويتين: الأولى: زاوية التاريخ بالمعنى السوسيولوجي لوضع النصوص في سياقها من أجل اكتشاف دلالتها الأصلية، ويدخل في ذلك السياق التاريخي، وبالطبع السياق اللغوي للنص.
الزاوية الثانية: زاوية السياق الاجتماعي والثقافي الراهن الذي يمثل دافع التوجه إلى تأويل أو إعادة تأويل تلك النصوص، وذلك من أجل التفرقة بين الدلالة الأصلية التاريخية، وبين المغزى الذي يمكن استنباطه من تلك الدلالة.
فالمعنى التاريخي لا يمكن الوصول إليه إلا بالمعرفة الدقيقة لكل من السياق اللغوي الداخلي للنص، والسياق الثقافي الاجتماعي الخارجي، والمغزى وإن كان لا ينفك عن المعنى بل يلامسه وينطلق منه ذو طابع معاصر، بمعنى أنه محصلة لقراءة عصر غير عصر النص، وإذا لم يكن المغزى ملامسًا للمعنى ومنطلقًا من آفاقه تدخل القراءة داخل دائرة التلوين، والمعنى ذو صفة ثبات نسبي، والمغزى ذو طابع متحرك مع تغير آفاق القراءة وإن كانت علاقته بالمعنى تضبط حركته وترشدها.
ليست النصوص الدينية هي نصوص خارجة عن اللغة بأي حال من الأحوال، ومصدرها الإلهي لا يلغي أي معنى من ارتباط اللغة بالزمان والمكان التاريخي والاجتماعي، وأي حديث عن الكلام الإلهي خارج اللغة من شأنه أن يجذبنا -شئنا أم أبينا- إلى دائرة الخرافة والأسطورة.
ولدراسة القرآن في شكله اللغوي يستعين أبو زيد بالأدوات الحديثة التي تتعرض لدراسة النص في سياقه الثقافي والاجتماعي، وسياقه الخارجي بدراسة سياقه التخاطبي، ومن ثم في دراسة السياق الداخلي في علاقات الأجزاء وتركيب الجملة، والعلاقات بين الجمل، وأخيرًا سياق القراءة والتأويل.
يتجلى تأثير السياق الثقافي على النص الديني بتعاطيه مع موجودات ذلك المحيط الثقافي، واستخدامه-لأنه جزء من ذلك السياق- لتعابيره وكلماته.
وعلاقات سياق التخاطب هي التي تحدد نوعية النص من جهة، وتحدد منهجية التفسير والتأويل بين القائل المرسِل، والمتلقي المستقبل، وإذا كان القائل هو محور التركيز تلاشى دور المتلقي إلى حد كبير، وأصبح العمل أشبه ما يكون بترجمة ذاتية، أما إذا كان التركيز على المتلقي -كما هي النصوص التعليمية- أصبحت مهمة النص الإفهام والبيان، والنص القرآني هو أشبه بالنص التعليمي؛ حيث الخطاب هو من أعلى إلى أدنى.
ويتضح تأثير السياق الخارجي على النص بتغير أحوال المخاطبين، وتغير خطاب النص بذلك.
القراءة التي تنفصل عن مستويات السياق السابقة، هي القراءة التي تمثل نموذج القراءة الأيدلوجية النفعية، وإذ إن سياق القراءة يمثل أحد السياقات التي تتم بها القراءة، فإن هذا السياق لا يكتمل إلا داخل منظومة السياق الكلية.
هذا يوضح أن عملية القراءة ليست سياقًا إضافيًّا خارجيًّا على النص، إذ لا تتحقق نصية النص إلا بفعل القراءة ذاته، القارئ ليس كيانًا معزولاً خارج النص، بل هو متعين في كاتب النص الأصلي، وهو أيضًا يكون مرسِلاً ومستقبلاً من خلال قراءته للنص، وتتعدد بذلك قراءات النص بسبب تعدد خلفياتهم الفكرية والأيدلوجية مما يعدد مرجعيات التفسير والتقييم على حد سواء، وتتعدد بتعدد المراحل والحقب التاريخية التي تحدد معرفيًّا منظور القراءة للعصر والمرحلة،
تجاهل مستويات السياق في عملية القراءة
يرى أبو زيد أن القراءات للنص التي لا تأخذ بعين الاعتبار تلك المستويات من السياق تؤثر فكريًّا في تصورنا للنص، وهو ما يظهر من خلال أربع نقاط:
– تحويل النصوص الدينية إلى مرجعية شاملة للحياة، وقراءة تطورات الوعي الإنساني والفكري فيها.
– الكتاب المقدس يمتلك الوصول إلى كل ما وصل وما سيصل إليه الإنسان ماضيًا وحاضرًا ومستقبلاً.
– مصادرة كل إنجازات العقل البشري في مجالات المعرفة، وحصرها واختزالها في نص تمت صياغته منذ أربعة عشر قرنًا مما يعزز سلطة الماضي في العقل المعرفي.
– استخدام الدين وكونه أداة مفعولاً بها من قبل الأيدلوجيا التي تلغي كل مستويات السياق التي تعرضنا لها، والقفز على ذلك لتحقيق المكاسب النفعية، وصبغ الدين بها. فليس المهم ما تقوله النصوص من داخل بنيتها ومستويات سياقها، بل الأهم ما يحتاجه الخطاب ليقوله من خلالها.
إن تجاهل تلك السياقات هو ما دعا إلى إنشاء تلك اللجنة المسئولة عن الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، وإليكم هنا كيف يتم تركيب ذلك الرابط العجيب:
1 – شرعي، وذلك بالتأكد من أننا أمام حقيقة شرعية دل عليها النص من وجوه الدلالة المقبولة شرعًا بغير تكلف ولا تعسف.
2 – علمي، من خلال التأكد من أننا أمام حقيقة علمية أجمع عليها المختصون على أنها قد ارتقت إلى مستوى الحقيقة العلمية، وذلك بالاتصال بالخبراء المختصين بهذا المجال.
3 – وجه الإعجاز، ويتمثل بالربط بين الحقيقة الشرعية التي يتضمنها النص، والحقيقة العلمية التي يشير إليها ربطًا علميًّا دقيقًا لا تكلُّف فيه ولا تعسف.
ويبقى السؤال حاضرًا: كيف استطاع الفكر الديني المعاصر أن يجعل تلك الحقائق في طي النسيان، ويقارب بين آرائه وقدسية الدين، وينسبها إلى نفسه بطريقة غير مباشرة؟
أزمة الخطاب التنويري
يرى أبو زيد أن الخطاب التنويري ظل يدور مع نقيضه السلفي داخل دائرة السجال الأيدلوجي، ولم يتجاوز ذلك إلى تأسيس أفق معرفي جديد، لذلك لم يكن غريبًا أن تكثر حالات الارتداد، فيتحول البعض إلى السلفية مع تقدم السن وميلاد تيارات أكثر جذرية. وبسبب الطبيعة السجالية الأيدلوجية للعلاقة بين التنويريين والسلفيين لم يستطع التنويريون أن ينقطعوا عن السلفيين بإنتاج وعي علمي تاريخي بالنصوص الدينية ذاتها، وظلت الرؤية اللاتاريخية للنصوص الدينية هي الرؤية المسيطرة عند كلا الفريقين على السواء. فإذا كان الفكر الديني يجعل الله قائل النصوص هو محور اهتمامه ونقطة انطلاقه فإننا نجعل المتلقي الإنسان بكل ما يحيط به من واقع اجتماعي تاريخي هو نقطة البدء والمعاد.
إن معضلة الفكر الديني أنه يبدأ من تصورات عقدية مذهبية عن الطبيعة الإلهية والطبيعة الإنسانية، وعلاقة كل منها بالأخرى، ثم يتناول النصوص الدينية جاعلاً إياها تنطق بتلك التصورات والعقائد، وبعبارة أخرى نجد المعنى مفروضًا على النصوص من خارجها، وهو بالضرورة معنى إنساني تاريخي يحاول الفكر الديني دائمًا أن يلبسه لباسًا ميتافزيقيًّا ليضفي عليه طابع الأبدية والسرمدية في آن واحد.
تهمة الردة والمحاكمة
قادت هذه الأفكار الجريئة “أبو زيد” إلى أروقة المحاكم في مصر، تحت تهم :”العداوة الشديدة للقرآن والسنة، الهجوم على الصحابة ونعتهم بصفات لا تليق بهم، الهجوم على القرآن وإنكار مصدره الإلهي. والحديث عن أن وجوده الأزلي القديم في اللوح المحفوظ هو أسطوره، إنكار مبدأ أن الله سبحانه وتعالى هو الخالق لكل شيء، وأنه هو العلة الأولى. الدفاع عن الماركسية والعلمانية، الفكر الغربي، ونفي صفة الإلحاد عنها”.
لتصدر محكمة الاستئناف بتاريخ 14 يونيو 1995م قرارًا بتفريقه بينه وبين زوجته، ونصح بعض المحبين “أبو زيد” بالتقدم إلى المحكمة لينطق الشهادتين، لكنه رفض ذلك معللاً أنه لن يسمح بتأسيس سلطة تبحث في قلوب الناس. وعندما انتقل إلى هولندا ابتدأ بالبسملة بمحاضرته الأولى هناك، وقال: “إن كنتم تحتفلون بي لظنكم أني أنقد الإسلام فأنتم مخطئون، أنا لست خارجًا عن الإسلام، بل هو جزء مني، وأنا أنتمي لتاريخه الحضاري”.
ولم يزل الإسلاميون يكتبون عن نصر أبو زيد إلى يومنا المعاصر على اعتبار أن أعماله هي هجوم على ثوابت الإسلام، وهو ما قاله فهمي هويدي: في (أن التأويل الذي يتحدث عنه نصر هو في جوهره عبث بالنصوص وتعطيل لها).
توفي أبو زيد في 5 يوليو 2010، ليترك خلفه إرثًا كبيرًا لا يزال العقل العربي تتلبسه الريبة في الاقتراب منه، ومحاولة فهمه وقراءته.
_______
*باحث سعودي/مجلة المجلة السعودية